عبدالله الشيخ:(كسور وبواقي)..!

ما تشتريه بحفنة جنيهات في الخرطوم، ثمنه العشرات منها في قرى الشمال، التي يشكو أهلها من تفشي السرطان.. لا يوجد مسح أو دراسة علمية تتحدث عن أسباب تفشي المرض، أو عن معدلات الإصابة بذلك الداء الذي تسبب في هلاك الكثيرين، لكن خبر الموت به لم يعُد يستدعي دهشة المندهشين.

هناك ضيف عزيز حل بين أهل الشمال هو الكهرباء.. وصل التيار الكهربائي إلى بيوت الأهالي قبل سنوات قليلة.. بفضل من الله، شربوا الماء البارد والمشتهى في تلك الفلوات.. اليوم يتنادون للاستفادة من الكهرباء في رفع المياه من مجرى النيل لري جناين النخيل وزراعة البرسيم والبقول.

في هذه الأيام ينحسر نهر النيل حتى يصبح شريطاً ضيِّقاً وكسيحاً.. خلال هذه الأيام وحتى يونيو.. ينشغل أهالي القرى بالعمل في نفير جماعي لحفر الكوديق وتوصيل مضخات المياه بحفرة في الرمل تربط مضارب الماكينات بتيار النيل الرئيسي.. حفر الكوديق قد يستمر بشكل يومي بين أهالي القرية.. لأن النيل في هذا الوقت من العام يبدي شروده وعزوفه عن الضفاف، كأنه يضيق ذرعاً بساكنيه.

الأرض عزيزة عند ضفة النيل في شمال السودان، والمساحة المزروعة صغيرة وملكيتها تشققت بالتوريث.. فلم يعد الفرد هناك يمتلك غير كسورٍ قليلة، (كسور وبواقي)، لكن الهوس الذي ضرب الناس لحيازة الأراضي في الصحراء حفزته السلطات وشركات الاستثمار عندما وضعت يدها على الأراضي الصلعاء، فاستشرى هوس حيازة الرمل بين الناس، دون توفر مقومات الاستصلاح.

الناس هناك يبحثون عن رخاءٍ مُتَوَهَّم لم يجدوه في جروفهم الضيِّقة على ضفاف النيل، ولديهم قناعة راسخة بأن صحراء العتمور أفضل من السواقي الطين، علماً بأن أياديهم مغلولة عن الاستثمار في البراح بسبب إجراءات رسمية تفرضها الحكومة، التي لا تمنح التصديقات لزراعة أي أرض فوق الظلط، بحجة أن تلك الأرض حكومية وليست للأهالي.

الناس هناك يسمعون فقط ما يعجبهم من قول الذي يقول.. رأيت أفراداً من جماعة التفكير في الهجرة يجادلون أحد المصلين بجوار الجامع لإقناعه بالترحال معهم. وقفت أتَسَمَّع تعليقاته على الأطروحة وأنا عليمٌ بنوعية الردود الجاهزة، القابعة في طرف اللسان.

أهم الصروح أنشئت في القرية لأن أحد المحسنين من بلاد الخليج اكتشف فجأة ذلك الجُغُب، أو ما يسميه البعض بعبقرية المكان القابع في طي النسيان، فتبرع بتشييد مسجد في مكان الزاوية.. في باحة المسجد يلتقي أهل القرية في أوقات الصلاة وفي المسائيات، ويقيمون مناسباتهم في المسجد الذي أصبح قبلة لعابري السبيل ولجماعة التفكير في الهجرة.

عدد الشباب خفيف جداً، مقارنة بذوي المشيب.. الشباب إما هاجروا إلى بلاد النفط أو غادروا إلى المحس بحثاً عن (الدَّهبْ) ومن بقيّ منهم قاعِد في الحلّة لكي يحرس العَقاب.. الأنس يطيب مع العواجيز، الذين أرهقتهم الأيام صعوداً وهبوطاً.. أولئك العواجيز لديهم رصيد من السخرية يتدفق في وجه الخرطوم، يكاد يطرح أرضاً، كل دعايتها وكل تصريحاتها.

 

اخرلحظه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.