علي ترايو يكتب: د.حمدوك رئيسا للوزراء.. ما الذي لديه من برنامج للسلام؟

بقلم: علي ترايو*

الدكتور عبدالله حمدوك (صديقنا العزيز الحميم) أدى القسم الغليظ واصبح الان رئيسا للحكومة. يأتي هذا الحدث التاريخي الجلل من بعد عقود ساد فيها ظلام دكتاتوري اسلاموي دامس و دموي ، فاشي ملعون ، كالح السواد ارتكب خلاله من ضمن جرائم كبري اخرى في حق الانسانية ، جريمة الابادة الجماعية هدف الى استئصال عرقي ممنهج لشعوب بعينها و قاومه و انهكه نضال بطولي مسلح قبل ان تكنسه “عنفوان سلمي” قاده بجسارة جيل العطاء من الشباب المستجيش ضراوة و المستميت على المبادئ من البنين والبنات على حد سواء وفي مشهد تاريخي دراماتيكي نادر الحدوث.

قبل ان نبدأ فيما نود اثارته، علينا ان نزج بالتهنئة الحارة للدكتور عبدالله حمدوك على تحمله لهذه المسؤولية التاريخية ونتمنى له كل التوفيق والسداد في اداء مهامه الصعوب.

وبالرغم من ان برنامج حكومته المرتقبة يحبل بكثير من الاجندة العاجلة و تحديات جمة، الا انه قد قرر استهلال حديثه بموضوع السلام كأولوية قصوى.

 

بالتاكيد كان ذلك مؤشرا ايجابيا لاحظه انصار السلام (وانا منهم) و استقبلوه بالغبطة والسرور متمنيين له كل التوفيق والسداد في كل مهامه الذي ينتظره عموم شارع الثورة.

وكان ذلك اقرار شخصي من الدكتور حمدوك بقيمة السلام التي لا تعلو فوقها قيمة ولا يستقيم اعوجاج الوضع الحالي الهش الا عبر تحقيقه. هنا تجول في اذهان كل محبي السلام جملة من اسئلة الدهر القديمة التي ظلت تؤرق مضاجعهم. وخوفا من اي احتمال قد تعرقل وتعصف بجهوده حول السلام المنشود من قبل القوى المضادة للسلام و عموم القوى المضادة للثورة وتذر جهوده الرياح و تحيل بالدكتور عاجزا، وحرصا على عملية السلام نفسها، علينا ان نطرح جملة من اسئلة عساه ان يستفيد منها و ان يفيد بها الجميع خاصة ضحايا الحرب و المتأثرين بها (من النازحين و اللاجئين) و يعم بها الفائدة لتحقيق أهداف الثورة و طموح الثوار الذين رفعوا بوعي شعار “حرية ، سلام و عدالة”. ومن هنا نسأل:

هل يستطيع الدكتور حمدوك تحقيق ما فشلت فيه كل انظمة “العهد القديم” من تحقيق للسلام باستخدام ذات الطرق و الوسائل و الاساليب القديمة ؟

 

خطورة عناصر العهد القديم على عرقلة عملية السلام- اذا كان سبب فشل حراس “العهد القديم” في تحقيقها للسلام (سواء في اكتوبر 1964 او ابريل 1985) هو معرفتها الباهتة لماهية السلام و قيمته وفي افتقارها للرغبة الصادقة وفي انعدام للارادة القوية وفي عوزها للوعي الدقيق باهميته وفي لامبالاتها بشعور ضحايا الحروب- كيف يريد الدكتور حمدوك ان يتفادى تأثير التناقضات التاريخية لذات العناصر القديمة و تجاذباتها السياسية علي سياسات حكومته حول عملية السلام؟

الخوف من الدور التخريبي لقوى العهد القديم

ما يجعل من تخوفاتنا اكثر مشروعية و يزيد من الحاحها هو سيادة مناخ الفقر المدقع في معرفة مفهوم السلام وقيمته ومحوريته واستحقاقاته التي تسود نفسية الكثيرين من الانتلجنسيا والنخبة السياسية واحتمال لجوء هذه القوة ضد عملية السلام وتجهض مسيرته وتحيل شعار الثورة المركزي (السلام) الى ركام.

ما هي الكوابح و التدابير العملية الرادعة التي يفكر فيها و يتخذها الدكتور حمدوك لمنع تغول عناصر تلك القوى الى ملفات السلام ؟

 

المحكمة الجنائية الدولية ICC و فرص التعاون في تسليم مجرمي الحرب

بما ان اقامة العدالة هو ركن اساسي في تحقيق عملية السلام ، خاصة في دارفور و ان تسليم مجرمي الحرب (الطاغية المخلوع البشير واعوانه) الى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) وفقا لقرار مجلس الامن الدولي رقم 1593 هو جزء اساسي لتكملة هذه العملية. هل على حكومة الدكتور حمدوك ان يطمئن مواطنيه من ضحايا الحرب بانها علي استعداد بتسليم هؤلاء المتهمين الى الـ ICC ؟.. هذا مع ملاحظة أن ضحايا الحرب اكدوا بالقول و الفعل بانهم لن يتركوا حجرا الا قلبوه حتى يتم تسليم هؤلاء المجرمين ليواجهوا عدالة ناجزة.

