سلسلة: قراءات في الواقع السياسي السوداني(4) يا علماء السودان لا تخافوا من العلمانية خافوا من الظلم والفساد

في مقال سابقٍ جداً قلت إنّ هناك اختزالاً كبيراً قد وقع في مفهوم تطبيق الشريعة الإسلامية، فبعد أن كان مفهوم تطبيقها يشمل إصلاح الدنيا وعمارتها وبناء الإنسان والأوطان أصبح لا يعدو مجرّد تقنين القوانين وإقامة الحدود العقابية الخمسة أو الأربعة ومنع التعري ونحو ذلك، وبعد أن كان تطبيق الشريعة يخلق مجتمعاً صالحاً راشداً متزناً، أصبح تطبيقها يفرز مظاهرَ من النفاق المجتمعي ومعاصي الخلوات وفساد الباطن، وكلّ هذا مرده لتخلّينا عن المفهوم الشامل للشريعة الذي يهدف أولاً إلى إصلاح الإنسان و الأرض.

ولأنّ الحديث عن خلل المفاهيم حديثٌ طويلٌ وذو شجون فسأكتفي فيه بما قلت تاركاً المجال لذكاء القارئ الكريم وملاحظته لإكمال باقي تفاصيل الصورة التي تمّ تشويهها وطمس كثيرٍ من معالمها وأكتفي بأن أكرر القول بأنّ تطبيق الشريعة الإسلاميّة في مجتمعاتنا الإسلاميّة لا يقابله في النقيض الآخر العلمانيّة أو اللادينيّة كما يظن كثيرٌ من الناس الذين يشغلهم الحديث عن اليسار واليمين والشريعة و العلمانيّة وربما وجد بعضهم في هذا الحديث شُغلاً له وهُويّة تقدّمه للناس. إنّما يقابل الشريعة وتطبيقها في الطرف الآخر الفساد في الأرض والظلم والبطش ومخالفة هدى الله تعالى، قال تعالى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)

قلت في مقال سابقٍ “أني لا أريد من القارئ الكريم أن يتهمني بالترويج للحكم العلماني في السودان أو في غيره، فأنا لست ضد فكرة العلمانيّة بل ضدّ فكرة افتراض وجودها! فإن كان فصل الدين عن السياسة يعني العمل بالأصلح في الواقع وترك الدين؛ فإن الإسلام إنما يأمرنا بالأصلح! وإن كان يعني هجر الدين لأنه يفسد السياسة فالإسلام لا يفسد السياسة، ولهذا لا قبول عندي لفكرة إمكان وجود العلمانية عند المسلمين في الحكم إلا من باب المزايدة السياسيّة أو رغبةً في الانحراف بالسياسة نحو المصلحة الخاصة والأصغر باسم العلمانية وترك الإسلام الذي يدعو لتحقيق المصلحة العامة و الأكبر”.
فإذا كانت السياسة العلمانيّة مبنيّة على المصالح الحقيقيّة المعتبرة فإنّها في هذا لا تخالف الإسلام، وإذا مبنية على الهوى والتشهّي فهي خطأ في نفسها دون الحاجة لمقارنتها بالإسلام، ففي كلا الصورتين لست أرى تقابلاً بين العلمانيّة و الحكم بالإسلام.

والرائي للواقع والتاريخ يدرك أنّ الخطر والتشوه في المجتمعات المسلمة لم يرِد من مورد الحكم بالعلمانيّة أو اللادينيّة في السياسة وإقصاء الإسلام، بل ورد من جهة الفساد والظلم واستغلال فهم الإسلام، فأول فتنة وقعت في الإسلام في عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه والتي قُتل بسببها وقتل الخليفة الرابع عليّ رضي الله عنه بل والخامس الحسن بن علي رضي الله عنه كلهّا لم تكن بسبب العلمانيّة بل بسبب اللبس في فهم الدّين والظلم والبغي، وسقوط الخلافة الأمويّة والعباسيّة من بعدها كان بذات السبب ولم يكن بسبب العلمانيّة، بل حتّى تشوهات المجتمعات في العهد العثماني وسقوط الخلافة العثمانيّة كان بسبب الضعف ومخالفة تعاليم الدّين. بل أمضي لأبعد من ذلك فأقول بأن التجربة التركيّة المعاصرة قد خدم فيها رجب أردوغان الإسلامَ بحزبه العلماني أضعاف ما خدم الإسلامَ الحزبُ الإسلامي لشيخه نجم الدين أربكان!.

المعادلة واضحة ولا تحتاج إلى ذكاء، أعطني إنساناً صالحاً واقتصاداً معافى وأمّةً قويّة أقول لك هذا مراد تطبيق الشريعة، ومهما أعطيتني من الشعارات الإسلاميّة مع ظلم الإنسان وفساد الاقتصاد وضعف الأمّة فالذي بينك وبين تطبيق الشريعة كما بين المشرقين ولو كتبت للصلاة والزكاة والرجم ألفَ قانون يحرسه ألفُ جنديّ.
لذلك أدعو العلماء والمفكرين وعامّة المسلمين بأن يجتهدوا في الخوف والحذر من الظلم والفساد والطغيان في أنفسهم وفي شخص من الحاكم فهذا ما يورد المهالك، أمّا العلمانيّة واللادينيّة فقد كفاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعائه إذ قال (وإني سألت ربي لأمتي ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم) ثم قال (وإن ربي قال: إني أعطيت أمتك ألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها، حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً) فانظر كيف أنّ الله ورسوله إنّما يحذراننا من الظلم والفساد وقد أمنانا من أعدائنا أعداء الدين.

لكلّ ما تقدّم فإني لست خائفاً من العلمانيّة وأظنّ أنّ الجانب الفنّي فيها والذي يتماشا مع أصل المصلحة في أصول الفقه سيمكنني من التعايش معها، وسيكون بناء المجتمع وتدينه هو صمام المحافظة على تعاليم الإسلام الشخصيّة و العامة، لكن ما لا يمكن التعايش معه قولاً واحداً هو الفساد والظلم وإهلاك الأرض والاقتصاد، هل عرفتم الآن ما هو عدونا الأول؟ أرجو ذلك.

ناجي مصطفى بدوي(*)

السودانى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.