(شِويطين)..!

كان كارل رودلف، أوسلاطين النمساوي، حاكماً لإقليم دارفور قبل اندلاع الثورة المهدية، وقد خلّد قصة هروبه من أسر الخليفة عبد الله التعايشي، في كتاب (السيف والنار)، والذي نشر في صفحاته الأخيرة تقريراً ضافياً عن أحوال وأهوال دولة المهدية في نهايات القرن التاسع عشر، كان مقدمة لاستعادة السودان مرة أخرى تحت علم دولتي الحكم الثنائي.

منذ ذلك العهد ومن قبل ذلك بكثير، والحياة عندنا مصفوفة بين قوسي الخِتان والنكاح قبل قرن ونيف من الزمان، نفّذ الدروايش حُكم الخِتان على سلاطين باشا وكانت تلك العقوبة، أو ذاك الطهور، تتويجاً لانتصار الجهادية على حكم التركية السابقة.

يقال أن سلاطين خُتِنَ في أم درمان بفأسٍ أشرم، وأن صراخه من جِراء ذلك، انكشح حاراً على الرواكيب والجُدُر الطينية، التي كانت تمثِّل حواضر لدولة الخلافة.. ويقال إن الخليفه عبد الله التعايشي أشرف بنفسه على طهورة سلاطين، وأن (القطع) كان بالقدوم، حيث قام بعملية الختان كل من الأمير يونس ود الدكيم والأمير محمود ود أحمد .. القدّوم آلة حديدية تستخدم في نجر العناقريب. ويقال أن منفِّذ العملية، طهّار اسمه موسى الكاظم.

دوّن سلاطين واقعة القدّوم في النص الأصلي لكتابه، بينما حذفت تلك التفاصيل من النسخة المتداوَلة بين أيدينا.. قرأت نسخة قديمة للكتاب مصدرها دار البلاغ ، طبعت فى العام 1930م، ولم أجد فيها دموع ودموم سلاطين، على فقده ذلك الجزء العزيز من أرض الوطن!

بعد مائة عام من تلك العودة أصدر الروائي عبد العزيز بركة ساكن من منفاه البعيد، رواية (الرجل الخراب).. حكي بركة في الرواية بعض تعاريج المغامرة، وشيئاً من محتوى غُصّة الرحيل، كما هي في كتب الرمل ذات الدوائر والخيوط المستحيلة.

دسّ بركة ساكن في روايته، صراخاً لسلاطين باشا في لحظةٍ تاريخية، شاء فيها الخليفة عبد الله التعايشي، أن يوشمه وشماً سرمدياً، ابتغاءً لمرضاة الله.. كيف لا، فسلاطين قد أسلمَ وحَسُنَ إسلامه، بل تدعشن تحت رحمة الدّراويش، فكان اقتطاع ذلك الجزء العزيز من جسده، ايذاناً بدخوله البيدر.. وكان الدراويش طلبوا رأسه كاملاً، حين خرج عن تلك القافِلة.. سلاطين الذي كان يُكنّى عند الأنصار بـ (شويطين) عادَ مع جيش كتشنر وشغل وظيفة المفتش العام للحكم الثنائي خلال الربع الأول من القرن العشرين.. عاد سلاطين مع الحملة ليثأر لما جرى له فى أعز عزيز لديه.. وقعت الخرطوم في أسر الانجليز فخرج سلاطين باحثاً عن الفأس التي مهر بها الطهّار، شهادة دخوله إلى ديانة المسلمين.

وهكذا أطبق سلاطين باشا – بعد التمكين – على رقبة موسى الكاظم الذي لم يكن سوى موظف فاعِل في دولة الخلافة.. أمر سلاطين بختن الطهّار المسكين في الحال، ولمّا وجده مختوناً، (فعلها)، وجرّده من كافة أسلحة الدمار، والله المستعان.. تُرى، أين نحن اليوم من واقعة ذاك الفأس الأشرم؟

 

اخر لحظه

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.