أصول سكان السودان..من هم سكان السودان قبل ظهور المسميات القبلية الحالية ؟!

د أحمد الياس حسين:

من هم أسلاف البجة؟ المِجا – البليم – البِجا 1
التعرف على أصول السكان والوعي بالذات مسألة هامة وملحة خاصة في الظروف التي تعيشها بلادنا الآن، والتعرف على الأصول والوعى بالذات مسألة صعبة وشاقة تتطلب الكثير من الوقت والجهد وتضافر الجهود والمشاركة الجادة للآقلام المتخصصة وغير المتخصصة. وكنت قد قمت بمحاولة من قبل للتعرف على سكان السودان قبل دخول الاسلام والعرب إلى افريقيا، وتم نشر ذلك في كتاب بعنوان «السودان: الوعي بالذات وتأصيل الهوية»، نشر الكتاب ووزع في نطاق محدود وآمل أن يرى النور في نشرة عامة. وتهدف الدراسة الحالية إلى التعرف على سكان السودان منذ وصول العرب والاسلام إلى افريقيا وحتى قيام الممالك الاسلامية في السودان في القرن الخامس عشر الميلادي، أي قبل ظهور المسميات القبلية الحالية. وستعتمد الدراسة بدرجة أساسية على مصادر التراث العربي ألى جانب ما يتوفر من المصادر الأخرى مثل المصادر المصرية القديمة واليونانية والرومانية والمصادر الآثارية السودانية، وسوف لن تستخدم الدراسة في هذه المرحلة التراث الشفاهى والمخطوط الذي تناول أصول القبائل في السودان لأن الفترة التي تتناولها الدراسة سابقة لظهور التراث.
وهذا الجزء من الدراسة يهتم بمنطقة شرق السودان ويبدأ بمحاولة التعرف علي أسلاف قبائل البجة الحالية، ثم التعريف بأرض البجة ثم تتناول الدراسة قبائل البجة ومدنهم قبل القرن الخامس عشر الميلادى. وبالطبع فإن ذلك ليس بالأمر السهل دراسة ذلك نسبة لشح وندرة المعلومات والمصادر خاصة فيما يتعلق بالمناطق الجنوبية من أراضي البجة وسكانها. ويتوفر قدر معقول من المعلومات عن السكان على مناطق النيل والأجزاء الشمالية من بلاد البجة في المصادر القديمة يُمَكِّن من محاولة التعرف على أسلاف البجة الذين سكنوا على ساحل البحر الأحمر وعلى شواطئ النيل والمنطقة الواقعة بينهما.
ولم تكن المنطقة الصحراوية الواقعة بين النيل والبحر الأحمر بهذا الجفاف الذي يسودها اليوم، بل كانت إلى وقت قريب من بداية الحضارة المصرية تتمتع بقدر وافر من المطروالغطاء النباتي مكن السكان من القيام بدورهم الحضاري في المنطقة. والشعب الذي سكن هذه المنطقة ينتمي إلي السلالة الأصيلة التي كونت سكان وادي النيل منذ فجر تاريخه. وهنالك بعض الآراء التي ربطت أسلاف أولئك السكان بهجرات أتت من شبه الجزيرة العربية في الألف الرابع قبل الميلاد. وقد ناقشنا ذلك في الفصل الأول من كتاب الوعي بالذات وتأصيل الهوية وخلصنا إلى أن كل الدلائل التاريخية والآثارية وضحت أن سكان الصحارى الواقعة شرقي النيل ينتمون إلى السلالة التي كونت السكان الأصليين للمناطق الوسطى والشمالية لنهر النيل ولم يأتوا من الخارج.
ومن المعروف في التاريخ أن سكان مناطق البجة الحالية عرفوا عند قدماء المصريين واليونانيين والرومان بأسماء متعددة، سنتناول ثلاثة فقط من تلك الأسماء التي اشتهرت في تلك الفترة والتي أطلقت على المجموعة المعروفة اليوم باسم البجة وهذه الأسماء هي: المِجَباري والتُرُجلُدايت والبليميين.