كما ان ضرورة تعاون الحكومة السودانية مع محكمة الجنايات الدولية هو من شروط تعاون المجتمع الدولي مع السودان في كل المجالات الحيوية.

 

ملاحظات هامة ذو صلة بالسلام

فضلا عن الأسئلة اعلاه هناك جملة من ملاحظات هامة و ضرورية ذات صلة بموضوع السلام ولابد للقوى المحبة للسلام ان تضعها في الاعتبار وهنا نكتفي بذكر بعضا منها.

اولا:

يجب على الجميع ان تلاحظ ان تركيبة شعار الثورة بشكله الثالوثي “حرية ، سلام و عدالة” لم تموضع مبدأ السلام بهكذا الترتيب بالصدفة. الشعار قد تم ترتيبه بهذه الكيفية مراعاة لاهمية محورية السلام لما له من دلالات عميقة و دور محوري في ربط هذين المبدئين المحوريين (حرية و عدالة) ليضعهما في نسق متكامل منسجم. اذا كان الشعار بكليته يعكس جملة تطلعات الشعب السوداني ، فان ركن السلام منه هو انعكاس مباشر لتطلعات و مشاعر ضحايا الحرب من النازحين و اللاجئين و كل المشردين و هو دعوة ملحة لضرورة تحقيقه بشكل كامل وشامل و دائم.

لذلك اية استهانة بعملية السلام تعتبر خيانة وجريمة تاريخية لا تغتفر، ليس فقط في حق ضحايا الحرب ولكن في حق جموع جيل الشباب الذين ضحوا بارواحهم. فالذي نجا من جحيم اغتصاب أو حرق لدياره او شرد الى فيافي مجهولة او نجا من عملية الابادة الجماعية ، من الطبيعي ان يكون اولويته السلام و سوف يستهجن بقوة و يستنكر بشدة و يقاوم بأقوى الوسائل اي تكالب رخيص او لصوصية thievery سياسية او احتيال سافر أو سطو للسلطة بوسائل غير شرعية. لذلك الامر يقتضي اليقظة التامة.

 

ثانيا:

فيما ان السلام عملية شاملة و مسألة متكاملة و يتطلب تحقيقه الرغبة الصادقة و الارادة القوية و الوعي الصارم بقيمته وكيفية تحقيقه وسبل انجازه، إلا ان الإشكالية الكبرى هنا في حالنا السوداني تكمن في شح هذه المطلوبات (ان لم تكن معدومة كلية) في ماعون الثقافة السياسية السودانية. وما يزيد من سوء الحال ان أمر كراهية السلام او الالتفاف حوله او محاولات تقويضه او النكوص من التزاماته لا تختصر فقط في سياسات و ممارسات تلك القوى الشريرة التي أشعلت الحرب (من الفصائل التي تعتمد الاسلاموية مرجعية) و أدارت الابادات الجماعية في عهودها المختلفة (في مقدمتها نظام الانقاذ).

ان امركراهية تطلعات جماهير الهامش تعشعش في مخيلة ونفسية كل القوى ذات العقلية العنصرية ولذلك تراهم يصطفون (عند اللزوم) لمقاومة اي افكار لعملية السلام.

هذه العقبة الكؤودة تشكل تهديدا لعملية السلام وتحتاج الى فطنة يقظة سياسية من قبل أنصار السلام. من الحالات النادرة و غير السوية في سياق الثقافة السياسية السودانية هي تلك التي تجدها في سيكولوجيا الانتلجنسيا الثقافية و النخبة السياسية السودانية. هذه القوى السياسية (بالرغم من انها قد خرجت من رحم دولة تعتبر الحرب جزءا عضويا من تاريخها و انها قد عانت من ويلات الحرب) الا انها تفتقر الى الوعي بقيمة السلام و لا تبالي بقيمته !!!

 

ثالثا:

ضرورة الوعي بشمولية قيمة السلام

في ظل طغيان حالة الغفلة المثقفاتية النخبوية الشاذة هذه، يجدر بانصار السلام ان نذكر وننبه بان عملية تحقيق السلام لا تختصر او تنحصر فقط في وقف للحرب و إنهائها و ترتيبات أمنية تضمن امن العودة الطوعية للنازحين وللاجئين وتعويضهم المجزي وحل لقضايا الارض كموضوع للنزاع وتحقيق للعدالة الناجزة لمرتكبي جرائم الحرب. هذه كلها معالجات لافرازات الحرب.

