هيئات الفشل في ولاية الخرطوم !!

(1)

على الرغم من أن صحيفة إيلاف ظلت، محررين وكتّاباً وخبراء، على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية تنّقب في شؤون الاقتصاد السودان، تتابع بدقة وعمق وعن كثب تطوراته كافة، وطالما كتبوا منذرين ومحذرين مراراً وتكراراً من خطورة عواقب انزلاق الاقتصاد الوطني إلى الانهيار التام جراء تبعات وتداعيات الاختلالات السياسية الهيكلية لنظام الحكم، والسياسات المضطربة، والإدارة المتواضعة المفتقرة للكفاءة لبلد زاخرة بالموارد الطبيعية الهائلة من كل شاكلة ولون، فضلاً عن الافتقار للنزاهة والاستقامة واستشراء الفساد الممنهج بفعل آفة سياسة التمكين، ووعلى الرغم من أن هذا كله معلوم لدي وليست حدثاً طارئاً، ولكن مع ذلك كله أقر بأنني صُعقت، كشأن ذلك الذي استهول ما خطه كاتب العرائض بشأنه مظلمته وتساءل مندهشاً إن كان ذلك كله حاصل عليه وهو لا يدري، عندما سمعت مباشرة، ثم قرأت لاحقاً مستوثقاً، الحيثيات التي ساقها السيد وزير العدل في بيانه أمام المجلس الوطني الأسبوع الماضي عن دواعي إعلان حالة الطوارئ في البلاد.

(2)
وحتى لا يذهب بأحدهم الظنون أننا نتوهم القول، حال حكومتنا التي ظلت كلما كتب مشفق منبّه عبست وبسرت وأصرت واستكبرت استكباراً تنكر ما تعتقد أنه محض تخليط متشائمين يحبطون الشعب يستكثرون النظر إلى النصف الملآن من الكوب الملآن، فأنظر – يا هداك الله – إلى ما قاله السيد ممثل الحكومة نصاً أمام المجلس الوطني عن دواعي فرض حالة الطوارئ “أما من حيث المبررات الواقعية، والأسباب الموضوعية، والدوافع الفعلية، فإن هذه التدابير الاستثنائية قد أضطرت الدولة إضطراراُ إلى اللجوء إليها، لمواجهة مخاطر جسيمة محدقة بالبلاد، وتداعيات خطيرة تهدّد كيان الدولة السودانية .. في آمنها واقتصادها ومعاش مواطنيها.. وسلامة نظمها وهيبة قوانيها”. حسناً حتى هنا لا بأس.

 

(3)

ولك أن تضرب كفاً بكف، والبيان الحكومي يفصّل هذه المخاطر الجسيمة التي تهدد كيان الدولة التي”تتمثل في ممارسات ضارة بالاقتصاد الوطني وثروات البلاد ومقدراتها .. من تهريب واسع النطاق للسلع المدعومة والمواد الأساسية والضرورية كالدقيق والوقود والذهب والمحاصيل الزراعية، ومن تخريب آثم للبنية الاقتصادية عبر مضاربة شرهة في العملات الأجنبية، وإضعاف جائر للعملة الوطنية .. وإنعاش خبيث للسوق الأسود.. وتلاعب بالأسعار وتخريب واحتكار وتحايل على القوانين المنظمة لإجراءات الصادر واستيراد الدواء، وتهريب للنقد الأجنبي والذهب إلى خارج البلاد. وسرقة في وضح النهار لقوت الشعب وكدّه وعرقه. هذا علاوة على الفساد المالي والإداري الممنهج، ومعاملات مصرفية مريبة طال عمليات الاستيراد والتصدير، والحصول على أموال عامة عبر تعاقدات مشبوهة واستغلال الوظيفة العامة للإثراء غير المشروع والكسب الحرام”.

