تقرير: كيف تموِّل مليشيات الدعم السريع نفسها؟

كشف قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي عن تمويل قوات الدعم السريع لنفسها من خلال مشاريع استثمارية منفصلة عن جهاز الدولة

مشيرا إلى إنشائها شركة لتعدين عن الذهب في جبل عامر اضافة لشركة أخرى بالشراكة مع اسرة الكوارته الشهيرة.

وقال حميدتي في مقابلته المثيرة للجدل التي أوقف بسببها برنامج حال البلد الذي بثته قناة سودانية 24 خلال أكتوبر الحالي، أن مليشياته تمتلك أيضا مشاريع استثمارية أخرى لم يكشف عنها.

ويرى مراقبون ان قوات حميدتي استطاعت تنويع مصادر دخلها عقب انخراطها في حرب اليمن وحصول أفرادها على الأموال بصورة مباشرة ونقدا دون المرور بوزارة الدفاع أو القوات المسلحة أو وزارة المالية، الأمر الذي يضفي حالة من الاستقلالية لقوات الدعم السريع بعيداً عن مؤسسة وزارة الدفاع حسبما يقتضي الوضع الدستوري للبلاد. ومع تبعية الدعم السريع المباشرة لرئاسة الجمهورية يتضح أنها تعمل تحت إمرة الرئيس مباشرة دون إشراف من أي جهة حكومية أخرى.

ورغم أنه من غير المعلوم تماما الحجم الكامل للميزانيات السنوية للدعم السريع الذي يشمل آلاف الجنود والضباط، إلا أن نظرة سريعة لعائدات الذهب المستخرج من منجم جبل عامر، تشي بأن حجم صرف تلك القوات يقدر بملايين الدولارات سنويا.

وبنظرة أخرى تجاه الاحتياجات المالية المتوقعة للصرف على تحركات تلك القوات وانتشارها في معظم مدن البلاد إضافة الى قدراتها التسليحية وصرفها مرتبات أكثر من ثلاثين ألف جندي هي قوام تلك القوات، يبين انها تحتاج لعمليات صرف متزايدة في ظل أوضاع اقتصادية متدهورة في البلاد لا سيما منذ بداية العام الحالي.

تمويل الميليشيات … جرائم على مستوى الإقليم

وتكشف تقارير اقليمية ودولية ان المليشيات في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا عادة ما تتجه إلى البحث عن مصادر غير قانونية لتمويل نفسها وتغطية الميزانيات الضخمة التي تحتاجها من أجل التسليح والمصروفات الأخرى من خلال التجارة غير المشروعة في المخدراتوتهريب الذهب وغيرها من المعادن مثل الماس في عدة دول أفريقية اضافة لتجارة العاج وغسيل الأموال وغيرها من أساليب النهب مثل ما عرف بمصطلح “الغنائم” وهو مصطلح يطلق على عمليات السرقة والنهب التي يقومون بها ضد المواطنين في المدن والقري التي تدخلها أو من خلال عمليات الخطف وابتزاز الضحايا، اضافة للاتجار في البشر والارتزاق وبيع الآثار وفرض الضرائب أحيانا. وتغيب الايدلوجيا عند المليشيات على اختلاف منطلقاتها الفكرية عند البحث عن مصادر التمويل، إذ تذهب حتى الجماعات الإسلامية المتطرفة في الشرق الأوسط إلي تمويل نفسها عن طريق تجار المخدرات والتهريب والارتزاق وغيرها من الأساليب الخارجة عن القانون و مهددة للسلم والأمن الإقليميين.

وفي أفريقيا قادة المليشيات حروبا دموية من أجل الصراع حول مصادر التمويل لا سيما فيما عرف بحرب أو لعنة “الألماس” في عدة دول أفريقية.

وتقول منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تقرير لها بعنوان “الألماس الدموي” صدر في مايو هذا العام أن الملايين قتلوا ونهبوا وأجبروا على العمالة وعذبوا بسبب الصراعات بين الميليشيات المسلحة والحكومات من أجل الحصول على الالماس.

وتقول التقرير إن تلك الحرب أدت لخسائر بشرية عالية جدا “ان كنت في سيراليون فهناك 300 ألف قتيل، و2.5 مليون نازح، و20 ألفًا تم بتر أحد أطرافهم. وإن كنت في الكونغو فسترى أمامك 6 ملايين قتيل لنفس السبب. أو كنت في أنجولا فهنالك نصف مليون قتلوا، فقد 100 ألف مواطن ذراعًا أو اثنتين. أو حتى كنت في ساحل العاج، أو جمهورية أفريقيا الوسطى، أو ليبيريا فنفس السيناريو يحدث هناك بحذافيره”.

ويقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة الامريكية حامد التجاني في حديث ل (عاين) ان مليشيا الدعم السريع لا تختلف تماما عن المليشيات في افريقيا والشرق الاوسط وتقوم بتمويل نفسها بأنشطة عديدة خارجة عن القانون مثل تجارة المخدرات والتهريب والاتجار بالبشر والنهب وغيره من الجرائم. مبينا ان قوات الدعم السريع تشرف على تجارة المخدرات التي تمتد من السودان إلى ليبيا ودول أخرى علاوة على انتزاع الأراضي الزراعية الخصبة من ملاكها الأصليين في دارفور واستغلالها في أنشطة زراعية واستثمارية مثل منطقة الزرقة بشمال دارفور. ويمضي إلى القول إن الدعم السريع بخلاف ما يشاع عن قيامه بمحاربة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر فإن قياداته متورطة أيضا في تجارة البشر عبر الحدود مع ليبيا.

“وكذلك هناك قضية أخرى هامة وهي الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر اذ أصبحوا فيها كوسطاء يتلقون الاموال، لانهم يقومون بتأمين الطرق التي تتدفق منها الهجرة غير الشرعية من منطقة القرن الأفريقي عبر السودان إلى ليبيا وأوربا. قبل أن يضيف “هذه التجارة تعد أحد العوامل الرئيسية التي تساهم في تمويل مليشيات الدعم السريع”. مضيفا “في بعض المناطق يستغلون عربات الحكومة في عمليات تهريب المهاجرين غير الشرعيين”.
شركة الجنيد القابضة

ويثير تمويل مليشيات الدعم السريع نفسها عن طريق عائدات الذهب في جبل عامر جدلا واسعا في أوساط المهتمين بقضايا السلام في السودان محليا ودوليا.

واستطاع حميدتي انتزاع السيطرة علي منجم جبل عامر بعد صراع مرير مع غريمه -قائد مليشيات الجنجويد- موسى هلال انتهى بهزيمة الأخير وإلقاء القبض عليه وتسليمه للخرطوم ليقدم لمحاكمة عسكرية مستمرة حتى الآن. وأكد حميدتي في مقابلته التلفزيونية انه يسيطر على جبل عامر ويقوم بعمليات التنقيب فيه، الأمر الذي يشير الى انه يجني أرباحا تقدر بـ 54 مليون دولار سنويا كانت تذهب الى جيب غريمه موسى هلال الذي كان يسيطر على الجبل الغني بالذهب منذ العام 2013.

وكانت روسيا قد حظرت في العام 2016 نشر تقرير أممي عن تمويل الحرب في السودان لا سيما إقليم دارفور من خلال الذهب المستخرج من جبل عامر وغيرها من المناطق يذهب معظمه إلى الميليشيات الموالية للحكومة.

لكن مجلة فورين بوليسي الامريكية كشفت عن جوانب من التقرير الذي أعدته لجنة تتبع لمجلس الأمن الدولي واعترضت عليه روسيا كصديقة للخرطوم ووصفته بعدم الدقة. وأوضحت المجلة ان القوات الموالية للحكومة بخلاف موسى هلال -لم تحددها- جنت أرباحا تقدر بأكثر من 123 مليون دولار من التجارة في الذهب خلال الأعوام القليلة الماضية. وبحسب فورين بوليسي فإن قيمة الذهب المهرب خلال الفترة 2010-2014 تقدر بحوالي 4.5 مليار دولار بواقع أكثر من مليار دولار في العالم.

وكشفت كذلك عن تورط بنك السودان المركزي في صفقات تجارية مع زعيم الجنجويد المسجون موسى هلال – قبل القبض عليه- تقدر بملايين الدولارات، شملت تسهيلات تتعلق بحركة هلال نفسه إضافة الى مساعدته في تصدير الذهب إلى خارج السودان.

وكانت منظمات حقوق إنسان غربية كشفت عن تصدير معظم الذهب السوداني الى دولة الامارات محذرا من تمويل الحروب والمليشيات في السودان عن طريق هذه العائدات، وطالبت دولة الإمارات العربية المتحدة أن تلتزم بحظر واردات الذهب القادمة من السودان، .

وارتفع حجم الفساد المصاحب لارتفاع صادرات الذهب في السودان إذ لم تكن تمثل أكثر من %1 حتى العام 2008 لكنها ارتفعت إلى30% في العام 2014 لتعويض فقدان عائدات البترول عقب انفصال جنوب السودان.

وفي السياق ذاته يقول أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأمريكية حامد التيجاني ان حميدتي يمتلك عدة شركات للتنقيب عن الذهب في جبل عامر وفي جنوب دارفور تعمل تحت اسم شركة قابضة تحمل اسم شركة (الجنيد) وهو اسم عائلة حميدتي الامر الذي يشير لامتلاكه لمعظم أسهمها بالشراكة مع نافذين في الحزب الحاكم لتمويل أنشطته العسكرية.

ميزانية ضخمة

ويقول الخبير في مجال حقوق الانسان سليمان بلدو في مقابلة حصرية مع (عاين) أن الميزانيات الضخمة المرصودة لتمويل قوات الدعم السريع، أصبحت جاذبة للآلاف من الشباب العاطلين عن العمل الذين شرعوا في الانضمام للدعم السريع بصورة جماعية. ويعتقد بلدو بأن القوات المسلحة هي المسؤولة عن عمليات التمويل والمهمات وشئون الأفراد إلى جانب الجوانب الادارية التي تخص قوات الدعم السريع.