فأمر السلام هو أوسع و تحقيقه اعمق. لا تكتمل قيمة السلام إلا حينما نعتبره اطارا سياسيا الامن و الامان تتم من خلاله تكريس الحريات (العامة و الخاصة) و تأطير للديمقراطية و مشاركة منصفة للسلطة وتوزيع للثروة وإعادة لهيكلة أجهزة الدولة (الامنية منها والمدنية) وسن لتشريعات حماية الطفل وتمكين للمرأة و تقليص لميزانية الحرب و معالجات للعلاقات الدولية و الى اخره من ركائز الحكم الرشيد.

السلام في مفهومه الاوسع هو بمثابة السلسلة الفقرية للجسم ، بكسرها سوف تشل الجسم من عاليه الى اسفله و هو مركز الجهاز العصبي لاية منظومة سياسية مستقرة لرفاهية المواطن و هو يمثل الوتد الركين الذي اذا انهار سوف تنهار معه كل هيكل سليمان وهي بمثابة ركن “الشهادة” عند المسلمين التي بغيابها سوف تفسخ بقية الاركان الخمسة. لكن اهم من هذا و ذاك كله انه في حالنا السوداني فان قيمة السلام الكبرى تكمن في كونها السلاح (السنين) و السيف البتار الذي يحارب به إرهاب الدولة المليشيوية الاسلاموية العميقة ويفكك به اركانها.

 

ان مهددات الثورة والتغيير في السودان (كما اثبتته التجارب) تكمن في شيوع العقلية القديمة الكسيحة و المستهترة ولذلك لابد علي انصار السلام من مكافحة مظاهرها من الخداع و التضليل و الاستهبال و (الاونطة) و البلطجة و الاحتيال وكل الاساليب القديمة.

الثورة يجب ان تحارب بكل قوة و رباطة الجاش كل صنوف امراض السودان القديمة بمثل ما يحارب العالم مرض “الايدز”. لا يجب ان يسمح التسريب الى جسد ثقافة الثورة اي من مخلفات نظام الابادة الجماعية من العنصرية البغيضة و الفاشية العضوض والاقصائية والجشع و ضيق الافق وكل الامراض المعدية. لذلك لابد من الويل والثبور لعناصر منظومة السودان القديم بعقليتها الملتوية وبسلوكها الملفوح و تفكيرها الحامض و بشخوصها المترهلة و رموزها المحتضرة و اطماعها و جشعها.

رابعا:

في شأن مفوضية السلام المرتقبة

نصت وثيقة الإعلان الدستوري (المختلف عليها) على وجوب تشكيل مفوضية للسلام لتوكل اليها مهمة تحقيق السلام (بما في ذلك عملية التفاوض مع الحركات المسلحة). ما يمكن ان نبديه من ملاحظة في شأن هذه المفوضية بعجالة هو ضرورة إسناد رئاسة هذا الجسم الى شخصية تتوفر فيها كل مقومات “صانع السلام” من ( الاستقامة في السلوك و الوعي و الادراك الكافي بأهمية السلام و سيادة قيمته و الإرادة القوية و الرغبة الصادقة). ذات الصفات يجب ايضا ان تنسحب على بقية اعضاء المفوضية و ان تنفيذها من مسؤولية رئيس الحكومة الذي يقع على عاتقه الإشراف المباشر و المتابعة اللصيقة.

خامسا:

في العلاقة مع قادة المقاومة المسلحة ذكر الدكتور حمدوك بأنه على معرفة بقادة الحركات المسلحة وقال بأنه يعرف الكثيرين منهم عن قرب وقال انه قد تحدث الى بعضهم و استمع إليهم بانتباه.

من المؤكد ان هذه العلاقة محمدة كبيرة و رصيد ايجابي لبناء ارضية للثقة وتصب لصالح عملية السلام (او هكذا يجب أن تكون). الدكتور حمدوك كونه ينحدر من الهامش و يعيش معاناته و يشارك مشاعر جماهير الهامش يجب ان يوظف هذه العلاقة بشكل جيد ليعزز بها الثقة التي تلعب دور حبل الوريد في عملية تحقيق السلام.

سادسا:

ملحوظة أخيرة، يجب على الجميع أن يعي و يدرك تماما انه ليس هناك قوة (لا أرضية و لا غير ارضية) تستطيع ان تجبر ضحايا الحرب في دارفور او في مناطق الحرب الاخرى (جبال النوبة و النيل الازرق) على التنازل من حقهم في تحقيق السلام الكامل الشامل بكل استحقاقاته من امن و عدالة. تلك هي الضمانة الوحيدة لاكتمال شعار الثورة (حرية ، سلام و عدالة).

له تحياتنا و تهانينا مجددا الصديق الحميم الدكتور عبدالله حمدوك مع تمنياتنا له بالنجاح في سعيه الصعوب لتحقيق حلم الثورة (حرية ، سلام و عدالة) .

* عضو مفاوض ومنسق فريق العمل الإنساني لحركة تحرير السودان (مناوي)ومسؤول العلاقات الخارجية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.