المِجَباري
المِجَباري هو الاسم الذي أطلقته المصادر القديمة على السكان الأصليين القدماء على الساحل الغربي للبحر الأحمروالذين تجولوا فى المناطق الشمالية ما بين البحر الأحمر ونهرالنيل. وقد امتدت مناطق استيطان هذه الفئة من مواطن البجة الحالية في السودان وحتى المنطقة الواقعة بين الأقصر والبحر الأحمر في الحدود المصرية الحالية شمالاً.
وقد عرف المِجَباري قديما بالمازوي والمِجاي والمدجاي والمِجو والمِجا (Medjo و Medju و Medjay) وسنشير اليهم فيما يلي باسم المِجا لأنه أولاً الاسم الأقدم، ولأنه ثانياً الاسم الأخف في النطق والأقرب إلى الاسم الحالى «البجة».
ولا خلاف بين المؤرخين أن المِجا الذي ورد ذكرهم في الآثار المصرية القديمة منذ الألف الثالث قبل الميلاد والذين عاشوا في الصحراء الواقعة إلي الشرق من إقليم واوات (العتباي) هم أسلاف البجة الحاليين. وقد اشتغل الكثير من المِجا في المهن المتصلة بالتعدين فقاموا بتأمين تلك الأنشطة بالحراسة والخفارة وتولوا مهمة الأتصال وربط مناطق التعدين بالمدن المطلة غلى النيل.
وقد ساهم المجا بدور فاعل في النشاط التجاري عبر البحر الأحمر ونهر النيل، كما وضحت المصادر القديمة مساهمتهم في النشاط الدبلوماسي مع القوى التي تعاقبت على حكم مصر في ذلك الوقت. وظل اسم المِجا عَلماً على سكان الصحراء الشرقية للنيل حتى القرون الأخيرة السابقة للميلاد حيث بدأ ظهور اسمي التُرُجلُدايت والبليميين. فقد ذكر سترابو الذي نقل عن اراتوستين (Eratosthenes) في القرن الثالث قبل الميلاد أنه: «على جانبي الجزء الأسفل [الشمالي] من مروي على طول النيل في اتجاه البحر الأحمر يسكن المِجَباريون والبليميون، وهم تابعين للاثيوبين [يقصد المرويين] ويجاورون المصريين. وعلى ساحل البحر يسكن التُرُجلُدايت.» وهكذا أصبح سكان منطقة البجا يعرفون بثلاث أسماء: المِجا والتُرُجلُدايت والبليميون.
وسيتضح فيما يلي أن البليمين كانوا يتركزون على مناطق النيل والمِجا يتركزون في المناطق الواقعة بين النيل والبحر الأحمر بجوار التُرُجلُدايت. وعند حديثه عن التُرُجلُدايت قارن سترابو بين اسلحتهم وأسلحة المِجا، فذكر أن عِصي المِجا تنتهي بمقابض من حديد وأنهم يستخدمون في قتالهم الحراب والدرق المصنوع من الجلد غير المدبوغ، بينما يستخدم الآخرون الحراب والسهم والنشاب.
