زهير السراج : حول البرنامج الاقتصادي !!

وعدت في مقالة سابقة بنشر المقالة (المحاضرة) للخبير الاقتصادي السوداني الدولي للدكتور (التجاني الطيب إبراهيم) حول البرنامج الاقتصادي الذى طرحه وزير المالية في مؤتمر صحفي بتاريخ 23 سبتمبر، 2019 ، وها هي بعض مقتطفات منها، أرجو أن نقرأها بهدوء وتمعن.

 

* عقد وزير المالية الانتقالي مؤتمراً صحفياً مطولاً شرح فيه الخطوط العريضة لبرنامج اقتصادي “نهضوي” يمتد لمدة عشر سنوات بما في ذلك الفترة الانتقالية، وينقسم إلى ثلاثة مراحل، المرحلة الإسعافية الأولى (أكتوبر 2019م إلى يونيو 2020م)، وتطلق فيها مبادرات إصلاحية بهدف كبح جماح التضخم (غلاء الأسعار) وتوفير السلع الأساسية، على أن الإطلاق لا يعني الإنجاز، حسب قول الوزير. المرحلة الإسعافية الثانية (يوليو القادم إلى نهاية العام 2020م)، وأهم ملامحها البدء في التعامل مع قضية الدعم وزيادة الأجور. أما المرحلة الثالثة فهي مستقبلية تهدف – بعد طرح التحولات الهيكلية “العميقة” التي ستتم في السنوات الأربعة القادمة – إلى الاستمرار في التحول إلى اقتصاد يعتمد على “المعرفة والابتكار” ومشروعات استراتيجية كبرى كخطوط السكة حديد العابرة للدول، وتحويل سواحل البحر الأحمر إلى ميناء إقليمي لخدمة الاقتصاد الوطني واقتصادات الدول المجاورة عديمة المنافذ البحرية. فيما يلي، بعض الملاحظات العامة حولها:

 

أولاً: كان الاجدر في اعتقادي بدلاً عن الحديث عن “برنامج نهضوي” يمتد لمدة عشر سنوات، التركيز على برنامج إصلاح اقتصادي متوسط المدى يغطي فترة الحكومة الانتقالية بهدف تركيز الاقتصاد عند نهاية تلك الفترة، وما بعد ذلك فهو شأن الحكومة الشرعية التي سيتم انتخابها، لأن البرامج الاقتصادية لا تورث. أما الحديث عن ضرورة “عقد اجتماعي يؤسس للشرعية الاقتصادية”، فلا علاقة له بالرؤى والبرامج الاقتصادية للشرعية الانتخابية، لأن الثوابت الاقتصادية (مثل العدالة الاجتماعية، اللوائح والقوانين التي تنظم حركة الاقتصاد…الخ) متعارف عليها وموجودة دون الحاجة إلى “عقد اجتماعي”.

 

ثانياُ: للأسف ركز المؤتمر على استعراض السمات العامة للبرنامج فقط دون ذكر أي أهداف كمية (مثل معدلات النمو، التضخم وغلاء الأسعار، عرض النقود، البطالة)، أو أي سياسات وإجراءات وآليات تنفيذ خلال المرحلة الإسعافية وما بعدها. وقد يكون ذلك جزءً من أسرار المهنة، بحيث يعلن كل ذلك عند بداية تنفيذ البرنامج، الذي وصفه الوزير بالعملية الجراحية “العميقة”، التي “تستلزم الألم والمعاناة”، ما يعني بالعربي البسيط أن الأوضاع المعيشية ستزداد سوءً قبل أن تبدأ في التحسن.

 

ثالثاً: يعتمد نجاح البرنامج الإسعافي إلى حد كبير على حدوث السلام المستدام خلال ستة أشهر حسب توقعات الوزير. لكن في حال عدم حدوث ذلك، وهو أمر وارد، لم تُطرح بدائل لهذه الاحتمالية وانعكاساتها على أداء الخطة الإسعافية، ما يقلل كثيراً من الثقة في بلوغ الخطة غاياتها المرسومة وفق المراحل الزمنية المحددة، وتداعيات ذلك على البرنامج برمته.

رابعاً: الاعتماد على البنك الدولي كمرتكز أساسي للدعم المالي والفني مخاطرة غير محسوبة العواقب، وإضعاف للثقة المحلية في ملكية البرنامج الاقتصادي المقترح، مما يضر كثيراً بعملية إنزاله إلى أرض الواقع، خاصة وللبنك سمعة سيئة في الشارع السوداني حقاُ أم باطلاً، الامر الذى يستدعي الوقوف على مسافة واحدة من كل المؤسسات المالية والتنموية العالمية والإقليمية. لذلك نقترح عرض البرنامج قبل البدء في تنفيذه للنقاش المجتمعي المفتوح للتأكد من ملكية السودان له، وحشد الدعم الشعبي لضمان سلاسة تطبيقه.

 

خامساً: ما أثار الدهشة والاستغراب قول السيد الوزير: “طلبنا من البنك الدولي دعماً لانتقال ثلاثة خبراء سودانيين يعملون في البنك لانتدابهم للعمل في السودان مع القطاع الاقتصادي مع استمرار البنك الدولي في دفع رواتبهم”، علمتُ لاحقا ان أحدهم قانوني، والآخرين مختصان بالهيكلة المالية وتطوير القطاع الخاص!

* من المحزن والمسيء أن نعطي العالم انطباعا بأن سودان الداخل (35 مليون نسمة) لا يوجد فيه مثل هذه الخبرات المكتسبة. كما ان المجالات المذكورة لا تحتاج إلى خبراء مقيمين، لأنها في العادة تُجري لها دراسات يمكن تمويلها من البنك الدولي أو أي جهة أخرى، وتُنفذ توصياتها بواسطة السلطات المحلية بمساعدة خبراء زائرين إذا دعي الحال، بالإضافة الى ان كلمة “رواتبهم” لا تخلو من عدم وضوح، فالعاملون في المنظمات الدولية عندما ينتدبون للعمل في الخارج، يذهبون بقائمة من العلاوات (مثل علاوة الشدة، السكن، التعليم، السفر…الخ) بالإضافة إلى رواتبهم. والسودان مصنف بلد شدة، تتراوح علاوتها بين 30 – 40% من المرتب. هذا يعني أن الخبراء الموعودين سيأتون إلى وطنهم بمرتباتهم زائداً علاوات تصل 60 – 65% من المرتبات، وهو ما يثير التساؤل لمن سيكون ولاء هؤلاء الخبراء، وكيف سيتعاملون مع أبناء جلدتهم الذين يعيشون على الكفاف، وربما يقومون بنفس أعمالهم، والأهم من ذلك، لماذا لم تطلب الحكومة من البنك وصندوق النقد الدوليين عمل كورسات تدريبية في السودان في المجالات المذكورة وغيرها لتدريب وتأهيل أكبر قدر ممكن من رأس المال البشري بتكلفة تساوي، وربما تقل، عن تكلفة الخبراء الثلاثة؟!

الجريدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.