أبو بكر عبد العزيز حسن، في العقد الرابع من عمره، تنحدر جذوره من الولاية الشمالية (مروي)، بيد أن المقام طاب لأسرته الكريمة بمدينة الخرطوم، وفيها نشأ وترعرع وفيها كبر وكبرت أحلامه وآماله وطموحاته، ولم يكن يدري أن الأقدار ستغير مجرى حياته، على عكس ما كان يخطط له، عاش تفاصيل محزنة ومرعبة، دخل في مغامرات وخرج منها، حدث كل ذلك منذ خروجه من السودان في العام 1993، متجهاً إلى لبنان بحثاً عن فرصة عمل أفضل، إلا أنه خرج منها واستقر به المقام في ألمانيا، تزوج من ألمانية اعتنقت على يديه الإسلام، لكنها تشددت كما يقول في تنفيذ تعاليمه، ومن ثم هربت بأبنائها وانضمت لتنظيم داعش بسوريا، وبهذا كانت معاناته في رحلة البحث المؤلمة والشاقة عن أبنائه، وتشرده في شوارع ألمانيا دون مأوى وعودته للسودان مرة أخرى دون نتيجة، حتى الاتصال المفاجئ من زوجته وإعلانها انضمامها لداعش، ثم تحولها من داعش لجبهة النصرة التي أصدرت إحدى محاكمها حكماً بطلاقها منه. الحلقة الماضية توقفنا عند تواصل أبوبكر مع أفراد المحكمة للذهاب إلى سوريا لأخذ أبنائه.
*لهذه الأسباب تركت زوجتي داعش وانضمت لجبهة النصرة
*رجل بر وإحسان دعمني لاسترداد أبنائي
أطفال هربوني إلى سوريا وهذا ما قلته لابنتي لتتجاوز المخاطر
*أبنائي لا زالوا يخافون صوت الطائرات حتى بعد عودتهم للخرطوم
*سأسامح زوجتي إذا رجعت لأبنائها
//////////
* ما هي جنسية أصحاب المحكمة الذين كانوا يتواصلون معك قبل ذهابك لسوريا؟
على ما أعتقد أنهم سوريون والذي كان يتحدث معي شيخ يدعى (أبو أحمد) وكانوا في تواصل دائم معي وهم يلحون على بضرورة أن آتي إليهم لأخذ أبنائي بأقصى سرعة.
* نرجع قليلاً للوراء.. كيف تم الانتقال السريع لزوجتك من الانضمام لداعش ثم لجبهة النصرة مباشرة؟
فترة الأشهر الستة الأولى كانت قضتها مع داعش إلا أنها وجدت وحشية ودموية في التعامل فهربت إلى (إدلب) حيث جبهة النصرة التي عقدت لها محكمة وهي التي سلمتني أبنائي.
* عدت للسودان وأنت لا تملك من المال شيئاً.. كيف دبرت أمرك لأخذ أبنائك؟
على الرغم من عدم وجود أي مال في يدي لكن كان عشمي في الله سبحانه وتعالى كبيراً، ومن اتصالاتي بجبهة النصرة، أخبروني بأنهم سيسلموني أولادي في أنطاكيا، ولكن كانت المشكلة كيف أسافر وكيف أتحصل على المال في الوقت الذي أمهلوني فيه فترة قليلة جداً جداً وهي عشرة أيام فقط وكانت تمر سريعاً، بعدها بدأت أسعى لتوفير ثمن التذاكر فذهبت إلى إحدى الوكالات بالخرطوم وطالبوني بأن أدفع نصف المبلغ والمتبقي شيكات، وأنا في قمة تفكيري فجأة التقيت بأحد الأشخاص فدلني على أحد الرجال الخيّرين بعد أن علم بقصتي وتعاطف معي، بالفعل ذهبت إلى ذلك الرجل في منزله وقصصت له حكايتي كلها وأنني على سباق مع الزمن من أجل أولادي، ولم يتوانَ في أن يقدم لي يد العون والمساعدة بصورة لم أكن أتوقعها على الإطلاق فقام بالتوصية لي حتى مع أشخاص في تركيا.