التُرُجلُدايت
أصل كلمة التُرُجلُدايت Troglodyte يوناني استخدمها الكتاب اليونانيين لوصف سكان الكهوف في كثير من بقاع العالم كما في حوض الدانوب والقوقاز وافريقيا. وفي افريقيا ذكرت المصادر الكلاسيكية وجود التُرُجلُدايت في تونس وليبيا وأعالي النيل والبحر الأحمر
وقد جعلت دائرة المعارف encyclopedia.or تُرُجلُدايت البحرالأحمر من أشهر هذه المجموعات، ربما لنشاطهم السياسي والتجاري على سواحل البحر الأحمر السودانية. فقد أطلق بليني على ساحل البحر الأحمر «ساحل التُرُجلُدايت» وذكر إنهم كانوا نشطين في تجارة اللبان في مواني البحر الأحمر
وكما ذكرنا فإن سكان منطقة ما بين النيل والبحر الأحمر قد عرفوا في المصادر اليونانية والرومانية بالتُرُجلُدايت والِمَجا والبليميون. وقد استخدمت هذه الأسماء أحيانا للاشارة إلى سكان منطقة بعينها في بلاد البجة الحالية وأحيانا استخدمت كمترادفات للدلالة على سكان كل المنطقة، ويرى الباحثون ? مثل محمد ابراهيم بكر: تاريخ السودان القديم ص 46و 81 وماكمايكل: تاريخ العرب في السودان ج 1 ص 38 – أن هذه الجماعات هي نفسها التي أطلقت عليها المصادر العربية فيما بعد اسم البجة
ومن أقدم النصوص عن التُرُجلُدايت ما جاء في الآثار المصرية القديمة التي ترجع إلى الاسرة السادسة والعشرين في عصر الفرعون نكاو الثاني Necho II (610-595 ق.م.) الذي كان شديد الاهتمام بتجارة البحر الأحمر لدرجة فكر فيها بحفر قناة تربط النيل بالبحر الأحمر وشرع بالفعل في تنفيذ الفكرة.
وورد في النصوص القديمة والتي جمعها Eide وآخرون ونشرتها جامعة بيرقن عن منطقة النوبة بين القرن الثامن قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي أن الملك نكاو الثاني أرسل حملة نيلية ضد التُرُجلُدايت. ويبدو أن التُرُجلُدايت كانوا منتشرين على مناطق صعيد مصر الأعلى بين النيل والبحر الأحمر، وربما كانت تلك الحملة ضد التُرُجلُدايت على إحدى الطرق الرابطة بين النيل ? من منطقة الأقصر – والبحر الأحمر أو قد تكون الحملة مرسلة مباشرة من الصعيد إلى سواحل البحر الأحمر.
وقد ساهم التُرُجلُدايت في النشاط التجاري على سواحل البحر الأحمر. وتشير الوثائق إلى علاقاتهم المباشرة مع دولة البطالمة بمصر، فقد ذكر بلوتارخ «أن الملكة كليوباترة السابعة لم تكن تحتاج إلى مترجمين عندما يخاطبها مناديب الشعوب المجاورة لمملكتها مثل مناديب الاثيوبيين والتُرُجلُدايت واليهود والسوريين والميديين.»
ويدل ذلك على أن التُرُجلُدايت كانت لهم كيانات سياسية متطورة مكنتهم من تنظيم نشاطهم التجاري وعلاقاتهم الخارجية، ورغم أنه لم يرد ذكر لمملكة ترجلوداتية في الصحراء الشرقية أوالبحر الأحمر في المصادر اليونانية الرومانية ? كما حدث للبلبميين – إلا أن قيام مثل ذلك الكيان السياسي يعتبر أمراً لا بد منه خاصة إذا كانت للتروجلودايت علاقات خارجية مثل تلك التي كانت مع البطالمة.
البليميون
البليميون هو الاسم الذي أطلقته الآثار الفرعونية والكوشية والمصادر اليونانية والرومانية على سكان منطقة النيل الواقعة جنوبي أسوان. وقد دلت نتائج الأبحاث الجديدة مثل أعمال كلايدي ونترز عالم اللغة المروية المشهور والذي نشر نص نقش كلابشة المروي وهانس بَرنارد الذي اعتمد على الآثار والوثائق التي جمعت عن منطقة شمال السودان ما بين القرنين الثامن قبل الميلاد وحتى القرن السادس الميلادي ونشرتها جامعة بيرقن ووثائق الجبلين المنشورة في كتاب مصطفى محمد مسعد «الاسلام والنوبة في العصور الوسطى» في الملحق رقم 3 وغيرها من المصادر الكلاسيكية التي أرجعت وجود البليميين إلى القرون السابقة للميلاد أمدتنا ببعض المعلومات عنهم حتى القرن السادس الميلادي.