 

(4)

يا للهول!!!!، هل يُعقل أن الحكومة تعرّف جيداً أن كل هذه الكوارث التي قعدت بالاقتصاد السوداني حتى بات على حافة الانهيار حصلت ولا تزال تحصل بالفعل في عهدها، ولا شك أنها تعرف أكثر منا عامة مواطنيها بدقائق الأمور إذ لا تنقصها المعلومات الموثقة، والأسباب الحقيقية التي قادت إلى أن ترسم بنفسها، لا بأقلام صحفيين مزعجين ولا معارضين متربصين، هذه الصورة السوداوية والمأسوية للحال الذي آل إليه شان الاقتصاد في البلاد في عهد سلطتها هي وليس في عهد أي سلطة سواها. والسؤال كيف تكون الحكومة حكومة وكل هذا يحدث أمام ناظريها، أين أجهزتها النظامية ذوات العدد ومؤسساتها العدلية والسياسية التي ينُفق عليها جلّ موارد البلاد في موازنتها العامة المعلومة وتلك الحقيقية الموازية؟!! ما نفعها وجدواها عندما تعلن السلطة استقالتها وتقر بأنها تحولت إلى خيال مآتة.

نعم يعلم السودانيون جميعاً أن هذا هو ما ظل حاصلاً بالفعل وأكثر لسنوات طويلة وهم يرون آثار “الكسب الحرام” تتطاول في البنيان وتتهادى في الطرقات بغير حق مكتسب بحلال، ويعلمون كذلك دفع المسؤولين الممجوج الذين كلما ووجهوا بهذه الحقائق كان ردهم”لا تلقوا بالاتهامات جزافاً، هاتوا أدلتكم”، مع أن الدنانير المنهوبة التي أبت إلا أن تطل برأسها كانت تقول كل شئ، ومع ذلك إن قدمت أدلة كانت المصير التستر والتحلّل.

 

(5)

لست في مقام التبكيت على سلطة الحكم، ولا التشنيع عليها، ولا القول ألم نقل لكم، فالمقام مقام وطن يواجه محنة عظيمة تهدّد على نحو غير مسبوق وجوده في ذاته، وتنذر بذهاب ريح ما تبقى من كيان الدولة السودانية المثخنة بجراح التفكك، وهي تواجه تحدياً مصيرياً أن تكون أولا تكون، وهو ما يعني أنه لم يعد من سبيل لأدنى مجال للتلاعب بمصيره بالمناورات الصغيرة، والحسابات الذاتية الضيقة، ولئن صح هذا على المعارضة، فالمسؤولية الأعظم تقع على عاتق السلطة الحاكمة.

فالصورة الشديدة الواقعية التي رسمتها السلطة فيما أوردناه آنفاً لحال الاقتصاد المتداعي والآيل للانهيار بكل تبعاته وتداعياته الخطيرة، لكي تكتسب شيئاً من الصدقية فإنها يجب أن تكون نتاج عودة وعي واستعداد لتحمّل المسؤولية كاملة ودفع ثمن التفريط في القيام بالواجب كما ينبغي، وليس مجرد توصيف ذرائعي لاستدرار تعاطف أعضاء المجلس الوطني لتمرير إعلان حالة الطوارئ، وهو ما لا يحتاجه أغلبيته الموالية للسلطة التي درجت على تمرير كل ما تريده في كل الأوقات بغض النظر عن وجاهة أو حتى مشروعيته الدستورية في كثير من الأحيان.

 

(6)

بالطبع لا يكفي أن تسوق الحكومة كل هذه الاعترافات البالغة الخطورة عن الدمار الذي لحق باقتصاد السودان، فقط لتبرير إعلان حالة الطوارئ، فكل هذه الجرائر العظيمة في حق الوطن لم تحدث فجأة، ولم تهبط من السماء، كما لم ترتكبها كائنات مجهولة، بل هي في الحقيقة نتيجة مباشرة لتفشي”الفساد المالي والإداري الممنهج” كما أقر بيانها بذلك نصاً، وهي خطايا لم تقع سهوا بل حدثت بصورة “ممنهجة” جراء تمكين الطبقة الحاكمة التي احتكرت السلطة والثروة على مدار العقود الثلاثة الماضية، وأدارت موارد البلاد الغنية لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الشعب والوطن، لذلك ليس مقبولاً أن تقف السلطات عند حد توصيف أحوال الاقتصاد المنهارة، وتتجنب تشخيص الأسباب المعلومة التي قادت إلى ذلك، ثم تصمت ليس عن تحميل

