عبداللطيف البوني : النور حمد

(1)
رغم أننا من منطقة جغرافية واحدة إلا أنني لم أحظ بلقائه إلا مرات قليلة تحسب على أصابع اليد الواحدة، وهي على قلتها متباعدة وكانت هناك بعض المكاتبات بيننا إلا أنني ظللت متابعا وبشغف لإنتاجه الفكري والسياسي الغزير. فالنور حمد كاتب مثمر وكتاباته محفزة على التفكير وهو من حملة مشاعل الحداثة دون أي دعاوى عريضة أو استعلاء على المتلقي, يدخل على التاريخ ببصيرة متقدة ويخرج منه بمشاعل تضيء الطريق للمستقبل، حاد في نقده للواقع ولكنه يغلف نقده بلغة موضوعية سلسلة تجعل تلك الحدية (مبلوعة) وقابلة للهضم، ولكن الأجمل أن كتابات النور تعطي فرصة للاختلاف الموضوعي لتكون الصورة النهائية التي ترسخ في ذهنك شراكة بينك وبينه.

 

(2)
مناسبة الرمية أعلاه هي أنني في الأسبوع الماضي شاهدت لابل عشت مع الدكتور النور حمد في سهرة تلفزيونية مدهشة على قناة النيل الأزرق قدمها الأستاذ الأديب مصعب الصاوي يمكن وصفها بأنها سهرة مع النور الفنان المغني، وليس مع النور الكاتب. فعزف النور على عوده بتمكن وغنى بصوت آسر شجي لعبد الكريم الكابلي وزيدان إبراهيم والعاقب محمد حسن، وأنشد أناشيد عرفانية وتحدث عن تجربته الخاصة في دراسة الفنون وتدريسها مشيرا لبعض تحولاته الفكرية. مصدر دهشتي هو أنني ما كنت أظن ان دكتور النور يمتلك عودا وأنه عازف متمكن وصاحب صوت طري وإذا أضفنا الى ذلك انه فنان تشيكلي متمكن وبهذا يكون الدكتور عبارة عن حزمة إبداع متحركة بيد انه معروف في الأوساط الثقافية بانه كاتب ومفكر فقط وبهذا تكون هذه السهرة الممتعة قد كشفت فيه الجوانب المكملة لشخصيته وبلغة الإعلام الوجه الآخر له، ولكن الأهم أننا اكتشفنا سر الإبداع في كتابات النور حمد الفكرية إذ لديه قدرة عالية على تفكيك أصعب المفاهيم وتقديمها بصورة مبسطة لأبسط قارئ.

 

 

(3)
نحن في السودان تلاحقت وتراكمت علينا الخيبات السياسية والأمر جعل كل حياتنا مسيسة بمعنى أن السياسة سيطرت على حياتنا فطالما أنها سبب الداء يكون من الطبيعي البحث عن الدواء فيها لذلك أصاب حياتنا القحط والجفاف، والأخطر كان التشرذم فأصبح المشتغلون بالهم الإبداعي في وادٍ والمشتغلون بالسياسة في وادٍ آخر فتحول السياسيون الى ماكينات سياسية مدخلاتها سياسة ومخرجاتها سياسة لا تعرف سكة للإبداع، ولا يعرف الإبداع سكة اليها وفي هذا تغييب للجانب الإنسانوي يؤدي الى عزله عن الواقع ويجعل السياسة تدور في حلقة مفرغة ومن هنا أتت سعادتنا وجاء ترحيبنا بتلك السهرة الرائعة التي قدمها مصعب الصاوي مع النور حمد لأنها أزاحت الحاجز بين النور المشتغل بالهم الفكري والسياسي، والنور الإنسان الفنان الذي يغني الغناء السودانوي العادي ولكن الأهم في تقديري انها أرسلت رسالة فكرية هامة وهي ان هذه الحياة أجمل وأوسع وأرحب وانها لا تسير بالسياسة وحدها، وان الفن ليس مكملا إضافيا للحياة بل مكون أساسي من مكوناتها، وليت كل المثقفين والسياسيين وكل النخبة التي تقود الحياة في بلادنا لا تستنكف عن الكشف عن مكونها الإنسانوي العادي فتغني على الملأ وترقص مع الراقصين وتهجج مع المهججين وتهيص مع المهيصين وتفكنا شوية من هذة الجدية والصرامة المصطنعة التي بها أصبحت تلك النخبة تعيش في حالة انفصام، أي في حياة مزدوجة، مسخت السياسة وضيقت على العباد وضيعت البلاد.

 

السوداني

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.