يوسف عبد المنان: هل صلاح قوش من قاد التغيير سراً؟

في الأيام الأولي لانقلاب ٣٠ يونيو المعروف بثورة الإنقاذ، وهي تسفر عن وجه عسكري بقناع إسلامي شفيف، أخذ الهمس في مجالس الأنس وبيوت الأفراح والأتراح يدور حول هوية الانقلاب العسكري، وبدأ الحديث عن علاقة الانقلابيين الجدد بالجبهة الإسلامية القومية، وحينها تصدى لنفي التهمة قبل أن تصبح شرفاً، العميد حينذاك محمود قلندر رئيس تحرير صحيفة “القوات المسلحة”، وكتب مقالاً تحت عنوان هل هؤلاء الرجال جبهة؟؟

وأثار المقال جدلاً واسعاً في الساحة، ورد على المقال الراحل محمد الحسن أحمد ومن تكون الجبهة غير هؤلاء!!
واليوم يكثر الحديث، وتتمدد الأسئلة عن دور الفريق صلاح قوش المدير العام لجهاز الأمن والمخابرات في التغيير الذي طال النظام أو الثورة التي اقتلعت حكم البشير، ورمت به في غياهب الجب سجيناً، فهل الفريق صلاح هو الأب الشرعي للتغيير؟ ولماذا اختفى عن المشهد، وأي مستقبل ينتظره؟

وإذا كان العميد قلندر بقلمه العميق قد طرح أسئلة رجّت الساحة رجّاً، فإن كاتب هذه المقالة تلميذ تدّرب على يد قلندر، وله فضل كبير وآخرون في تدريبنا في مراحل التنشئة الأولى والتكوين، وإذا كان صلاح قوش ينظر إليه البعض كمنقذ من الإنقاذ فكاتب صحافي مبدئي في مواقفه مثل عبد الماجد عبد الحميد قد كتب مقالاَ مثيراَ عن من اعتبرهم عبد الماجد (خاينين) سرقوا المقعد من تحت الرئيس البشير في هجعة الليل، وقال إن التاريخ لن يرحمهم في إشارة صريحة إلى صلاح قوش الذي أثبت فاعليته وحضوره السياسي في المسرح إن كان في موقع تنفيذي أو في رصيف الانتظار الطويل.
وبالعودة للسؤال هل صلاح قوش هو الأب الشرعي للتغير؟

الإجابة بنعم عند البعض، ولا عند آخرين، ولكن بالعودة إلى ما حدث قبل وبعد، وفي يوم الثاني والعشرين من فبراير هذا العام، يقودنا إلى مؤشرات هامة، ففي ذلك اليوم بعث مدير الإعلام بجهاز الأمن والمخابرات برسالة لعدد من رؤساء التحرير والكتاب لدعوتهم لتنوير هام برئاسة جهاز الأمن، وبدأ صلاح قوش حديثه بالإشارة للأزمة التي تعيشها البلاد أو يعيشها النظام، حتى نكون أكثر دقة، وقال قوش إن التنوير وإحاطة الصحافيين بالمعلومات مسؤولية جهات أخرى، ولكن تلك الجهات لا تقوم بمهامها، لذلك يجد نفسه مضطراً للقيام بمهام الآخرين.

وأبلغ قوش العدد المحدود من الصحافيين عن حل سياسي تم التوصل إليه مع القيادة، ويعني البشير ومع المعارضة ممثلة في تحالف نداء السودان، وقضى الحل بإعلان الرئيس إيقاف الإجراءات الخاصة بتعديل الدستور، وفي ذات الوقت الإعلان عن عدم ترشحه للانتخابات القادمة في ٢٠٢٠، وحل الحكومة الحالية والتشاور مع القوى السياسية لتسمية رئيس وزراء (مُتوافَق) عليه من جميع القوى السياسية يضطلع بتشكيل مجلس وزراء من التكنقراط، وأن يستقيل البشير من حزب الموتمر الوطني، ويقف على مسافة واحدة من كل الأحزاب، ويتنازل عن سلطاته التنفيذية لرئيس الوزراء؟
واعتبر صلاح قوش تلك الوصفة المتفق عليها مع المعارضة أو بعض المعارضة من شأنها فك الاختناق الذي تعانيه الحكومة، وقبل انعقاد المكتب القيادي للموتمر الوطني، جرت مياه عديدة، وتبدل المشهد كلياً ونكص البشير عما اتفق عليه مع صلاح قوش والمعارضة؟

فمن وراء ما جرى ما بين العصر والمغرب، وما قبل انعقاد المكتب القيادي في الثامنة مساءً، فمن أثّر على الرئيس السابق في تلك الساعات الحاسمة؟؟
بالطبع أعضاء مكتبه القيادي كانوا على مسافة بعيدة مما جرى في دهاليز الحوار الذي لم يجر إلا بموافقة الرئيس نفسه، وبقناعته الذاتية، وفجأة يصدر نفي من الحكومة، ينسف كل ما نطق به صلاح قوش للصحافيين في ذلك المساء، وجاء خطاب الثاني والعشرين من فبراير الماضي، باهتاً حمّال أوجه بدّد آخر أمل لإصلاح الوضع السياسي، وإنقاذ البشير من محنته.
وفي اجتماع المكتب القيادي، جرت وقائع أخرى غير ما أعلنه صلاح قوش والذي شعر بالإهانه وبأنه قد فقد مصداقيته، ومنذ تلك اللحظة تغيرت أشياء وجرت مياه عديدة تحت جسور الإنقاذ التي شيدها المتعافي.

