السياسة طريق بين الجثث. هل يقود طه للجنائية؟

“هكذا هي السياسة، إنها شق الطريق بين الجثث” بالطبع ليست هناك عبارات أعمق من تلك للتعبير عن ولع النائب الأول السابق للرئيس السوداني، والقيادي في الحركة الإسلامية الحاكمة علي عثمان محمد طه، ورئيسه المشير عمر البشير بالتورط في سفك الدماء، والرقص على جثة الوطن الموجوع. والاقتباس مأخوذ من رواية ” حفلة التيس للروائي البروفي ماريو بارغاس يوسا.

 

و “حفلة التيس” كانت ملحمة كشفت لنا سيرة الدكتاتور الدومينيكاني «رافائيل تروخيو»، حاكم جمهورية الدومينيكان في الفترة من 1930 م وحتى 1961 إلا أنَّ ظلال طغاة آخرين تتناثر بين أسطر الرواية وتتوزع بين الفصول والمشاهد. وحين تقرأ الرواية تطل عليك مرةً ملامح البشير، وهو بلوَّح بتسليم السلطة الى الجيش ” حتى تدخل الفئران جحورها!   ويقفز إلينا وجه طه،  ينظر في طريقٍ أكثر وعورةً، فالعسكري البشير، كان يغازل الجيش، بينما اضطرت الظروف طه لكشف مستوره، وإخراج ما يتشكك حوله الناس، كان كأنه يريد تأكيد ما يتجادل السودانيون حوله. البحث عن” طرف ثالث” اغتال المتظاهرين في هبة سبتمبر ٢٠١٣، في الخطة ( ب) التي أكدها البشير بعد أن فلتت الأمور من يديه.

 

الطرف الثالث الذي يستخدم سيارات الدفع الرباعي، التي لا تحمل لوحات، تظهر خلال المظاهرات فيطلق جنودٌ من على  متنها النيران على صدور المتظاهرين، وهو ذات الطرف الذي ظهر من جديد خلال أحداث انتفاضة ديسمبر الجارية. وتظل فرضية الطرف الثالث حاضرة إذا ما أخذنا نفى رئيس جهاز الأمن والمخابرات تورط جهازه في عمليات قتل المتظاهرين، كفرضية يمكن أن تكون صحيحةً، مع أنه وضع الكرة في ملعب الشرطة،  في وقت يؤكد فيه عددٌ من المتظاهرين أن الشرطة لم تلجأ الى استخدام الرصاص الحي في معظم الأحوال؛ وبالتالي ظل الناس يبحثون عن ” طرف ثالث، ربما هو كتائب ظل علي عثمان محمد طه.

 

تكمن المفارقة في كون طه، سياسيٌ قضى في دواوين الدولة قرابة أربعين عاماً، ورجل درس القانون وعمل بالمحاماة فترةً في حياته، إلا انه حين يفكر في ارسال الرسائل لكي يقترب من البشير درجةً يضطر إلى الانفعال والتهور وإصدار التصريحات التي قد تقوده إلى المحكمة الجنائية الدولية، حال بقاء نظامه، باعتباره متورطاً في جرائم ضد الإنسانية وفقاً لمواثيق الأمم المتحدة ونظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية.

إنّ المحكمة الدولية لا تختص فقط بجرائم الحرب أو الإبادة التي تتم أثناء النزاعات المسلحة، بل تختص كذلك بصراعات تحدث أثناء صراعات سياسية خلال فترات السلام، وسبق أن مثل نائب الرئيس الكيني وليام روتو، عام ٢٠١٣ أمام المحكمة الجنائية لاتهامه بتدبير حملة ترويع وقتل عقب الانتخابات التي أجريت في البلاد قبل 5 سنوات.  ومثل الرجل على خلفية أعمال عنف جرت في كينيا عام 2008 أدت الى مقتل أكثر من 1000 شخصاً، وهي ذات الاتهامات التي وجهت الى الرئيس أوهورو كينياتا، وصنفت محكمة الجنايات الدولية الاتهامات بأنها جرائم ضد الإنسانية.

 

ليس بعيداً أن يقود الهياج السياسي علي عثمان طه، إلى ذات الدوامة حال انفجار أي أحداث عنف، وانزلاق البلاد في دوامة بسبب الاحتقان الكبير الذي ظل يعتمل في النفوس منذ ثلاثين عاماً، ويمكن أن تبنى الأدلة على اعترافه الذي يوفر بوضوح شرط ” القصدية” في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية  حين قال  ” للنظام كتائب ومجموعات على استعداد للتضحية، وهي من وراء مؤسسات الدولة” ثم أضاف ” هناك كتائب ظل كاملة يعرفونها موجودة تدافع عن النظام إذا احتاج الأمر لتسيير دولاب العمل، وتدافع عنه اذا احتاج الأمر أن تقوم بالعمل المدني، وتدافع عن النظام حتى إذا اقتضى الأمر التضحية بالروح”

 

هي الروح الشريرة المتلبسة لبوس دين الإسلام السياسي، منذ أن استولى طه وعصبته على السلطة في عام ١٩٨٩،  وبعد أن نفذوا عملية اختطاف كاملة للدولة السودانية على هشاشتها، وحولوها إلى ” ضيعة إخوانية” عبر سياسات تمكين جماعتهم من أهل الولاء، واقصاء الآخرين وحرمانهم من حقوقهم الأساسية.