وقد ربط الباحثون بين البليميين والمِجا مما يرجح أنهم كانو عائشين معا في نفس المنطقة أو ربما كان وجود البليميين أكثر تركيزاً على منطقة النيل والمِجا تجاه البحر الآحمر. فالآثار وضحت أن البليميين دخلوا منطقة النيل جنوبي أسوان في القرن السابع ق.م.، وأن اسمهم بدأ يتردد منذ القرن السادس قبل الميلاد في الاثار المصرية والكوشية.
وتوضح السجلات المروية أن البليميين قد استقروا منذ القرن الخامس قبل الميلاد على طول المنطقة الواقعة من اسوان حتى منطقة دنقلا في خلال القرون التي سبقت احتلال الرومان مصر في نهاية القرن الأول قبل الميلاد. وذكرت المصادر اليونانية السابقة للميلاد (انظر Mac Michael, A History of the Arabs In the Sudan vol.1 p 3) أن المناطق الواقعة حول أسوان هي مواطن البليميين الرئيسة، ويمتدون جنوبا وشرقا نحو حدود اكسوم وميناء أدولس على البحر الأحمر. وهذا الوصف يتطابق مع مواطن البجة الحالية.
فالمصادر القديمة – السابقة للميلاد- تناولت كل سكان المنطقة المعروفة الآن ببلاد البجة تحت اسم البليميين مما يؤكد أن شعوب هذه المنطقة أُشير إليها في المصادر القديمة مرة تحت اسم البليميين وأخرى تحت اسم المِجا ومرة أخرى تحت اسم التُرُجلُدايت. وقد ذكر ماكمايكل (نفس المكان السابق) أن الكتاب المسيحيين المبكرين أطلقوا اسم البليميين على البجة.
ويبدو أن استقرار البليميين في القرون السابقة للميلاد قد ازداد في منطقة جنوبي اسوان، حتى شيد ملك مروي أركاماني (206-186 ق.م.) معبدا في كلابشة لإلاههم مندوليس. ويعتقد كثير من المؤرخين «أن البليميين كانوا السكان الأساسيين الذين عاشوا في الجزء الأكبر من النوبة السفلى [جنوب اسوان] في القرن الميلادي الأول.» ولم يكن استقرار وامتزاج البليميين بالسكان السابقين في جنوبي أسوان فقط، بل توضح الآثار الراجعة إلى فترة ما قبل الميلاد أن استقرارهم امتد شمالاً في منطقة طيبة في صعيد مصر.
لم يتردد ذكر البليميين كثيراً في مصادر القرنين الميلاديين الأول والثاني كما يتضح من النصوص التي جمعها بَرنارد والتي أشرنا إليها سابقاً.، بعكس القرون التالية – من الثالث وحتى السادس الميلادي – والتي شهدت لهم حضوراً دائما ومؤثراً على الأحداث في مصر والسودان. فقد كانت دولة مروي ? التي كان البليميون جزءاً منها – على رأس الأحداث فى المنطقة، وقادت الصراع مع الرومان. فقد احتلت مملكة مروي المناطق الشمالية بعد نهاية حكم البطالمة، وهي المناطق التي شرع الرومان منذ دخولهم مصر في التوسع عليها.
مملكة البليميين
ازداد عدد البليميين منذ القرن الأول الميلادي كما ذكر المؤرخون. ويبدو أنهم أصبحوا القوة الرئيسة بين الزعامات المحلية وتشربوا بالثقافة المروية. ويرى البعض أن فخار منتصف القرن الثالث الميلادي في كلابشة قد يكون من عمل البليميين الذين تثقفوا وكتبوا نقوشاً مروية واغريقية عثر عليها في معبد كلابشة. وهكذا تهيأ البليميون منذ منتصف القرن الثالث الميلادي للقيام بدورهم القيادي في المنطقة.
