الثورة صناعة والجيش يلقاها عند الغافل

مجدي الجزولي
قدح أهل عطبرة في ١٩ ديسمبر نارا عظيمة يهدي نورها كل ناظر. مجاز نار الحرية قديم في الذاكرة الوطنية، فقد قال الزعيم الأزهري عن الحرية أنها نور ونار من أراد نورها فليصطلي بنارها. طهارة النار هذه ربما علة إقبال المتظاهرين على إشعال الحريق في دور المؤتمر الوطني حيثما ومتى تيسر، كان ذلك في عطبرة والقضارف والرهد وربك وبربر والدامر وغيرها. طال هذا العنف الثوري مقرات الضرائب والزكاة والجباية، أي البنية التحتية للعنف الهيكلي لجهاز الدولة، كما طال أدوات القهر البوليسي ومقرات جهاز الأمن، أي القوة القسرية لجهاز الدولة. لم يكن هذا العنف الثوري إذن أعمى أو فوضويا بل دقيق التصويب ونافذ العقلانية.
ردت الدولة على هذا الجرأة العطبراوية بعنفها المعهود، حشدت للمتظاهرين العزل من السلاح الكتائب المدججة في مهرجان للعنف الأعمى تتلقط الأرواح الحرة برصاصها المأجور. تكرر هذا المشهد الفوضوي في كل بقعة خرج أهلها لنار الحرية. إذا كان من عنف لا دليل له فهو عنف جهاز الدولة الذي يرى الهتاف قذائف مدفعية والأجساد الضاجة بالحياة ألوية قتال. كما خرج الناس يدقون طبلا عظيما للحرية بأرجلهم طلبوا سلامة عقولهم من الدعاية الحكومية فحرروا مساجدهم من أئمة خرس يصمتون عن الحق وقد استبان شمسا.
إزاء هذه الفتوح الشعبية انقسم الرأى الحكومي بين لوم ولوم مضاد. تراجع رئيس الوزراء معتز موسى عن قراره المرتقب برفع الدعم عن الدقيق والمحروقات، القرار الذي زكاه الرئيس البشير بتصريح صمت بالكلية بعده، ثم خرج رئيس جهاز الأمن، الفريق صلاح قوش، بحديث مسيخ ومكرور عن مؤامرة صهيونية يقودها الموساد الإسرائيلي وعناصر مندسة من حركة عبد الواحد محمد نور المسلحة اخترقت صفوف المتظاهرين وتولت قيادة نشاطهم..إلخ. المهم أن صلاح حمل المسؤولية للجهاز التنفيذي فقال فشلت الحكومة في توزيع الدقيق المدعوم. بحسب صلاح لم يكن في عطبرة وبورتسودان شوال دقيق مدعوم واحد يوم ١٩ ديسمبر. لذا قامت حكومتا الولايتين بتوزيع دقيق تجاري (غير مدعوم) على المخابز التي طرحت الرغيف للبيع بسعر ٣ جنيه. أعلن صلاح في مؤتمره الصحفي مساء ٢١ ديسمبر أن جهاز الأمن تولى مسؤولية توزيع الدقيق التي فشلت فيها الحكومة. كتائب صلاح الذي مثله أحد تقتل وتوزع الدقيق وتصلح السراير.
بالمقارنة مع الارتباك الحكومي نسج المتظاهرون من نشاطهم المشترك علاقات تضامنية جديدة فهناك من فتحت دارها لاستقبال الطالبات المطرودات من الداخليات بعد أن قررت الحكومة تعليق الدراسة في جامعات الخرطوم جميعها وهنالك من تقدمت لعلاج المصابين في المستشفيات ومن تبرعت بالتوصيل وسوى ذلك من الفطرة الشيوعية السليمة، من كل حسب قدرته ولكل حسب احتياجاته. بإزاء هذا الروح التضامني العظيم تولى مثل صلاح مسؤولية الفتنة فقال اندس بين المتظاهرين متمردون من دارفور استهدفوا المواطنين كأن دارفور وأهلها غير الوطن وقال رصدت كتائبه الدموية مجموعات من “النيقرز” يحملون سكاكين وسواطير ويستهدفون المواطنين بينما الحقيقة أن الرصاص القاتل انطلق من مواسير الأمن فصلاح ساعي الفتنة ورسول العنصرية ومن خلفه رئيسه المرعوب اتخذا القتل حرفة.
