(النُقَّارة)..!

(نقزو) حي من أحياء بربر القديمة، وما أدراك ما بربر.. مدينة غَميسة، بلاشِفَتُها مؤرشِفون، و كيزانها- أجارك الله- فهُم من النوع (أبو كَديس).. في ذاك الحي عاش توأمان، دخلا مسيداً بالشُرَّام، وحفظا سوياً، ما تيسرَ من آيات القرآن، بعد ذلك تفرقت بهما السُبُل.

انخرط أحدهم في زراعة السّاقية، فاشتهر كمنتج للبقول، من فول وفاصوليا، طماطم و شمار، حتى هبّت ثّورة الإنقاذ، فوقعت له في جَرِحْ، عندما ترقى بين شِعابها وأصبح رئيساً للّجنة الشعبية، بينما كان توأمه الآخر سفّاري وزول بنادِر ساكت، التحق بالسّكة الحديد وانفتح خلال عهود الديمقراطية الشحيحة على ثقافة العصر، فكان يأتي من عطبرة نهاية كل أسبوع إلى الحوش الكبير، متأبطاً مطبوعات ومجلدات ومؤلفات ودواوين، ثقيلة الوزن، لفولتير، ديستوفِسكي، كانط، قوركي، توماس مور، إلخ إلخ.. وبينما كان توأمه الُمزارع يفترش الحوش بإنتاج الساقية ومشتهيات الجُروف، من عيش الرِّيف إلى الحِلبة وغيرها، كان صاحبنا يفترش الورق في الديوان، ويعكف على مناشير حزبية مُخبأة دوماً،عن مناظير النّاظِرة.

ثم جاء الزمان الذي جفّت فيه المياه، فأضحت ورش عطبرة خرابة كبيرة، وبذلك تعرّض التِّويم المُثقفاتي للفصل من العمل للأسباب المعلومة… أُحيلَ التوأم – المُندَس – للصالِح العام فآوى إلى ديوان أبيه في نَقزو، يطالع هناك علوم المنطِق ومدوّنات الفلاسِفة، وبحور الشعراء، علّها تُسعفه في فهم ما جرى في هذه البِلاد المُسلِمة.. بعد حين، امتلأ التويم المثقفاتي بالضّجر من كثافة الأوراق وبُخل الأحبار وخلل الواقِع، فخرج مُطالباً بحقه من إرث أبيه.. عندها وقع الخِلاف بينه وبين توأمه الاخواني عالي الشأن، في الزّمان والمكان.

استفحل الخِلاف، فتدخّل الأجاويد وعقدوا منتدىً من أجل تقريب وُجهات النّظر، وقد كان ذلك مُمكِناً، لولا أن التوأم التنظيمي حُظيّ بإسناد موضِعي جعله مُمْسِكاً بخيوط الفوضى، فكان أنْ أُعطيّ الكلمة الأولى في المجلس، ولهذا كانت له الكلمة الأخيرة أيضاً.

طرح التوأم الاخواني مرافعته بأسلوبه البلدي، متحدثاً عن الإنتاج والإنتاجية، عن التّعب والشّقا، وعن قِراعة الموية في الشِتاء، وأشار غامزاً لامِزاً إلى توأمه بأنه المُرتاح، راضِع الضُّل، ضارب الهمبريب، راقِد طول اليوم في بطن البيت.. واصل السّرد على هذا النّحو، ولم يُعط توأمه فُرصة تعقيب… واصل السرد حتى استفز توأمه المُثقفاتي وأخرجه عن طوره مقاطعاً للتعليق… لكن تلك المقاطعة جعلت ضربات التوأم الاخواني تشتد وتشتد على النُقَّارة .. لم يكتفِ بذلك، بل انهمر باكياً، مستعطفاً الأجاويد بقوله: ( تعالوا شُوفوا كرعيني المَشقّقات ديل، وتعالوا شوفوا هدومي مليّانات طين كيف، وتعالوا شوفوا رِيقي النّاشِف دا).

وتدعيماً للأسطرة، دخل في نوبة من الحوقلة والأدعية المأثورة، تلييناً للقلوب، واستجلاباً للدّعم… بذاك الاجْهاش انقلبت الموازين، فلم يُعد للتوأم – الرّفيق – من مؤازِرين… ساعتها اكتشف الرفيق – المُندس – فظاعَةَ أنه، على كثرة ما قرأ، لم يحتاط لمثل هذا اليوم بقولٍ مرجوز، أو دعاء مأثور، إذ ليس بالوعي وحده تُحسم المعارك.. في مجتمع كهذا لن تسعفك المناشير، ولن تكسب الجولة، مالم تتزيأ ببعض الأسمال، وتتأذر بمؤيدين من ذوي الأصوات الصاخبة، وإلا قول، (حقّك راح)..!

اخر لحه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.