نقل مصطفى محمد مسعد عن مصادره في كتابه (الاسلام والنوبة في العصور الوسطى ص 29) أن العلاقات ساءت بين البليميين والرومان، وبدأ البليميون هجومهم على الرومان عام 250م. وفي نفس الوقت ورد في نص عثر عليه في جزيرة فيلة بجوار أسوان أن الملك المروي تقردماني Teqeridamani 246-266م أرسل سفارة إلى الأمبراطور الروماني حاملاً إليه الهدايا. ويذكر ترمنجهام في كتابه (Islam in the Sudan ص (44 أن تلك السفارة كانت بقيادة أمير بليمي يدعى Pa-smun Ibn Paesi ويصف الأمير نفسه بأنه السفير العظيم إلى روما. والبحث عن سبب السفارة أو سبب إعتداءات البليميين على الرومان يتطلب المزيد من البحث، ولكن لا يبدو وجيهاً أن يكون سبب السفارة ?كما يرى البعض – طلب مملكة مروي المساعدة من الرومان الذين أثبتت الوثائق اضطراب الأوضاع في مناطق حدودهم مع مروي.
وتحالف البليميون مع زنوبيا (الزباء) ملكة (تدمر) في سوريا عندما هاجمت الرومان في مصر. وتحرك الرومان سريعا فهزموا قوات زنوبيا وقضوا على الثوار في طيبة وهزموا البليميين وأجلوهم إلى ما وراء أسوان. غير أن البليميين عاودوا واحتلوا بين مدينتي Coptos & Ptolemais في منطقة طيبة في صعيد مصر.
وبعد نحو عقدين من السفارة المروية البليمية للبيزنطيين انهارت مملكة مروي في منتصف القرن الرابع الميلادي، و يبدو أن مولد مملكة البليميين المستقلة قد بدأ بذلك الحدث. فكما رأينا من تسلسل الأحداث منذ القرن الثالث الميلادي أصبح البلبميون هم القوة المهيمنة علي حدود مروي الشمالية، وكان من الطبيعي أن يكونوا ورثتها في الحكم على الأقل في مناطق نفوذهم في الشمال. ولم يصبح البليميون – كما ذكر بعض المؤرخين – جنرالات النهر فقط بل اعترف بهم كحكام يديرون شؤون بلادهم بحرية تامة.
ويبدو أن البليميين قد بدأوا بسط نفوذهم في المنطقة حتى سواحل البحر الأحمر، لأن إحدي الوثائق الرومانية تحدثت عن تعرض بعض القواعد الرومانية على البحر الأحمرلغارة من سفن البليميين عام 378 م. وربما بدأ إسم البليميين ينتشر بعد امتداد نفوذهم شرقاً فأطلق الرومان إسمهم على سكان منطقة التُرُجلُدايت. وقد يؤيد ذلك أيضا ما تردد في المصادر عن ترادف استخدام البيليميين والمِجا والتُرُجلُدايت.
وقام البليميون في عام 429 م بغارات على منطقة طيبة والواحة الخارجة التي كانت مركزاً رومانياً يطل على حدودهم الصحراوية، ونهبوا الواحة وأسروا بعض سكانها ومن بينهم نسطورس القس المسيحي المشهور الذي كان الرومان قد نفوه هنالك. ولكن أطلق البليميون سراح القس بعد مفاوضات مع قبيلة mazici الأمازيغ الصحراية (ربما طوارق اليوم المعروفين باسم Imashagh). وكانت هذه القبيلة ? كما ذكر مصطفى محمد مسعد ص 7- تتجول في الصحراء حتى المنطقة الواقعة بين أسوان والواحة الخارجة.
وكان انتشار المسيحية قد بدأ في مصر في زمن مبكر، لكن القرن الرابع الميلادي شهد تحولاً كبيراً في العالم المسيحي عندما أظهر الامبراطور قنسطنطين الأكبر (313 ? 337) ميله للمسيحية، وانتهى اضطهاد وتعذيب المسيحيين وتمتعت المسيحية برعاية الدولة. وساهمت الاسكندرية ? كأحد أهم المراكز المسيحية ? في نشر تطور الفكر المسيحي المبكر. وكان من أكبر انجازاتها نشر المسيحية في الحبشة في عهد الامبراطور قنسطنطين الأكبر
وكانت المسيحية منذ وقت مبكر قد بدأت تنتشر في صعيد مصر وتحولت الكثير من المعابد إلى كنائس في اقليم طيبة، كما تم إنشاء عدد من الكنائس. وفي القرن الرابع الميلادي أُسست أسقفية في فيلة. كما انتشرت المسيحية في اكسوم شرقاً وفي واحات الصحراء الغربية مثل الواح الخارجة. أما في شمال السودان وشرقه المتاخم للحدود المصرية فقد تأخر انشار المسيحية بالمقارنة إلى انتشارها في اقليم طيبة واكسوم والواحات، ربما يرجع السبب إلى الاضطرابات التي عاشها الإقليم منذ بداية الحكم الروماني لمصر.