ذهبت إلى وكالة شيري فقطعت التذاكر لي ذهاباً وإياباً إلى تركيا وعبركم أشكرها جزيل الشكر.
* كيف بدأت رحلة السفر إلى سوريا؟
أولاً كان قراري الذهاب إلى سوريا، إلا أن القنصل في سوريا قال لي إنه لا يحبذ أن آتي لأنه لا توجد طريقة آخذ بها أبنائي لأن الأحوال الأمنية صعبة جدا، فكانت المحاولة إلى تركيا، لأن المسافة من إدلب لتركيا تستغرق ساعتين ومن إدلب للشام قرابة الأربع ساعات، وبالفعل سافرت لتركيا والحمد لله، ووفقت ووصلت إسطانبول فوجدت هناك شخصاً في انتظاري دعاني للذهاب معه على عربته، وبالفعل ركبت وتوجهنا إلى آخر محطة في المترو، ثم ذهب بي إلى الفندق، بعدها اتصلت بالقنصل والتقينا وحكيت ليه القصة كاملة فأعلن وقفته معي.
* وأنت تسابق الزمن.. بعد وصولك إلى تركيا واقترابك من أبنائك.. ألم تتخوف من أن يغيروا رأيهم بعدم تسليمك أبناءك فترجع مكلوماً محسوراً؟
أبداً.. كنت متفائلاً جداً على الرغم من المخاطر والعقبات التي ستعترض طريقي، وعند وصولي إلى تركيا أكدوا لي بأننا سنلتقي في الحدود، وبالفعل توجهت ناحية الحدود ولكنني فوجئت بأن تركيا تشهد تلك الأيام انتخابات والحدود مغلقة تماماً، لكنني ظللت لأيام في انتظار أن تفتح بوابة المعبر.
* أي مكان تم تحديده لك لتسليمك الأطفال؟
بحسب حديث ناس المحكمة المتواصلين معي عبر الواتساب فقد قالوا إنهم سيأتون من سوريا ليدخلوا إلى أنطاكيا ليسلموني أولادي، هم أيضاً قالوا إن هناك صعوبة لأن المعبر مغلق لذا لن يستطيعوا المجيء، فقلت لهم أنا سآتي إليكم في مكانكم فوافقوا بعد الاتفاق على مكان، وأثناء انتظاري في بوابة المعبر وجدت أطفالاً صغاراً في عمر 12 سنة قالوا لي: “تمشي تهريب”، في البدء استهزأت بهم وآخر الأمر علمت أنهم أفضل من يقومون بعمليات التهريب لعدم وقوع الأعين عليهم لصغر سنهم لذلك وافقت فوراً.
* على ماذا نصَّ الاتفاق بينكم؟
اتفقوا معي على أن أذهب وآتي مجاناً ولكن لا بد أن يتم دفع مبلغ معين لكل طفل من أطفالي الثلاثة.
* كيف بدأت الرحلة؟
امتطينا سيارة وتوجهنا بها لمسافة طويلة قبل أن نصل إلى نقطة معينة ومن ثم عبور الجبال بأقدامنا لمسافات طويلة جداً والطريق محفوف بالمخاطر ونحن نسمع دوي الرصاص فوق رؤوسنا حتى وصولنا للمكان المتفق عليه، فتم الاتفاق على أن يأتي بهم أفراد المحكمة بالقرب من مستشفى عسكري ومن ثم يذهب المهربون إليهم لأخذهم دون أن ألتقيهم لأن المنطقة خطرة للغاية.