المسؤولية للمتسببين في ذلك عيناً فحسب، بل تطلق عدة أوامر طوارئ ليس لتقديم هؤلاء الذين تسببوا في كل هذه الجرائم إلى العدالة، ولا لمعالجة جذور البيئة المحفزة المحمية بسلطان الدولة التي مكّنت لهذا التفشي لنهب الاقتصاد الوطني، بل لتخاطب بعض الظواهر المترتبة على تردي الأوضاع الاقتصادية، وبدت معنية فقط بما يحدث بعد إعلان حالة الطوارئ، أما ما سبقها من انتهاكات جسيمة وفاضحة في إهدار الأموال العامة والتعدي على ثروات البلاد المنهوبة فقد سكتت عنه وكأنه لم يكن بنهج عفا الله عما سلف، مع أنهم لم يبقوا اصلاً شيئاً فيه مجال للإفساد وقد ذبل الزرع وجف الضرع.

 

(7)

ولعل أخطر ما يعنيه ما ورد في البيان الحكومي في شان تبرير إعلان حالة الطوارئ أنه يأتي بمثابة “موت معلن لسلطة الحكم” وإقرار تنعي فيه عجزها عن القيام بالحد الأدنى من واجبها ومسؤوليتها تجاه الحفاظ على موار البلاد وحمايتها من الفساد ، لأن السؤال البسيط أين كانت هذه السلطات وهذه التجاوزات المرعبة ظلت تحدث تحت سمعها وبصرها لعقود وفق “فساد مالي وإداري ممنهج” تسنده آفة التمكين للطبقة المتحكمة، ثم تحتج بأن القوانين الجنائية السارية لا تحيط بها ولا تحبطها، ولذلك فإنها تلجأ لإعلان حالة الطوارئ، حسناً وما دام الأمر كذلك فالسؤال المنطقي لماذا انتظرت الحكومة كل هذه السنوات لتلجأ إليها الآن بدعوى محاربة الفساد ما دامت تعتقد بنجاعتها؟!

 

(8)

ولكن هل كانت المشكلة فعلاً تتعلق بعجز القوانين أما بالافتقار للإرادة السياسية الحاسمة لمكافحة الفساد والإفساد المنظم، أو ما يعتقد الكثيرون أنه يحدث بصورة ممنهجة ومحمية لصالح الطبقة الحاكمة المتنفذة، كم مرة سمع الناس عن حملات لمحاربة الفساد وانتهت إلى نتائج غامضة، تستراً أو منعاً لأن تأخذ العدالة مجراها، ثم يتهامس الرأي العام بأن الأمر لم يكن أكثر من مجرد تصفية حسابات داخلية في إطار لعبة الصراع على السلطة والنفوذ.

ومثل تلك الممارسات الفاسدة التي قادت لإنهيار العملة الوطنية هل كان يخفى علي السلطات أنها حدثت بفعل تورّط شركات حكومية، ولذلك كان أول قرار أعلنه وزير المالية السابق عقب أول اجتماع للجنة سعر الصرف”منع الشركات الحكومية من شراء العملات الأجنبية من السوق الموازي”، وهو ما لم ينفذ حتى يوم الناس هذا فلا تزال تسرح وتمرح في سوق العملات كما يشاء لها. وبات معلوماً في سوق النقد المازي ما أن تسجل العملة الوطنية المزيد من انهيار قيمتها المتداعية أصلاً حتي يكون السؤال عن “من هي الجهة الحكومية التي دخلت السوق”!

 

(9)

ألم تكن السلطات تعلم أن بنك السودان المركزي المنوط به حماية قيمة العملة الوطنية هو نفسه من تسبب في انهيارها وهو يتعامل بالمكشوف مع “البنك المركزي الموازي” لتجار عملة معروفين كشفت عنهم “إيلاف” في تحقيق شهير قبيل نوفمبر الاسود الذي شهد واحدة من أكبر انهيارات قيمة الجنيه السوداني.

