الخرطوم وبرلين .. علاقات استراتيجية بطابع اقتصادي

يبتدر الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، يوم غدٍ “الخميس”، زيارة للسودان تستغرق يومين، برفقة وفد رفيع المستوى يضم (70) شخصاً، إذ تعد هي الأولى من نوعها لرئيس ألماني لأكثر من (35) عاماً.

وتأتي زيارة شتاينماير وسط ترحيب رسمي وشعبي، باعتبارها تمهد إلى آفاق تعاون أرحب في ظل حكومة الفترة الانتقالية التي تبحث عن الانفتاح الخارجي.

وشهدت العلاقات السودانية الألمانية منذ عهود سابقة تطوراً في المجالات كافة، بما فيها فترة حكم الإنقاذ، رغم أنها تدهورت في بداياتها كبقية الدول الغربية لاعتقادها أن “الإنقاذ” اجهضت الحكومة المنتخبة في الخرطوم، مع احتفاظها بالتمثيل الدبلوماسي بين البلدين، لجهة أن ألمانيا ترى أن تغيير الحكومات لا يؤثر في العلاقة بين الدول، فكانت السياسات الألمانية تنطلق من أن السودان يُشكل جزءاً مهماً للدول الأوروبية، ويأتي في نسق السياسة الكلية للدول الأوروبية تجاه الشرق الأوسط وإفريقيا.

وتعود مسيرة العلاقات السودانية الألمانية إلى حقبة ما بعد الاستقلال مباشرة، حيث بدأت العلاقات منذ العام 1958م، حيث تلقى السودان في ذلك الوقت مساعدات اقتصادية وفنية من ألمانيا الاتحادية، وينبع الاهتمام الألماني بالسودان، من واقع الخصوصية التي يتمتع بها السودان من ناحية استراتيجية سياسية واقتصادية، فالسودان يشكل جزءاً مهماً للدول الأوروبية من خلال تميزه بأنه معبر استراتجي بين الدول العربية والإفريقية، ومن خلال امتلاكه لإمكانيات وموارد طبيعية هائلة جعلته محل اهتمام الدول الأوروبية وألمانيا على وجه الخصوص.

وتطورت علاقات الخرطوم وبرلين في عهدي كل من الرئيس الفريق عبود والمشير جعفر نميري، وتم قطع هذه العلاقات في الفترة مابين (67 – 69)، في أعقاب حرب 1967 بين العرب وإسرائيل، بسبب موقف ألمانيا الداعم لتل أبيب، في وقت أزداد تدهور العلاقات في العام 1970م عندما ألقت القوات اليوغندية القبض على المرتزق الألماني شتناير عند محاولته عبور الحدود من جنوب السودان إلى يوغندا، حيث قامت كمبالا بتسليمه إلى الخرطوم، حيث كان شتناير على علاقة وطيدة مع حركة التمرد في جنوب السودان، ويقاتل داخل السودان ضد الحكم الشرعي فيه ويؤيد ويقود جماعة مارقة ومتمردة وانفصالية.

وعادت العلاقات بين البلدين في عام 1971م، أعقبها توقيع اتفاق للتعاون المالي والفني في العام 1972م، والذي أطلق عليه اسم الاتفاقية الهيكلية، وتم تجديد الاتفاق في عام 1973م، وأدخلت عليه بعض التعديلات لاحقاً في عام 1976م، وتحت مظلة الاتفاق الهيكلي بين البلدين استمر التعاون بين البلدين، إذ كانت تعقد اتفاقيات سنوية بين البلدين في إطار العون المالي والفني الألماني للسودان، بجانب الزيارات المتبادلة سنوياً على مستوى المسؤولين.

وفي إطار تعزيز هذه العلاقات أنهى الرئيس الأسبق جعفر نميري زيارة لألمانيا في عام 1978م، بالاتفاق على ضرورة حل مشكلة الشرق الأوسط، مع وضع في الاعتبار ايجاد حل يرضي جميع الأطراف، بما فيهم الشعب الفلسطيني، حيث تعتقد ألمانيا أن السودان يمثل حلقة الوصل بين العالمين العربي والإفريقي في سعيها للتغلغل داخل القارة.

ويغلب على علاقات الخرطوم وبرلين الطابع الاقتصادي، باعتبار أن ألمانيا من الدول الصناعية الكبرى الداعمة للسودان، لذلك كانت العلاقات السودانية الألمانية تتراوح بين التوتر نسبياً والهدوء والاستقرار في معظم الأوقات.