نشأت بين المتظاهرين فكرة من المستقبل فراج بينهم مطلب تحرير المدن، أي أن يتولى مجلس منهم شؤون الإدارة المحلية بدلا عن السلطة القائمة، وهذا من براكسيس الثورة المجيد وعين الحل الديمقراطي لقضية السلطة بيد شعبية. غض النظر عن ميقات وعد مثل هذا فقد انفتح بهذه البشارة الثورية أفقا جديدا للسياسة بالناس بعد أن طال جمودها في صوالين السياسيين المحترفين ولقاءات المبعوثين الدوليين. لقت هذه الفكرة الطارفة والتليدة في آن هزءا شديدا واستغراب فهي إما غير عقلانية أو طوباوية مثالية غير قابلة للتطبيق. لكن ألا تواجه هذه الفكرة مباشرة وبلا تردد عقدة طالما اعتبرها الصف البرجوازي الصغير علة السياسة السودانية الأساس، حلقة الثورة والانقلاب الشريرة. إن العنف الشرعي هو عنف المتظاهرين الذين اقتلعوا دور الحكم ويحطمون بأياديهم جهاز الدولة القديم.
٢
كيف يقابل الثوريون قضية السلطة؟ واجه الثوار في مدنهم هذه القضية من رحم البراكسيس، من ممارستهم الحية. اقتحم المتظاهرون في مدينة الرهد مقار الحكم وفتحوا عنوة مخازن ديوان الزكاة يطلبون عدالة التوزيع. بذلك طرحوا مسألة السلطة السياسية كما يختبرها الناس في لحمهم الحي، قوى باطشة تستولي على الموارد، بجذرية غير مسبوقة وشقوا طريقا جديدا للثورة السودانية تجلى فيه الوعى الطبقي لغمار الناس بردا وسلاما عليهم.
تقدم الثوار بالفعل سنين ضوئية على الصفوة السياسية المعارضة وكيف لا. ألم يقل لينين أن عقودا قد تمر دون أن يحدث فيها شئ ذو بال ثم تمر أسابيع تختصر عقودا من التاريخ. هذا هو ما نشهد على وجه الدقة. انصرمت في هذه الأيام الثلاثة عقودا من التاريخ وانفتح أفق جديد لم يكن ليدر بخلد أحد. لا غرو إذن أن الصفوة السياسية عدمت ما تقوله سوى تكرار المناشدة باستمرار التظاهر كأن الثوار الذين احتلوا الشوارع ينتظرون من المعارضة الرسمية كروت دعوة لممارسة فنهم.
تقف اليوم الصفوة السياسية تغالب ترددها بإزاء هذه الجذرية الشجاعة. قال السيد الصادق المهدي أن الثورة الناشبة أمام أعينه وهو المنادي زمانا بالجهاد المدني “دخان مرقة”! اجتمع رجالات الإجماع الوطني لتكرار الدعوة للانتفاضة كأن الذي يجري أمام أعينهم “بروفة”. واجتمع حزبا المؤتمر السوداني والحزب الشيوعي في العاصمة ليصدرا بيانا لا يحوي سوى المباركة والمناجاة بوحدة قوى المعارضة لكن لا يطرح صيغة جديدة لمقارعة السلطة لم يكتشفها الثوار أو تكتيكا مستحدثا للتقدم، أما ياسر عرمان فطالب بتشكيل “قيادة موحدة في الداخل والخارج” و”خروج قيادة معلومة للعلن لقيادة الشارع”.
