هل يحدث انقلاب في إسرائيل؟

كرّس جهاز المخابرات الداخلية الإسرائيلي (الشاباك) الانطباع، أخيراً، وكأن حركة تمرد كبيرة توشك أن تنقلب على نظام الحكم في تل أبيب، وأنه لم يتبق إلا أن تعلن هذه الحركة “الانقلابية” بيانها الأول، في إحدى قنوات التلفزة التي يمكن أن تسيطر عليها. فبالنسبة للجهاز المخابراتي المذكور الذي تعاطت جميع وسائل الإعلام الإسرائيلية، ووسائل إعلام أجنبية كثيرة مع تحذيراته بجدية كبيرة، فإن الخلية التي أقدمت على إحراق عائلة دوابشة في قرية دوما الفلسطينية ما هي إلا جزء من تيار “خلاصي” كبير، يهدف إلى إقامة “دولة يهودا” على أنقاض “دولة إسرائيل”، بعد أن يتمكن من تقويض “نظامها الديمقراطي”، وتدشين نظام حكم يستند، فقط، إلى التوراة وتراث الحاخامات. ولكي يقلص من فظاعة العمل الإرهابي الذي تعرضت له عائلة دوابشة وبشاعته، يرى”الشاباك” أن تنفيذ عمليات إرهابية واسعة ضد الفلسطينيين هو أحد مركبات الاستراتيجية التي يعكف عليها هذا التيار الخلاصي، لتحقيق أهدافه. ومن الواضح أن مقاربة “الشاباك” البائسة وغير المصداقة تهدف، بشكل أساسي، إلى تبييض إرهاب الدولة الأكبر من خلال رسم صورة درامية عن الإرهاب الأصغر الذي تمثله الجماعات الإرهابية اليهودية، التي لم تكن لتبصر النور من دون دعم الكيان الصهيوني ومؤسساته الأمنية والاقتصادية والقضائية. ومن الواضح أن الإفراط والتهويل من خطر هذه الجماعات على نظام الحكم الصهيوني يهدف، إلى تقزيم حجم إرهابها ضد الفلسطينيين، وعرضه كتفاصيل باهتة في إطار سيناريو “الانقلاب” الوهمي، حتى يكون من السهل التعايش معها.

جميع الأشخاص الذين أعلن “الشاباك” أنه يشك بأنهم “قادة” وأعضاء التشكيل الإرهابي اليهودي الذي أقدم على إحراق عائلة دوابشة، لا تتجاوز أعمارهم 24 عاماً، وجميعهم يقطن في نقاط استيطانية تخضع لحماية الجيش المباشرة، ومعظمهم من التيار الحريدي الذي لا يخدم أبناؤه في الجيش. فهل الكيان الذي يتباهى بأنه يملك أجهزة استخبارية من الأقوى في العالم يعجز عن مواجهة التنظيمات التي يقودها بدائيون صغار، أم أن مؤسسات هذا الكيان متواطئة مع هذه التنظيمات، وتوفر كل مكونات البيئة التي تسمح بتعاظمها. بكل تأكيد، لا يمكن لأحد أن يشكك في “مصداقية” يوفال ديسكين، الرئيس السابق لجهاز الشاباك الذي يعتبره الصهاينة “بطلاً قومياً” لدوره في تصفية انتفاضة الأقصى، في بلورته استراتيجية التصفيات ضد قادة المقاومة الفلسطينية وناشطيها، عندما يقدم شهادة عن البيئة الحاضنة للتنظيمات الإرهابية. فدسكين يشهد أن جميع الحكومات الإسرائيلية التي تعاقبت على إدارة دفة الأمور في تل أبيب لم ترغب، على الإطلاق، في مواجهة التشكيلات الإرهابية اليهودية (موقع يديعوت أحرنوت، 7-8). ويستطرد في تعداد مظاهر الدعم المباشر وغير المباشر الذي تتلقاه التنظيمات الإرهابية اليهودية من “الدولة” ومؤسساتها المختلفة.