وتُتهم ألمانيا بدعم حركات الكفاح المسلح في دارفور منذ العام 2003م، وهو ما أثر على علاقات البلدين في حقبة سابقة، إذ مثل عقد مؤتمر المعارضين في دارفور تحت رعاية ألمانية بمدينة هينتغن في أبريل 2003م، بمثابة تدخل صارخ في الشأن الداخلي للسودان، والذي نظمته مؤسسة (AKE) الألمانية.

ومرت العلاقات السودانية الألمانية منذ استقلال السودان بمراحل مد وجذر، حيث كانت تأخذ شكل التوتر أحياناً إلا أنها كانت سرعان ما تستقر، لجهة أن برلين لم تنتهج مع الخرطوم سياسة الإدانة، بينما سياستها كانت في معظم الأحيان تقوم على الفهم والتشجيع المتبادل، وهذا ما قاله وزير الخارجية في فترة حكم الإنقاذ د. مصطفى عثمان إسماعيل، عند استقباله لوزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر خلال زيارته للخرطوم في الأسبوع الأخير من يناير 2008م، والذي أكد فيه أن ألمانيا تنتهج مع السودان “سياسة الباب المفتوح”.

وفي الأسبوع الثالث من نوفمبر 2018م، دعا وزير الخارجية الألماني كونو ماس، إلى أهمية التعاون بين بلاده والسودان في القضايا الإقليمية، لاسيما تطورات الأوضاع بالقرن الإفريقي، والهجرة ومكافحة الإرهاب، وأمن البحر الأحمر، مؤكداً الرغبة في تطوير العلاقات، وتقديم الدعم للسودان في المنابر المختلفة، خاصة الأوروبية.

وأكد وزير الخارجية الدرديري محمد أحمد، خلال مباحثات ثنائية مع نظيره الألماني في برلين، اهتمام السودان بتطوير العلاقات الثنائية مع ألمانيا التي ترتكز على قاعدة راسخة من التعاون التاريخي المشترك، وأشار الوزير إلى محورية دور برلين الدولي والإقليمي، داعياً إلى إنشاء شراكة حقيقية مع ألمانيا في دعم الاستقرار الإقليمي، وتقديم العون التنموي، خاصة في مناطق التماس بين السودان وجنوب السودان، لاستدامة السلام بجنوب السودان، والنظر في تطوير شراكة اقتصادية ثلاثية.

ويتساءل البعض عن سر اهتمام ألمانيا بالسودان، خاصة في الأونة الأخيرة، إذ يرى مراقبون أن برلين تبحث لها عن موطء قدم للتمدد في إفريقيا والاستفادة من مواردها المتعددة، حيث يعد السودان معبراً للقارة السمراء، وهو ما يدفع برلين إلى تطوير العلاقات مع الخرطوم يوماً تلو الآخر.

ويعتقد المحلل السياسي د. عبد الرحمن أبوخريز، أن الاهتمام الألماني بالسودان لا يستند على مصالحها في المقام الأول بقدر ما هو تبادل “مصالح مشتركة”، منوهاً إلى الوجود الألماني في أنحاء البلاد وتقديمهم للمساعدات، بما فيها المجال العسكري بتدريب منسوبي القوات المسلحة، مشيراً إلى مقدرة برلين مساعدة الخرطوم في مسألة التحويلات البنكية ومدها بأحدث الأجهزة في مجالات التكنلوجيا.

ويؤكد أبوخريز، في حديثه لـ(مصادر)، أن السودان سيجني ثمار علاقته المتطورة مع ألمانيا عما قريب، في ظل الانفتاح الذي أعقب سقوط حكم الرئيس المعزول عمر البشير، مشدداً على ضرورة تكوين تحالف استراتيجي بين الخرطوم وبرلين للاستفادة منه في المجال الاقتصادي على وجه التحديد، والعبور بالبلاد إلى بر الأمان.

وسار على درب أبوخريز في الرأي، المحلل الاقتصادي د. محمد الناير، الذي شدد على الاستفادة من التعاون الألماني في مجال التصنيع الزراعي، لجهة أن برلين تملك آليات على طرازٍ عالٍ؛ بإمكانه الاسهام في تحقيق النهضة الزراعية المتوقعة بالسودان خلال السنوات المقبلة.

الخرطوم ( صحيفة مصادر)

Exit mobile version