ظني أن هؤلاء جميعا يقرأون من الصفحة الخطأ فالجواب الذي خرج من براكسيس الثوار على سؤال السلطة لا يمكن اختصاره في صيغة الحلف الحزبي الذي يلوح للمعارضة الرسمية بل يعد بتحول في علاقات القوى الاجتماعية لصالح غمار الناس يفرض نشوء قوة سياسية جديدة تجعل من هذا التحول هدفا للعمل. إن لم يتضح هذا الطريق الثوري بعد فقد اتضح جليا طريق الثورة المضادة. ترددت أقاويل عن تدخل الجيش لاستبدال السلطة القائمة وبالضرورة سد الطريق أمام نشوء السلطة التي ذاقت الجماهير في الرهد وغيرها كما شاع أن مدير جهاز الأمن صلاح قوش ربما حدث نفسه باستلام الحكم وسيجد لا بد من يصفق له. غير ذلك، طغى حسن الظن بالنفس على طائفة من الناشطين ذوي الشأن فطفقوا يحدثون أنفسهم بتوزيع الحقائب الوزارية، فلان لرئاسة الوزارة وهذا للإعلام، ذلك بعد أن يتحقق لهم النصر بشوكة الجيش المنحاز لثورة الشعب.
يرفد هذا الهلج جميعه من عقيدة الانقلاب الثابتة في دليل البرجوازية الصغيرة السياسي. تستدعي الصفوة البرجوازية الصغيرة الجماهير للفداء وتصفق للشهيد والفقيد لكن متى ما انطرح سؤال السلطة كفرت بالجماهير الثائرة وفضلت طريق الانقلاب القصير. يتضمن هذا التكتيك المكرر التبشير بسلطة الجيش بزعم حياده وسمته الوطني الباذخ. تعمى هذه الصفوة في ساعة المصلحة المنظورة وربما لاتعمى عن حقيقة أن الجيش قوة سياسية قائمة بذاتها وليس حكما محايدا في صراع السلطة وما سنين الدكتاتورية المتطاولة في السودان سوى حكم الجيش. كما أن لحكم ضباط الجيش مضمون طبقي هو الذي هب ضده ثوار عطبرة والرهد وليس سوى قادة الجيش الذين يسألون عن الرعب الذي بثوا عبر سنين سلطتهم المستمرة لعقود في أرياف السودان وليس سواهم من ظلوا يدعون للمقارعة الحربية كلما جاء السؤال عن تداول السلطة السياسية.
لماذا تستدعي الصفوة البرجوازية الصغيرة الجيش هذه الساعة إذن؟ لأنها من موقعها في النادي السياسي ترتعد من الروح الثوري الذي يحوم حول عطبرة والرهد والقضارف، من المجهول الذي قد يحمل في طيه تهديدا لعلاقات الملكية والتراتب الاجتماعي المستقرة. فمن شرعوا لأنفسهم السيطرة على مخازن ديوان الزكاة وتوزيع ما تحوي على من يحتاجها يمكن أن يشرعوا في قفزة أخرى للخيال السياسي معادلات جديدة لتوزيع الثروة الاجتماعية والسلطة السياسية لا فضل فيها لأولاد المدارس الفصيحين. بطبيعة الحال، لا يمكن سوى تقريظ قرار ضابط نشط الهمة تحييد الآلة القسرية للدولة تحت إمرته وحماية المؤسسات العامة بمهنية من موقع المواطن، لكن لا يعني هذا التقريظ، مهما بلغ، التبشير بالانقلاب كمخرج للأزمة العامة في البلاد. ما الانقلاب بأي شعار جاء سوى قطع طريق الثورة وإجهاضها أما مباشرة أو بعد حين هكذا كانت تجربة الانتفاضة ضد حكم جعفر نميري في ١٩٨٥ وهكذا كانت تجربة الثورة المصرية المعاصرة ودونكم خلاصات الاشتراكيين الثوريين في هذا الخصوص.

المصدر : سودان تربيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.