 

أليست الشركات الحكومية هي نفسها التي تسببت في المضاربات في سوق المحاصيل ورفعت أسعارها إلى درجة تفسد تنافسية الصادرات السودانية في الأسواق الخارجية، لأنها محمية وتبحث عن الحصول على عملات أجنبية بأي ثمن بغض النظر عن تأثيرها السلبي الضار على الاقتصاد الوطني.

 

(10)

أليست الشركات الحكومية نفسها التي جرت محاولة خصخصتها قبل بضعة أعوام بقرار رئاسي تحايلت على ذلك، بإعادة إنتاج نفسها مع تغيير بعض المسميات. أليست الشركات الحكومية المملوكة للأجهزة النظامية المختلفة هي من تسيطر على نحو أو آخر على الاقتصاد الوطني على الرغم مما تنص عليه الاستراتيجية الرسمية للدولة أن القطاع الخاص يجب أن يستحوذ على 83% من حجم الاقتصاد.

 

ولا حاجة لحديث عن الفساد المستشري في الجهاز المصرفي وغيره، فقد كفانا البيان الحكومي أمام المجلس الوطني مؤونة التفصيل فيه، فالسلطات تعرف أكثر من أي طرف آخر حجم الفساد وانتشاره في المجالات شتى، والتحجج بأن القوانين العادية ليس كابحة بصورة كافية للفساد قول مردود ما دامت سكتت على ذلك طوال هذه الفترة، فما كان غائباً هو توفر الإرادة لا القوانين، وأكثر من ذلك أن المجلس الوطني المنوط به محاسبة الجهاز التنفيذي ها هو يمرر إعلان حالة الطوارئ دون ان يكلف نفسه الوقوف عند هذه المبررات الكارثية، ومحاسبة المسؤولين عنها.

 

(11)

بيد أن أكثر الآثار السلبية لإعلان حالة الطوارئ هي تعميقها لأزمة الثقة الراسخة وسط الرأي العام والقوى السياسية تجاه السلطة الإنقاذية، فقد أذهب بعض بوادر الأمل في صدقية وعودها بنهج جديد في مقاربة المأزق الراهن الذي يمسك بتلابيب البلاد، مغالطة تعهدات البيان الحكومي للواقع وهو يعلن “ليست الغاية من إعلان الطوارئ أن يكون سيفاً مسلطا لقهر الشعب إو إذلال المواطنين أو مصادرة الحريات والحقوق الأساسية، لكنه إجراء وقائي ودرع وطني تدافع به الدولة عن كيانها واستقرارها لحماية البنية الاقتصادية للدولة من

الانهيار، والدليل على ذك أن جل أوامر الطوارئ تتعلق بتدابير احترازية اقتصادية وإدارية بحتة”، وينظر المواطنون للواقع المعاش فلا يرون إلا عكس ما بشروا بها، فها هي الأجهزة النظامية المعنية والعدلية تتسابق وتسارع بكل “همة” و”حزم” لقمع المحتجين الذين يمارسون حقاً دستوريا يفترض أن يكون مصاناً، أما ما قيل في شأن أهميتها لحماية الاقتصاد من الانهيار فلا يرون من ذلك إلا القطط السمان تسرح وتمرح آمنة من أي حساب ولا مساءلة ولا عقاب، وما عرف الناس بعد مرور شهر كامل على إعلان الطوارئ حالة واحدة ذات شأن سيق فيه مفسد كبير شخصاً أو جهة اعتبارياً لمحاكمها.

 

(12)

ما أقرت به السلطة الحاكمة بنفسها في المجلس الوطني يكفي وحده ليكون الف سباب لأهمية الدعوة للتغيير وحتمية حدوثه، لا تحلموا بغد أفضل، فخلف كل حكومة إنقاذية تذهب غير مأسوف عليها، تأتي من بعدها حكومة تؤكد أن الحاجة للتغيير الجذري لم تعد مطلباً أو اختياراً بل الفريضة الغائبة بامتياز التي لا مناص منها. فقوموا إلى أدائها يرحمكم الله.

السودان تربيون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.