لم يكتفي جماعة طه بعملية اختطاف الدولة، بل اجتهدوا في تشكيل دولتهم الموازية للدولة الرسمية، ففي مقابل الجيش أنشأوا كتائب الدفاع الشعبي، وفي مقابل الأمن، تكون ” الأمن الشعبي” مثلما تشكلت ” الشرطة الشعبية” كجسم موازٍ للشرطة الرسمية، وتدار كل هذه الأجسام الموازية لأجسام الدولة بواسطة ” الكيان الخاص ” للحركة الإسلامية. وهذا حديث آخر.

إن حديثنا هنا، عن تورط علي عثمان، بإقرار صريح منه، في ارتكاب جريمة محتملة، وبالإشارة إلى اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، و التي اعتمدت وعرضت للتوقيع وللتصديق والانضمام بقرار الجمعية العامة 2391 ألف (د-23) المؤرخ في 26 تشرين الثاني /نوفمبر 1968.

 

وطبقاً للمادة الثامنة من الاتفاقية، تنص المادة (ب)  على أن الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية، سواء في زمن الحرب أو زمن السلم، والوارد تعريفها في النظام الأساسي لمحكمة نورمبرغ العسكرية الدولية الصادر في 8 آب / أغسطس 1945، والوارد تأكيدها في قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة 3 (د–1) المؤرخ في 13 شباط / فبراير 1946 و95 (د–1) المؤرخ في 11 كانون الأول / ديسمبر 1946، والطرد بالاعتداء المسلح أو الاحتلال، والأفعال المنافية للإنسانية والناجمة عن سياسة الفصل العنصري، وجريمة الإبادة الجماعية الوارد تعريفها في اتفاقية عام 1948 بشأن منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، حتى لو كانت الأفعال المذكورة لا تشكل إخلالاً بالقانون الداخلي للبلد الذي ارتكبت فيه”.

ليس مستبعداً أن تنجم عن تصريحات علي عثمان طه، أفعالاً ترقى إلى أن تكون ” جرائم ضد الإنسانية” ووفقا لنظام روما الأساسي، والذي أجيز في يوليو ١٩٩٨، فإن المــادة (7) تنص على الجرائم ضد الإنسانية التي ترتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وتشمل القتل العمد، الإبادة، الاسترقاق، إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان،  السجن أو الحرمان الشديد على أي نحو آخر من الحرية البدنية بما يخالف القواعد الأساسية للقانون الدولي، التعذيب، الاغتصاب أو الاستعباد الجنسي أو الإكراه على البغاء, أو الحمل القسري, أو التعقيم القسري أو أي شكل آخر من أشكال العنف الجنسي على مثل هذه الدرجة من الخطورة. كما تشمل الجرائم ضد الإنسانية الاختفاء القسري، أو اضطهاد أية جماعة محددة أو مجموع محدد من السكان لأسباب سياسية أو عرقية أو قومية أو إثنية أو ثقافية أو دينية.   إن تصريحات علي عثمان محمد طه، تتسق تماماً مع شخصيته الماكرة، و تشبه دوره السياسي والقانوني خلال فترة حكم الإسلاميين، وللرجل سجل مشهود، يحوي اتهامات حول قضايا معلومة كمحاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، أ وله تصريحات تتعلق  بتكييف قانوني لرد ما اعتبره عدواناً من دولة جنوب السودان، إبان الحرب في هجليج في أبريل ٢٠١٢، فقد وجه القوات النظامية مباشرةً بالقتل خارج القانون لكل من يعبر الحدود  مع جنوب السودان، بغرض تصدير مواد غذائية،  ” ولو شق تمرة ” وقال طه بالصوت العالي Shoot to kill.

 

ومنذ انشاء المحكمة الجنائية الدولية، أكثر من ٢٥ مسؤولاً أفريقياً أمام محكمة الجنايات الدولية بتهم جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم حرب، أبرزهم الرئيس الليبيري السابق تشارلز تايلور، الذي أصدرته المحكمة الخاصة بسيراليون حكماً بالسجن لمدة ٥٠ عاماً بتهم بارتكاب جرائم ضد الانسانية وجرائم حرب، وهناك أيضاً قضايا  الرئيس الإيفواري السابق، لوران غباغبو والملازم شارل بلي غودي، ونائب الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية، جان بيير بيمبا غومبو.

جميعهم طغاة يشبهون دكتاتور الدوميكان في ” حفلة التيس” رافائيل تروخيو،  إلا أن ظلال طغاة أمثال البشير، وطه، تظل حاضرة في المشهد الروائي المثير، فإذا ما ظنَّ طه أن الله معه في مقاصده الهادفة إلى اشعال الفتنة، وقتل الناس استناداً على منهجٍ دينيٍ ، فهو موقف مثل موقف أحد المتمردين في رواية  حفلة التيس ” الرب ينظر بعين الرضا إلى تصفية الوحش جسديًا إذا كان في ذلك خلاص الشعب.. كان يشعر بطمأنينة روحية لم يشعر بها منذ وقت طويل، سيقتل الوحش، والرب وكنيسته سيغفران له، فتلوثه بالدم سيغسل الدم الذي جعله الوحش يسيل في وطنه”

 

التغيير

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.