وتشير بعض الدلائل على أن الدعوة المسيحية قد بدأت تتسرب إلى مناطق البليميين والنوباديين منذ القرن الرابع، غير أنها لم تنتشر سريعاً فى السودان في القرون المبكرة. ويبدو أن قوة النوباديين قد نمت في المنطقة إلى جانب البليميين وأسس سلكو مملكته منذ عام 530م. إلا أن إحدى الوثائق اليونانية (535-537 م) وضحت أن البليميين والنوباديين كانوا لايزالوان حلفاء. غير أن نشاط البعثات التبشيرية وصلات البيزنطيين بالنوباديين قد حول موقفهم المعادي للوثنية، بينما واصل البليميون سياستهم المعادية للمسيحية. وكان ذلك إيذاناً بنهاية الود والتحالف بين البليميين والنوباديين وبداية الصراع الذي أدى إلى نهاية مملكة البليميين كما تقول المراجع.
وما توفر من معلومات عن البليميين يشير إلى حقيقتين هامتين: الأولي أن البليميين أصبحوا قبل انهيار مروي بوقت طويل سادة المنطقة وجنرالات النهر، وثانيا يؤكد ذلك تطور نظام حكمهم مما يجعل قيام مملكتهم ? تحت ظل المرويين ? أمراً مقبولاً. هذه الدلائل تشير إلى أنه من المقبول جدّاً أن يسعى البليميون إلى وراثة مملكة مروي بعد سقوطها. ويزيد ذلك تأكيداً نقش كلابشة الذي تضمن في موضعين الاشارة إلى كونهم ورثة مروي.
فقد جمع بَرنارد نحو 73 نصا عن البليميين والمِجا والتُرُجلُدايت والبجة ما بين القرن السابع قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي. وبلغ عدد النصوص التي ذَكرت البليميين بالاسم مباشرة أوالتي تضمنت الإشارة اليهم 47 نصاًّ. ويشبر ذلك إلى أن البليميين كانوا القوة المسيطرة في المنطقة وأن اسمهم أصبح أكثر انتشاراً في الوثائق والآثارمن أسماء أبنا عمومتهم المِجا والتُرُجلُدايت، وأصبح علماً عليها في بعض الأحيان. أما اسم البجة فقد اشتهركعلمٍ على كل المجموعات الأخرى منذ القرن السابع الميلادي.
ومن بين السبعة والأربعين نصاّ جاءت سبعة منها قبل القرن الثالث الميلادي. وبلغت النصوص في القرن الثالث ثمانية نصوص، وفي القرنين الرابع والخامس عشرين نصا، وفي القرن السادس اثنتا عشر نصا. ويدل ذلك بوضوح أن البليميين كانوا موجودين في المنطقة منذ القرن السابع قبل الميلاد إلا أن قوتهم برزت منذ القرن الثالث الميلادي، وأصبحوا عنصرا فاعلا في أحداث كل المنطقة الواقعة ما بين الواح الخارجة غربا والبحر الآحمر شرقاً حيث امتدت غاراتهم في القرون التالية حتي أطراف البحر الأحمرالشمالية. أما في الشمال فرغم كون حدودهم في أسوان إلا أن امتداد نفوذهم تعدى ذلك في القرون التالية إلى منطقة طيبة في صعيد مصر.
