حمدوك يعيد سيف المهدي إلى بلاط سانت جيمس

سودافاكس- الخرطوم :
استهدف الاستعمار الإنجليزي للسودان في ١٨٩٨م تحقيق هدفين أساسيين:
هدف مادي وهو الاستيلاء على الموارد الطبيعية للبلاد.
وهدف معنوي هو تأسيس كتلة اجتماعية مركزية مناهضة لفكرة التحرر الوطني التي قادها الإمام محمد احمد المهدي.
ولتحقيق الهدف الأول انشأ المستعمر بنى تحتية بالقدر الذي يمكنه من استغلال الموارد من سكة حديد وخزان سنار لري مشروع زراعي مروي بري انسيابي من مياه النيل.
ولتحقيق الهدف الثاني فقد اشتغل المستعمر حتى قبل وصول جيوشه الغازية الى البلاد على التناقضات الاجتماعية من خلال تنصيب زعامات دينية واستمالة بعض القيادات الأهلية، وتطور هذا الأمر منذ تبني المستعمر للابن الوحيد للإمام المهدي ورعايته وتسهيل مصالحه على النحو المعلوم الذي جعل من ورثة المهدية أنصاراً بالكامل للتاج البريطاني.
ولإكمال تحقيق الهدفين كان لا بد للمستعمر من عزل بعض المناطق ذات الثقل السكاني والتي تتمتع برصيد من الاستقلالية في ممارسة سلطانها المحلي مثل جنوب السودان ودارفور، بينما تجاهل المستعمر مناطق أخرى كشرق السودان وجنوب النيل الأزرق وجبال النوبة، فلم يرهق نفسه بتأسيس اي بنى تحتية تذكر فيها.
ولم تنسحب بريطانيا من مستعمراتها السابقة الا بعد ان تحقق لها زراعة مستوطنات دائمة في مواقع استراتيجية من العالم، ففي قلب العالم وعند ملتقى القارات الثلاث زرعت الكيان الصهيوني، ومثلما كانت الكنيسة حاضرة في كل الحملات الاستعمارية فإن تراثاً ضخماً من الخزعبلات والأساطير ساهم في تجنيد رصيد هائل من الموارد البشرية والمادية لتأسيس دولة الكيان الصهيوني ومازالت هذه الأساطير توظف موارد ضخمة جداً في الغرب لحماية وصيانة هذا الكيان، وفي خاصرة الصين زرعت هونج كونج، وفي خاصرة امريكا الجنوبية التي كانت تمور بالثورات الاشتراكية التي قد تهدد القوة النامية لأمريكا زرعت الفوكلاند، وعند مدخل أوروبا الجنوبية اقتطعت جبل طارق، وفي الجنوب الشرقي لكوكب الأرض انشأت مخزناً للمغامرين الذين استنسخوا تجربة امريكا في القضاء على سكان المنطقة الأصليين وابادة آثارهم وثقافتهم بالكامل لتنشأ استراليا.
ولم تكتف بريطانيا بهذه الأوتاد الطبيعية لتثبيت تفوقها، بل عملت على إنشاء كتل اجتماعية مركزية في جميع مستوطناتها تدين بالولاء الكامل لأنموذجها السياسي، وتتطلع لاعتناق ثقافتها ولغتها، وتقبل طائعة رهن استقلالها الاقتصادي من خلال ربطه بنظام مالي مركزه في لندن التي تعيش من ريع سيطرتها على الخدمات والمصرفية والتأمين واعادة التأمين.
وهكذا نشأت في الهند والسودان وغيرها نخب سلمت بالكامل بالأنموذج السياسي البريطاني واعتمدته دون أية مراجعة للأصول الفكرية لهذا النظام او فحص الفلسفة الأخلاقية التي أسسته او حتى دراسة الظروف الاجتماعية التي تطور في ظلها، وحتى يومنا هذا يملأ السياسي فينا فمه بالقول المغلظ بأن (الديمقراطية هي أفضل نظام توصل اليه الإنسان)، فإذا سألته عن اي أنموذج للديمقراطية تتحدث؟ وما هي محاسن هذا النظام وما هي عيوبه؟ لا تكاد تتلمس في الإجابات وعياً حقيقياً بطبيعة النظام السياسي الذي يتم الترويج له بأنه آخر صرعات نظام الحكم.
ولنفس السبب أعلاه فقد تمت (سودنة وظائف الحكم) بعد جلاء المستعمر، بينما ظل كتابه هو الذي يحكم، بل ان مؤسساتنا التعليمية ظلت على حالها لأكثر من ثلاثة عقود بعد الاستقلال، فالمدارس الثانوية التي بناها المستعمر على نسق مدارس إيتون في إنجلترا والتي مهمتها تخريج نخب محدودة تنال حظاً عالياً ومركزاً من التعليم وتغذي جامعتي أوكسفورد وكيمبريدج وتضمن استمرار احتكار طبقة النبلاء لإدارة الحكم والسلطة، فعلى بعد ثلاثة عقود من الاستقلال كانت مدرستا وادي سيدنا وحنتوب مداخل التعليم العالي، بينما ظلت جامعة الخرطوم تمثل عنق الزجاجة التي تصب عصارة المجتمع في نادي صفوي يتحلق حول المصالح والوظائف التي توفرها السلطة المركزية.
