لله والتاريخ والمُتظاهرين

في البداية، يَجب تَوجيه بعض النصائح المُهمّة وهي: أنّ الواجب على الجميع عند المحن النأي عن الاصطفاف الحزبي المصلحي وتغليب المصلحة العامّة، والثانية هي ضرورة تفهم المطالب المشروعة للمتظاهرين، وثالثها هو أنّ العُنف من جميع الأطراف ممنوعٌ وكذلك الكذب والتهديد وقتل الأبرياء من المُتظاهرين أو الشرطة، والمرجو هو تغليب لغة الحوار الجاد.

وأضم صوتي للمُطالبين بالحياة الكريمة والحُقُوق الأساسية التي تكفلها وتُنظِّمها الأخلاق والأعراف والقَوانين والشريعة وأرفع لاءات ثلاثة، لا لسُوء الإدارة ولا للظلم ولا للتخريب.
للتظاهرات أو الثورة التقدير على مَطالبها السّلمية المُتعلِّقة بظروف المَعيشة القَاسية، التي تدركها حتى ربات البيوت في المطابخ، ناهيك عن اعتراف مسؤول أو تصريح خبير. وهي مطالب مشروعة بلا شك طالما كانت وسيلتها سلمية وحضارية. وعلى الأجيال أن تُقدِّر هذا الجهد المُضني في سبيل التعبير المُتحضِّر عن الشعور بالفقر والبُؤس والإحباط.

أمّا مُطالبة التظاهرات بإسقاط النظام، فهذه قضية سياسية عويصة أنا على ثقة من أنّ مُعظم الشباب الذين خرجوا للشارع مازالوا بحاجة لعميق معرفة بتفاصيلها بوضوحٍ كافٍ!!
ولكل الشباب الصادقين في الشارع وبكل وضوحٍ ومُباشرة وصدق أقول: ماذا تعرفون عن طبيعة الثورات في السودان وتاريخها؟ إنه تاريخٌ مريرٌ فيه ظُلمات بعضها فوق بعض، فكل الثورات في تاريخنا السُّوداني تمّ تجييرها كأدواتٍ سياسيّةٍ وألاعيب للكبار من أجل إعادة ترتيب المصالح!! ولم تُحَقِّق ولا ثورة واحدة الأهداف التي خرج الناس من أجلها، وفي نهاية المَطاف امتطت ذات الجهات المُنتفض عليها سرج حصان الثورة وخرج المتظاهرون يضربون كفاً بأُخرى.

أعلم أنّ هذه حقيقة صادمة وربما مُثيرة لغضب البعض، ولإنكار آخرين، وَمَا دَفعني لقولها هو انتمائي لقبيلة المعرفة وحزب العلم ودُوننا كل ثورات السُّودان!! ومن غير أن أنقص من قدر الشرفاء والشهداء والصّادقين فيها، لكنها في الختام تحوّلت لمسرحيات صادمةٍ خرجت منها ذات الأحزاب والنخب الحاكمة بمكاسبها السِّياسيَّة وتركت في الشارع أحلام الثائرين.. ومثال لذلك ثورة أكتوبر المجيدة، فقد قامت على أسباب جادة ومُطالبات مشروعة ثم تَحَوّلَت فجأةً إلى وسيلةٍ حزبيةٍ لتغيير حكم عبود، والذين جاءوا بعبود هم الذين حرّكوا الثورة ضده!! وكل الأحزاب والنخب التي تفاخرت بأنّها من وقف خلف انتفاضة أكتوبر انقلبت على أكتوبر!! سواء كانت من أحزاب اليسار أو اليمين أو من النُّخب الحاكمة. وَرَجَعت ذات الأسماء الحَاكمة بعد أن التفت على الثورة، وعندما فهم الشارع السوداني هذا الدرس القاسي وأفاق من الصفعة خرج للشارع يهتف نادماً “ضيّعناك يا عبود.. وضعنا وراك!!”
وثورة أبريل ليست بأكثر حظاً من أكتوبر، ومرة أخرى يمتطي سرج جواد الثورة ذات الأشخاص والأحزاب الذين قامت الثورة في وجوههم.