وقد بلغت نصوص القرنين الثالث والرابع الميلادين عشرين نصاّ الأمر الذي يوضح ازدياد نفوذ البليميين في المنطقة. وقد رجحنا فيما سبق قيام مملكة البليميين المستقلة داخل مملكة مروي في القرن الرابع الميلادي، ولعل ما ورد عن ملوك البليميين يؤيد ذلك. فقد وردت اسماء ستة ملوك بليميين فيما جمعه بَرنارد من نصوص، ثلاث منهم قدرت تواريخ حكمهم في القرن الخامس الميلادي والثلاث الباقين في القرن السادس.
والوثائق الأخرى المرتبطة بالبليميين هي ثلاث وثائق مكتوبة على جلد غزال باللغة اليونانية عثر عليها فلاح مصري في منطقة الجبلين على بعد 25 ميل حنوب مدينة الأقصر. وقد ترجمها إلى الانجليزية كيراون وإمِري، ونقلها إلى العربية وضمنها كملاحق مصطفى محمد مسعد في كتابه الاسلام والنوبة تحت عنوان «الوثائق الدالة على استقرار البليميين في منطقة طيبة»
الوثيقة الأولى جاءت ترجمتها عند الآتي:
«أنا شاراشن ملك البليميين، أكتب إلى أولادي شاراشن وشاراتكور وشاراهيت، أنه طبقاً لأمري هذا قد منحتكم حكم الجزيرة المعروفة باسم تناري، وألا يقف في سبيلكم أحد، وإذا أثار الرومان مشاكل وامتنعوا عن دفع الأتاوة العادية لكم فإنه لا الفيلارك ولا الهيبوتيرانوس يمنعانكم من إرغام الرومان على دفع العطايا العادية عن جزيرتي.»
«شاراشن الملك، تنتكنا: أمير القصر ? شاهد، كتبه سانسانوس في اليوم الرابع والعشرين من شهر …..»
وهنالك وثيقة أخرى ? رقم أربعة – ذكرها بَرناد clause no. 339، وهي عبارة عن أمر ملكي أصدره الملك باراخيا (Barakhia) إلى صوفيا يشير إلى وضعها أو إقامتها في مكان ما، وقد ورد أن هذا الملك خلف الملك خاراخِن – أو شاراشن كما كتبه مسعد – في الحكم.
فنحن أمام أربعة نصوص تتعلق كلها بحكم البليميين منطقة في صعيد مصر. وتسوق هذة الوثائق العديد من الأسئلة مثل: ما هي علاقة البليميين بصعيد مصر أو إقليم طيبة؟ وإلى أى مدى امتد نفوذ البليميين على صعيد مصر؟ هل حكم البليميون مناطق أخرى غير جزيرة تناري ولم يصل إلينا ما يوضح ذلك؟ ومتى حكم البليميون جزيرة تناري؟ وقد حاولنا الاجابة على بعض هذه الاسئلة في كتاب الوعي بالذات، ولكن تظل مثل هذه الأسئلة في انتظار المزيد من البحث والتقصي. والذي يثير الانتباه ويتطلب البحث الجاد هو ارتباط ووجود البليميين الواضح – عندما دخل المسلمون مصر – بإقليم طيبة الذي يقع ما بين منطقة الأقصر الحالية وأسوان.
وكما وضحنا أعلاه فإن البلميين تمركزوا على النيل والمِجِا تمركزوا في الصحراء الشرقية وهم السلالة التي أطلقت عليها المصادر العربية اسم «البجة». ويبدو أن اسم البليميين قد بدأ في الانحسار في القرنين اللذين تليا دخول المسلمين مصر وانحصر في مناطق محدودة في بلاد النوبة. فقد أشار إليهم الجغرافي العربي المشهور الادريسس الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي إلى قبيلة قوية بجوار النوبة تعرف بالبليين، وسنفصل الحديث عنها لاحقاً. وفي نفس الوقت يبدو أن استخدام اسم «المِجا» سكان ساحل البحر الأحمروالصحراء الشرقية قد ساد وفظهر في المؤلفات العربية «البجة».

الصحافة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.