وهكذا استمر الحال بالبلاد بلا بنى تحتية للاقتصاد ولا رؤية سياسية او عزيمة لإنشاء هذه البنى التحتية، ففي عام ٢٠١١م استقل جنوب السودان وليس بينه وبين الشمال خط سكة حديد واحد، بل ان سياسياً (كبيراً) لم يرتجف جفنه وهو يهدد المتواصلين مع الجنوب في تجارة الحدود المحفوفة بالمخاطر والعنت وملاواة الطبيعة، فوقف في البرلمان وهو يومها ثاني رجل في السلطة ليعلن بأنه قد اصدر تعليماته بقتل كل من يخالف التعليمات ويتعامل مع الجنوب (ولو بشق تمرة ) او كما قال!!
أما دارفور فالرجل الذي يمثلها اليوم ويجلس على مقعد الرجل الثاني في السلطة، كان قد ابتز طريقه نحو هذا المقعد بالبندقية المرتزقة التي يوجهها إلى صدر السلطة حيناً والى رأس خصومها احياناً.
وورثت النخب عن المستعمر كرسيه وكراسته للتعامل مع المناطق ذات المشكلات المعقدة، لذلك فهذه المناطق ليست اولوية في التخطيط الاقتصادي، وغير حاضرة في صراع النخب على لعبة الكراسي التي ظلت تلعبها برتابة شديدة حتى يكاد المرء يتوقع ليس ميقات البيان الأول المقبل، بل حتى المفردات التي سيتلوها. وحتى إذا دانت رئاسة النادي المركزي لأحدهم ذهب إلى مجلس الكنائس العالمي أو وزيرة خارجية دولة أوروبية اصغر من محافظة عد الفرسان يطلب منها العون والوساطة بينه وبين مواطنيه الذين تنعدم بينه وبينهم لغة المصالح المشتركة دع عنك لغة المناهج الموحدة.
ظل الصراع على رئاسة النادي النخبوي الصفوي المركزي هو الأولوية الوطنية القصوى، وفي ذلك طالع إذا شئت البيان الصادر عن الكيان السياسي المسمى قوى اعلان الحرية والتغيير بشأن الأزمة التي نشأت بين حكومته ورئيس المجلس السيادي حول لقاء الأخير برئيس الكيان الصهيوني الغاصب وتصريحات قياداته التي تتحدث عن ضرورة عدم الانشغال بالصغائر وعدم منح (الثورة المضادة) الفرصة للوقيعة بين مكونات السلطة الانتقالية!!
وغاب تماماً المشروع السياسي الوطني للاستقلال الذي اول أولوياته الاتفاق على مهام السلطة المركزية وإسعاف المناطق الغنية التي ظلمها المستعمر، بمد البنى التحتية اليها وتحقيق قدر من المصالح يجعل نخبها المنافسة على دخول النادي النخبوي المركزي تفكر ملياً قبل ان تستخدم معاناة أهلها كمادة للصراع مع المركز في سبيل نيل عضوية ناديه.
غاب عندنا المشروع الوطني المحكم الذي يعتبر الخروج عليه خيانة وطنية، وأصبح مشروعاً ومعروفاً ومتوقعاً ومقبولا ان يصيح سياسي وهو يشير إلى مصنع أدوية أنشأته السلطة التي استولى عليها خصومه، واصفاً إياه بأنه مصنع للأسلحة الكيميائية!! فيمنح بذلك إذناً لاعدائه وإعداء خصمه السياسي لتدمير ذلك المصنع.
وأصبح مقبولاً ان يصف احدهم البروفيسور محجوب عبيد بانه (جهل نشط) والبروفيسور عبد الله الطيب بأنه (يركب الناقة في القرن العشرين)، ثم يصدر قراراً بفصلهما من وظيفتيهما في جامعة الخرطوم!! وتختلف النخب وتتصارع على رئاسة النادي الصفوي المركزي، ولكنها تتفق على احتكار الأمر العام وعدم السماح بحرية تتيح للشعب التداول والائتمار بالحسنى وتقرير مواصفات السلطة ومرجعيتها الفكرية ومعايير مؤسساتها وحدود صلاحياتها وضبط المواصفات العالية لمن يتصدى لزعامة الناس سياسية او قيادة مؤسسات السلطة تنفيذياً.
لذلك فالانشغال بـ (الاختلافات) الفكرية المزعومة بين النخب السياسية هو تحقيق لهدفها بصرف انظارنا عن القضية الاساسية، وهي قضية تأمين حرية تتيح للشعب الفصل في ما تقدم ذكره من مواضيع أصولية بشأن تأسيس نظامنا السياسي ومشروعنا الوطني المستقل.
والطريق الى افشال مخطط النخب رهن السيادة الوطنية، هو برفع الوعي بأن الصراع ليس بين يسار ويمين او رجعية وتقدم أو مدنية وعسكرية، فهذه التصنيفات كلها حصرية في نادي صفوي صغير يتصور أعضاؤه أنه لا توجد حياة خارج كوكبهم الصغير هذا. ولكن صراعنا الحقيقي هو تأسيس العقد الاجتماعي الوطني.
نقلا عن : الانتباهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.