السودان .. متابعة منذ 1971

في تموز من عام 1971 كنت في ادنبره أحضر مؤتمراً طبيا حين فاجأتنا الصحف البريطانية بنبأ انقلاب على حكم (الطاغية) جعفر النميري في السودان وقالت إنه كان مخططاً له باتقان وقد نفذ بدقة ( To The book ) ! لكن لم تمض سوى ثلاثة ايام حتى تدخلت قوات جوية ارسلها العقيد القذافي فاحبطته وجرى اعدام الضباط القائمين عليه، وخطب انور السادات في القاهرة متباهياً بأن للاتحاد (الذي كان قائماً ولو مؤقتاً مع ليبيا) أسنانا حادة استطاع أن يحمي بها الديمقراطية (كذا !) ..
النميري الذي تذبذب بين السياسة الاشتراكية عند انقلابه في 1969 والرأسمالية وانحيازه للغرب بعد سنوات قليلة ثم علاقته الحميمة مع انور السادات وتأييده له في مفاوضاته مع اسرائيل وعقد صفقة تهريب اليهود الفلاشا واعلانه عن بدء تطبيق الشريعة بالقاء اطنان من زجاجات الخمر في النيل وسط احتفال كبير تطبيقا لما سمي بقوانين ايلول 1983 التي اغضبت الجنوبيين وتسببت في تجدد الحرب الاهلية بعد هدوء أحد عشر عاماً منذ توقيع اتفاقية اديس أبابا 1972, وبعد عامين آخرين من القمع والغليان الشعبي المقابل قام وزير دفاعه عبد الرحمن سوار الذهب عام 1985 بانقلاب وسلم الحكم لرفاقه من الثوار المدنيين وفاءً بالعهد الذي قطعه لهم وكان بذلك أول ضابط في تاريخ الانقلابات العسكرية يتخلى عن السلطة لصالح الديمقراطية .
وفي آذار من عام 1987 كنا في الخرطوم لحضور مؤتمر وزراء الصحة العرب وكان وزير الصحة الذي استقبلنا هو جراح الاعصاب الدكتور حسين ابو صالح الذي كان نقيباً للاطباء وروى لنا كيف شاركت نقابته في الثورة وكيف نجح الثوار في اختراق النطاق الامني العسكري المزدوج الذي كان النميري قد حاصر به الخرطوم تحسباً من اي طارئ (ثوري) أو(انقلابي) ! وعند لقائنا برئيس الوزراء الصادق المهدي سعدنا كثيراً بحديثه الممتع عن الديمقراطية بعد دكتاتورية دمرت اقتصاد البلاد، وقد سمعنا من بعض المسؤولين في اتحاد نقابات العمال كيف بدأ النميري منذ 1971 بالانتقام من تلك النقابات واكبرها نقابة عمال السكك الحديدية لأنها ايدت يومئذ الانقلاب عليه فسرّح الآلاف من العمال وقلّص ميزانية اهم شريان حيوي في النقل البري هي السكك الحديدية التي قاربت الخراب .. وفي المساء كنا نحضر حفلة فنية في قصر الشعب حيث ابدعت فرق شعبية عديدة بعروضها الغنائية الراقصة التي كانت تعبر عن بهجة السودانيين بخلاصهم من الحكم الدكتاتوري واملهم بمستقبل زاهر مشرق, ولم يكونوا يعلمون أنه لن يمر وقت طويل حتى ينقض على السلطة الديمقراطية في حزيران 1989 جنرال آخر هو عمر البشير الذي أيده الاسلاميون بقيادة (الشيخ) الدكتور حسن الترابي من اجل تطبيق الشريعة لكن تحت مسميات أخرى خادعة مثل المؤتمر الشعبي القومي، وكما كان متوقعاً لم يستمر الحكم العسكري الجديد على نهج واحد ومع حلفاء دائمين فقد تقلب كثيراً على سياسات متعددة واختلف مع الترابي فأقصاه أو سجنه في اوائل 2000 وإذا بالاخوان المسلمين في الاردن يرسلون وفداً برئاسة المراقب العام لحل ذلك النزاع السوادني الداخلي (!) ما دفعني لكتابة مقال في 11/ 5/ 2000 انتقدت فيه تلك (الوساطة) ولم استغرب فشلها ، كما عتبت على القوى القومية والنقابات المهنية وكيف كانت تقبل الدعوات لحضور مهرجانات (المؤتمر القومي الشعبي السوداني ) وتبدي اعجابها بفكر الشيخ حسن الترابي !
وبعد .. فمن اجل بقائه في الحكم استمر عمر البشير في قمع كل اشكال المعارضة تحت راية الدين وفي تاجيج الحرب الاهلية باسم الحفاظ على وحدة الاراضي السودانية لكن ذلك انتهى بالتقسيم وانفصال جنوب السودان الغني بالثروات الطبيعية وفي مقدمتها البترول وتردت احوال البلاد فقراً وبطالة, وبقي الشمال معزولا لا يحظى الا بتأييد القوى الاسلامية داخل وخارج السودان .. وحكومات أخرى ! وبقي رئيسه مطلوباً من قبل محكمة الجيانات الدولية !

592cc133300a807fbfbd3432fd8b154c88e47d71

د. زيد حمزة
صحيفة الرأي


إنضم للواتسب


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.