* صف لنا تلك اللحظات العصيبة وأنت تلتقي بأولادك بعد فراق قسري طويل؟
صمت برهة والدموع تغالبه وهو يتحدث بوجع وألم شديدين قائلاً: (والله العظيم ما كنت مصدق إني حألاقي أولادي وقبل أن ألتقيهم اتصل بي المهرب وقال إن ابنتي الكبرى سميرة صاحبة الثمانية أعوام كانت تبكي بشدة وهي خائفة منهم فأعطوني لها عبر الهاتف وقلت لها: (سميرة أنا بابا ما تخافي أمشي معاهم الناس ديل جايبينك لي.. أنا منتظرك في الجانب التاني واحضني أخوك عبد الرحمن على صدرك)، لأن عبد الرحمن صاحب الثلاثة أعوام كان يبكي وبشدة وصوت بكائه العالي بين الجبال كان يمثل خطورة للمهربين، بالفعل نفذت ابنتي سميرة ما طلبته منها، بعدها جاءوا بهم ووضعوهم أمامي وكأنني في حلم، هرولت نحوهم وهم كذلك فاحتضنتهم وبكيت مر البكاء، بعدها سارعنا للدخول إلى أنطاكيا المدينة الحدودية ثم اتصلت بالقنصل الذي بدوره أرسل لنا سائقاً تركياً وأخذنا إلى السوق لشراء ملابس جديدة لأطفالي لأن ملابسهم كانت رثة للغاية وأشكالهم متغيرة كثيراً من الأوساخ، بعدها قطعت تذاكري من أنطاكيا إلى إسطانبول لمدة 17 ساعة، وعند وصولنا ذهبنا إلى بيت القنصل وقضينا بقية الليل ثم ذهبنا صباحاً إلى المطار ووجدنا القنصل في انتظارنا.
* ما هي الخدمة التي قدمها لكم القنصل وأنتم في طريق العودة للسودان؟
القنصل له الفضل الكبير في كل ما وصلت إليه بعد توفيق الله سبحانه وتعالى، والسلطات التركية في المطار وجدت أن أطفالي دخلوا تركيا وخرجوا منها عن طريق التهريب ثم وصلوا سوريا وهم (كاسرين فيز، أي واحد كاسر 220 دولار) وأن عليهم غرامة لا بد من دفعها وأنا لا أملك المال ووقتها فقدت الأمل، لكن عندما علم القنصل بذلك جاء سريعاً ودفع الغرامة وهي عبارة عن 1300 ليرة تركية وكان قد تبقى لإقلاع الطائرة ساعة ولم يفارقني القنصل إلا في صالة المغادرة، بعدها وصلت مطار الخرطوم ووجدته وضع لي توصية مع جهاز الأمن الذي قام بتذليل بعض الصعاب التي واجهتني في مطار الخرطوم، ولم يفارقوني حتى وصولي المنزل.
* ما هو شعور أبنائك ووالدتهم بعيدة عنهم؟
أبداً.. الوضع لديهم عادي فهم متعلقون بي بصورة كبيرة جداً، وغير مصدقين أنهم أصبحوا في أمان.
* كم هي أعمارهم؟
سميرة عمرها 8 سنوات، وإخلاص 5 أعوام، وعبد الرحمن 3 أعوام، وجمال عام ونصف، وهناك آخر رضيع معها.
* كيف كانت نفسياتهم بعد عودتهم للسودان؟
هل تصدقين، حتى الآن عندما يسمعون صوت طائرة يصحون من نومهم مفزوعين وهم يرجفون ويصرخون، لأنهم كانوا في منطقة الطائرات المقاتلة التي كانت تحوم حول رؤوسهم فكانوا يضعون من فوقهم الوسادات تفادياً لصوتها العالي، لذلك لم ينمحِ هذا المشهد من أذهانهم حتى الآن. أتمنى مع مرور الزمن أن يكونوا أفضل مما هم عليه الآن.
* هل ما زالت عند موقفها وأفكارها أم تراجعت؟
ربما تغير موقفها تماماً، وقد تكون في أشد حالات الندم، فقط أشير إلى أنها ومن خلال رسائل متبادلة بيننا عبرت لي عن ندمها لسفرها دون إذن مني كزوج.
* هل ستسامحها إذا عادت لك؟
صمت برهة ونظر نحو الأرض وقال: (المسامح كريم، هي أخطأت واعترفت بخطأها، عودتها إذا حدثت ستكون لصالح أبنائها، وأنا سأسامحها لوجه الله تعالى).
السوداني