وصل تواطؤ مؤسسات الكيان الصهيوني مع التنظيمات الإرهابية إلى حدود لا يمكن تصورها. ففي أي كيان سياسي يتم ضبط قادة خلايا إرهابية، بعد توفر القرائن التي تربطهم بجرائم خطيرة، ويتم الإفراج عنهم بسبب مسوغات قضائية ذات بعد إداري محض. فقد عثرت الأجهزة الأمنية الصهيونية في منزل موشيه أورباخ (24عاماً) الذي يعتقد “الشاباك” أنه يتزعم التشكيل الإرهابي الذي يعمل ضد الفلسطينيين، على مخطط شامل لإحراق المساجد والكنائس في الضفة الغربية وداخل الخط الأخضر؛ وتم إطلاق سراحه، لأن المحكمة التي أصدرت أمر الاعتقال في حقه غير مخولة بذلك (هارتس، 30-7). وعلينا أن نتخيل حجم ردة فعل إسرائيل والمنظمات اليهودية، وحتى الحكومات الغربية، لو دعا أحد قادة اليمين المتطرف في أوروبا إلى إحراق الكنس اليهودية. لكن الحاخام بنتسي غوفشتاين، زعيم تنظيم “لاهفا” الإرهابي عدّد على رؤوس الأشهاد، وفي مؤتمر غطته وسائل الإعلام، المسوغات “الفقهية” التي توجب إحراق الكنائس، بوصف المسيحية ضرباً من “الوثنية” (جيروسالم بوست، 5-8).
ادعى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تأثره بحادثة حرق الرضيع علي دوابشة ووالده سعد، لكن حكومته تواصل دفع مئات الآلاف من الشواكل للمدرسة التي يديرها الحاخام إسحاق شابيرا، صاحب كتاب “شريعة الملك” الذي يعد أخطر “مصنف فقهي” لتسويغ العمليات الإرهابية ضد الفلسطينيين. ففي كتابه الذي صدر عام 2009، يخرج شابيرا عن طوره في استنباط “الأدلة” التي تجيز قتل الأطفال الرضع من غير اليهود، في حال تطلبت المصلحة اليهودية ذلك. وجميع الحاخامات المتورطين في إصدار الفتاوى التي تحث على القتل هم موظفو دولة يتقاضون رواتب سخية من الحكومة، أو أنهم يديرون مؤسسات تعليمية ودينية، تحصل على دعم حكومي كبير، ناهيك عن التبرعات التي تتلقاها من الخارج. ولا شك في أن أخطر مصادر الدعم الذي تتلقاه التنظيمات الإرهابية هو ذاك الذي تقدمه النخب السياسية الحاكمة. فالشغل الشاغل للوزراء الليكوديين: زئيف إلكين، ويريف ليفين وميري ريغف، هو مهاجمة الذين ينتقدون اليمين المتطرف، عقب إحراق عائلة دوابشة. وقد وصل الأمر بالنائب الليكودي، ميكي زوهر، أن ادعى أن منفذي الجريمة ضد دوابشة لم يقصدوا القتل (موقع وللا،4-8).
الواضح، أن البيئة السياسية والاجتماعية والدينية في إسرائيل حاضنة للتنظيمات الإرهابية. من هنا، لم يكن من المستهجن أن يضيف كثيرون من الشباب اليهودي شعار “الموت للعرب” إلى أسمائهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا أن يتحول هذا الشعار إلى هتاف التشجيع الأبرز في ملاعب كرة القدم الإسرائيلية.
قصارى القول، لا خطر على استقرار نظام الحكم في تل أبيب، فتوجهات المجتمع الإسرائيلي، وأنماط تصويت الصهاينة في الانتخابات تسمح بإعادة إنتاج التوازنات داخل هذا النظام، بشكل يسمح باستيعاب التوجهات الأكثر تطرفاً.

العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.