والسؤال الذي لا تملك أي جهة الإجابة عليه، مَن مِن القيادات قدّم نصيحته للرئيس برفض ومقاومة أي اتجاه لإبعاده عن المنافسة في الانتخابات، وهل تعيين الحكام العسكريين بعد خطاب الثاني والعشرين من فبراير الماضي، كانت فكرة ورؤية شخصية للرئيس؟ أم هي وصفة أمريكية تم تمريرها بطريقة ناعمة من خلال الفاتح عروة أكثر القيادات تأثيراً على الرئيس قبل سقوط الإنقاذ.
( ٢)
بعد إعلان الرئيس مباشرة وقف التعديلات الدستورية رفضت المعارضة ما أعلن، وصعّدت من لهجتها ودفعت الشباب للخروج بكثافة للشوارع بعد نهاية الخطاب الذي انتظره الشارع بفارغ والصبر، لسماع تأكيد قاطع من الرئيس السابق بعدم الترشّح، ولكن الهتافات كانت الدعوة للرحيل، وبدأت داخل القوات النظامية بوادر تمرد على التوجيهات القاضية بفض التجمعات بالقوة، قبل أن تداهم النظام مسيرة السادس من أبريل التي عبرت من أمام مبنى جهاز الأمن، ولم يعترضها أحد واقتربت من بيت الضيافة مقر إقامة الرئيس، وحينها كان صلاح قوش يراقب ما يجري، وقد تأكد للرجل بخبرته الطويلة في مواجهة التحديات والاحتجاجات في مختلف الظروف، أن النظام بات غير قابل للحياة، وفقد مبرارات وجوده بعد أن أتيحت فرص عديدة للإصلاح، ولكن وجدت تلك الجهود مقاومة شرسة، وبات كل من يفكر في مخرج يجد نفسه في صف المغضوب عليهم.
فهل انتصر صلاح قوش لنفسه وكرامته بعد أن أُجهض مشروع التسوية السياسية الأخير؟؟ ولماذا لم يطرح صلاح قوش على أعضاء المكتب القيادي للحزب ما طرحه على الصحافيين؟ وهل كان مثل هذا المشروع (التخريجي) سيجد مقاومة ورفضاً من أعضاء المكتب القيادي؟ أم يجد دعماً وسنداً ويشكل المشروع أو المبادرة مخرجاً؟
ولماذا ظل صلاح قوش يرفض بشدة أي مساس بالمتظاهرين، ورفض فض المعتصمين بالقوة أمام للقيادة العامة، واكد ذلك في حديثه للإمام الصادق المهدي.
(٣)

وضعت الاستقالة التي تقدم بها الفريق عوض ابن عوف وتنازله عن رئاسة المجلس العسكري، وجد الفريق صلاح قوش نفسه أمام واقع سياسي جديد دفعه للاعتذار هو الآخر عن عضوية المجلس العسكري، وقرر قوش الانسحاب من المجلس، ومعه رئيس الأركان الفريق كمال عبد المعروف، وتقلص المجلس العسكري لعدد محدود، وآثر قوش البقاء بمنزله في ضاحية الراقي، وأخذ يراقب السفينة التي أرغمته الظروف على مغادرتها والبقاء بعيداً في الظل.
ولكن فجأة غادر البلاد براً إلى مصر، حيث استقبلته المخابرات المصرية، مثلما استقبلت المخابرات الأثيوبية شقيق الرئيس البشير العباس، الذي سلك هو الآخر الطريق البري حتى القضارف مستغلاً بصاً سفرياً عادياً مثله وأي مواطن عادي، وفي النقطة الحدودية المشتركة وبعد تجاوز النقطة السودانية تم إبلاغ الإثيوبيين بأن هناك شخصاً مطلوباً يجب إعادته، ولكن المخابرات الأثيوبية أخذت في المماطلة، وتم نقل العباس للعاصمة أديس، ومن هناك إلى تركيا.
وإذا كان صلاح قوش ينظر إليه البعض باعتباره قد خان البشير، فإن آخرين ينظرون إليه كمساهم حقيقي في التغيير مثل حميدتي والبرهان.
ومن المفارقات أن قيادياً آخر قد سلك طريقاً عبر كردفان ودارفور غرباً إلى تشاد، ومن هناك إلى تركيا حيث يقيم الآن الدكتور فيصل حسن إبراهيم، ولكن لم يسلك أي قيادي دروب الجنوب.