أيُّها الشباب، الشرفاء، الصادقون، ثورة أكتوبر لم تختر الجماهير فيها رئيساً ولا حكومة، إنّما هو صندوق الانتخابات الذي جاء بالأحزاب ولم يأتِ بالجماهير ولا بمُمثلين لها، وفي ثورة أبريل برز التجمع الوطني وأحزاب الميثاق واختار العسكر فيها رئيساً محسوباً لتيار، واختار التجمع النقابي رئيساً للوزراء منسوباً لحزبٍ أيضاً!؟ ثُمّ جاء الصندوق لتحكم ذات الأحزاب!! وذهب التجمع النقابي مُفجِّر الثورة إلى الرصيف!! بعد أن قدّم جملة من الوزراء الحزبيين!! هل ترون كيف تكون الجماهير في كل مرة أداةً للنخب والأحزاب؟!
هذا ليس انتقاصاً من شأن الأحزاب، ولا الجماهير، لكن كما أنّ الطب للأطباء والهندسة للمُهندسين، فإنّ السياسة للأحزاب، فهو تخصُّصها وهي مُكوّنة وفق مطلوبات السياسة ولها أدواتها المُتعدِّدة وخبرتها المُتشعبِّة.
أيُّها الشباب، الشرفاء، الأوفياء، يُؤسفني أن أخبركم أنّ الحلقة السياسية مُغلقة، والدوائر مشغولة، والمقاعد فيها محجوزة، الأحزاب والنخب هي مَن يحكم، لأنّها مُتخصِّصة في شأن الحكم وليس الشارع ولا الثورات، لأنّها تفتقر إلى الهيكلة والبرامج السِّياسيَّة، وسواء نجحت هذه الثورة أو فشلت فهي لن تُحقِّق أهدافها المَرجوة، لأنّ الأحزاب والنخب ستحتوي المشهد وتقطف الثمرة، وسيعود المُتظاهرون لبيوتهم دُون أن يشكرهم أحدٌ.. كما حدث هذا أمام عين التاريخ عشرات المرات، فالجماهير وإن أسقطت الرئيس فهي لا تملك آليه اختيار بديلٍ ولا تعيين وزراء ولا صياغة دستور انتخابي ولا رقابة أداء الحكومة لأنّها جماهير متباينة ولأنّها لا تملك أدوات ما بعد الثورة.
الحُرية والديمقراطية والحضارة ومنطق الصواب البسيط يقول: يجب أن تأتي الحكومة بصندوق الانتخابات وأن تُخلع بذات الصندوق، وما عدا هذا من الوسائل فهو مُخاطرة كَبيرة، هل تعلمون مَن الذي سيدفع ثمنها؟ أترك الإجابة لذكاء القارئ.. لكن ما لا يحتاج لذكاءٍ هو أنّ كل السيناريوهات المُحتملة لا تُصب في مصلحة المُطالبة بإسقاط النظام.
فاحتواء المشهد من داخل الحزب الحاكم سيخلص إلى تغييرات وتَسويات شكلية.. والاحتواء الخارجي يَقتضي تكوين حكومة مؤقتة من أحزاب وتجمعات سياسية.. ثُمّ ماذا بعد؟ إمّا القفز فوق الآخرين والاحتراب أو اللجوء لصندوق الانتخاب.

لماذا لا نختصر الطريق إذاً إلى صندوق الانتخاب؟!
إن كانت هناك مَطالب سياسية ذكية فهي ليست رحيل النظام، لكن إيجاد مَرجعيات مقبولة حاكمة للانتخابات، وطريقة لبناء مُؤسّسات وطنية قوية ومُحايدة تحكم قضايا السِّياسة ويحتكم لها الجميع من رئيس الجمهورية إلى أصغر مُواطنٍ، فهذه هي مداخل سرقة الثورات، ومرحباً بعد هذا بانتخابات مُبكِّرة جداً.
على صعيد الختام، وبعد ثلاثة أسابيع من اندلاع التظاهرات، هل يمكن للمُتظاهرين أن يسموا لنا قيادات التغيير القادم وشكله ومُكوِّناته؟ ولماذا لم يخرج لنا هذا القائد مُعلناً عن نفسه إلى اليوم؟ ولماذا أرى نفس الأسماء والكيانات تتحدّث باسم المتظاهرين وهي نفس الأسماء التي كانت شريكةً في الحكم وفي تسبيب الأزمة الاقتصادية، وهي نفس الأحزاب التي فَشلت في المُعارضة حتى اضطرت الشّعب للخُرُوج إلى الشارع والقيام بوظيفتها، وهي نفس الأسماء التي امتطت سَرج الثّورات من قَبل؟
أترك الإجابة لإخوتي المُتظاهرين أرجو ألا تكون الإجابة هي: #تسقط بس..!

 

 

لله والتاريخ والمُتظاهرين

د. ناجي مصطفى بدوي

 

 

السوداني

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.