“أصبح التجنيد في قوات الدعم السريع، دافع لعدد كبير من الشباب العاطلين للذهاب، وبذلك ارتفع نسبة توسعها بشكل كبير، أن عمليات الجوانب الادارية والتموين والمهمات، وشؤون الأفراد كلها تقوم بها القوات المسلحة، لأن الدعم السريع ليست لها تلك الخبرة الادارية، كأن تتصرف بذاتها، رغم ضخامتها، ولهم وحدات مدرعة، لكن في حقيقة الأمر، أن القوات المسلحة هي التي تدير قوات الدعم السريع”.

وتكشف المجموعة السودانية للديمقراطية أولا في تقريرها بعنوان التدخلات السياسية في تعدين و تجارة الذهب في السودان: تحديات الفساد وانعدام الشفافية، عن تقاسم عائدات الذهب بجبل عامر بين معظم التكوينات العسكرية والمليشيات التي تتبع للنظام من أجل تمويل نفسها، مشيرة إلى ان كافة مليشيات الدعم السريع وحرس الحدود (سابقا) وقوات الاحتياطي المركزي المعروفة بـ(ابوطيرة) اضافة لمليشيات الدفاع الشعبي بالاضافة لعدد من قيادات الحزب الحاكم. ويحذر التقرير من تجدد اندلاع الحرب بصوره اوسع في اقليم دارفور بسبب تصاعد النزاعات بين القوات الحكومية بناءاً على صراع المصالح المرتبط بالسيطرة على مناجم الذهب لاسيما في جبل عامر.

وفي السياق نفسه يقول أستاذ الاقتصاد بالجامعة الامريكية بالقاهرة حامد التجاني، ان مليشيا الدعم السريع بقيادة حميدتي راكمت أموالا ضخمة من خلال مصادرها المتعددة لتمويل نفسها في ظل غياب المحاسبة والمراجعة المالية من قبل الدولة.
حرب اليمن

ويرى مراقبون ان الحوجة الاقتصادية الماسة للمال عقب تعقد الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ 2011، تعد أحد الأسباب الأساسية لمشاركة السودان في عاصفة الحزم إلى جانب السعودية ضد الحوثيين في اليمن عقب قفزه من المعسكر الايراني وقطع العلاقات مع طهران والانضمام للمعسكر الآخر التابع للرياض وأبوظبي.

لكن المحلل السياسي المهتم بشئون الحرب في دارفور محمد بدوي، يرى أن الخرطوم لم تستفد ماليا من مشاركتها في حرب اليمن، كاشفا بأن الأموال التي يتلقاها النظام جراء المشاركة في الحرب تذهب مباشرة لتمويل قوات الدعم السريع ولا تمر عبر مؤسسات الدولة المعروفة.

“حتى حرب اليمن السودان لم يحصل فيها على سنت واحد، كل الأمر يتم عن طريق تعاقدات مباشرة من الجنينة الناس بتمشي تتدرب في السعودية بعقود لمدة 4 سنوات ، السودان لم يحصل على شيء”.
دولة داخل الدولة

ويرى الخبير الاقتصادي حامد التجاني أن قوات الدعم السريع ذهبت بعيدا في الخروج عن سلطة الدولة وأصبحت دولة داخل الدولة محذرا من انفلات كامل للأوضاع اذا استمر الحال كما هو عليه وترك الحبل على الغارب لهذه المليشيات. مشيرا الى ان قوات الدعم السريع أصبحت تمارس كل مهام الدولة من جمع الضرائب وفرض الجمارك على العربات في المناطق الحدودية بين دارفور وليبيا ويستغلون نفوذهم دون أي مراقبة أو مراجعة من الدولة.

ويوضح التجاني ان الدعم السريع لا يخضع للمحاسبة المالية والادارية ولا للمراجعة العامة أسوة بمؤسسات الدولة الأخري كما يحدث في كافة دول العالم. مبينا ان الدعم السريع أصبح لها علاقات خارجية مع دول أخرى مثل السعودية دون المرور عبر بوابة المؤسسات الحكومية كما هو معروف. “حميدتي أسس علاقات خارجية كي يتسول لبعض الدول، ويستجدي المال”.

ويخلص التجاني الى ان تدهور الاوضاع الامنية والسياسية والاقتصادية في البلاد في ظل الصراعات الداخلية المرتبطة بانتخابات 2020 يمكن أن يعطي الدعم السريع المزيد من النفوذ الاقتصادي والعسكري ويحول الدولة إلى دولة ميليشيات بالكامل تقبض فيها المليشيات على زمام الأمور وتحول السودان من مرحلة الفشل إلى مرحلة الانهيار.

الراكوبة

Exit mobile version