والسؤال، هل كان صلاح قوش مطلوباً للمحاكمة؟؟
ولماذا لم تطالب أية جهة باعتقاله حتى لحظة خروجه من البلاد ؟ بما في ذلك قوى الحرية والتغيير التي فاوضها صلاح قوش في دهاليز الصمت، وحتى في المعتقلات جرى حوار بين المسجون والسجان، وهو حوار بطبيعته غير متكافئ نظراً للقيود المفروضة على المسجون والحرية التي يتمتع بها السجان واستحالة الوصول لاتفاق بينهما.
وبعد مغادرة صلاح قوش البلاد، والتعمية على مكان وجوده، هل يتوقع أن يعود مرة أخرى إلى الساحة السياسية سواء أكان من خلال الانتخابات البرلمانية القادمة بعد إلغاء النظام الرئاسي، وهل يستطيع قوش القفز نهائياً من سفينة الإسلاميين وتقديم نفسه كشخصية مستقلة؟ أم يعبر الجسر الفاصل بين الإسلاميين واليسار، ويخاطب الشباب الثائر الآن في الشارع بما يحقق لهم بعضاً من أشواقهم، ويخوض الانتخابات بشعارات جديدة معتمداً على كارزميته كسياسي بعيداً عن التيار الإسلامي، مثلما فعل ذلك في الانتخابات الماضية، عندما فاز في دائرة مروي معتمداً على رصيده الشخصي في بنك الجماهير بعد أن شعر بضعف رصيد حزب المؤتمر الوطني حينذاك في تلك الدائرة بصفة خاصة.
تتناسل الأسئلة الصعبة عما جرى في اليوم الأخير من حكم الإنقاذ ويقدم بعض قادة الحكم القادم والمعارضة سابقاً إفادات مهمة واعترافات وشهادات بشأن ما جرى.

وها هو محمد سيد أحمد الجكومي القيادي في الحزب الاتحادي الديمقراطي، وهو شاب شجاع جداً، واختار منذ وقت مبكر جداً معارضة الإنقاذ والمؤتمر الوطني، وتحالف مع الحركة الشعبية، وحينها كان أغلب أدعياء النضال اليوم لا يعرفهم أحد، يقول الجكومي الذي ينشط في التجارة، وهو يملك أشهر شركة حلويات في السودان، وينشط في اتحاد كرة القدم، وفي نادي المريخ، وعندما يقول إن قوش هو من صنع الثورة، وساهم في إسقاط النظام السابق، فهي شهادة من خصم وليس صديقاً، حتى يقدح البعض فيها، ويعتبرونها شهادة مجروحة.
ولكن صناعة الثورات أو رعاية الانقلابات وصناعتها وأبويتها لا تمثل منجاة من السجون والاعتقالات، فالترابي الذي حمل تلاميذه من الضعف إلى القوة تنكروا لكل أفضاله، وتم الزج به في السجن والإساءة إليه وقتله بالبطيء، والذين ينادون اليوم بجز عنق البشير، هم من كانوا مقربين يسافرون معه داخلياً وخارجياً ويقدمونه حتى في الاحتفالات الشعبية.
قيل إن صولاً من حرس السجون قد زجر يوماً أحد ضباط الصف بعنف لأنه أساء التعامل مع أحد المسجونين من السياسيين، فقال الصول للعسكري هذا سياسي بكرة بصبح وزير انت قايله سرق دكان. مع أن بعض السياسيين قد سرقوا وطناً بأجمعه، وليس دكاناً في قرية.
وصلاح قوش الذي اختار أو اختارت له الظروف التواري عن الأنظار في هذه الأيام حيث تطغى العاطفة على العقل، وحتى رفاق التغيير أغلبهم على خلاف مع صلاح قوش، بسبب الغيرة، ولكن وحده الفريق محمد حمدان حميدتي نائب رئيس المجلس العسكري يحفظ للرجل جميل صنعه، بل وقف حميدتي منافحاً عن جهاز الأمن والمخابرات الذي طالبت قوى اليسار بحله وتسريح قادته وجنوده انتقاماً منهم، وسعياً نحو تفكيك المنظومة الأمنية الوطنية، بزعم أنها منظومة توالي النظام السابق لتجريدها من مهنيتها التي حرست بها الثورة، بل الجماهير التي تدافعت من أمام رئاسة جهاز الأمن اتجهت للقيادة العامة دون أن يعترضها معترض بتعليمات صلاح قوش الذي أيقن منذ الثاني والعشرين من فبراير الماضي، أن الإنقاذ باتت نظاماً غير قابل للعيش.

باج نيوز

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.