57 عاماً على أول انقلاب عسكري في تاريخ السودان

*اللواء (م) برمة ناصر: 17 نوفمبر لم يكن انقلاباً بمعناه المتعارف عليه

* الجيش لم يلتزم بالاتفاق الذي تسلم بموجبه السلطة

بدأ انقلاباً سلمياً وانتهى بانتفاضة شعبية عارمة.. طالته الكثير من الاتهامات، وثارت حول حقيقته شكوك عدة، البعض ذهب إلى أنه عملية تسليم وتسلم من قبل “عبد الله خليل” إلى قيادة الجيش، وآخرون يرون أنه جاء بمباركة أحد الأحزاب، إلا أنه رغم ذلك يعتبر أول انقلاب عسكري يقع في السودان، إنه انقلاب “الفريق إبراهيم عبود” الذي تولى سدة الحكم في البلاد يوم 17 نوفمبر 1958م ، وعرف بانقلاب كبار ضباط الجيش.. (المجهر) في الذكرى السابعة والخمسين للانقلاب، ترسم بعضاً من ملامح تلك الفترة وتوثق لها.

كل حزب يغني على ليلاه…
لم تكن الأوضاع وقتها تسير على ما يرام، الخلافات بين الأحزاب بلغت أوجها، في الوقت الذي بدأت فيه العلاقات مع دولة مصر تسوء يوماً بعد الآخر بسبب (اتفاقية مياه النيل)، حالة من الملل تعتري الشعب السوداني جراء تدهور الأوضاع بالبلاد، فكانت أخبار هذه الخلافات هي سمة الصحف الغالبة، سيما أن التنافس والتنافر بين الحزبين الحاكمين، الأمة والوطني الاتحادي، وصل ذروته، فكانت تلك الصراعات مادة دسمة لصاحبة الجلالة بعد أن بلغ التنافر مبلغه بين جميع الأحزاب، ولم يعد الأمر مجدياً.

ففي ظل الفوضى العارمة التي كانت تعيشها البلاد في نظام حكمها الحزبي، نجد أن هناك خلافاً بين (الأمة) و(الوطني الاتحادي)، وآخر بين حزب (الشعب الديمقراطي، الذي انشق عن الوطني الاتحادي ) ولجانه ، التي تنذر قياداتها وتهدده بالانفصال، وفي ذات السياق، حزب (الأمة) يبدي تخوفه من غدر حزب (الشعب)، و”الميرغني” يبعث وفداً خاصاً لـ”القاهرة” لمقابلة الرئيس “جمال عبد الناصر” لحل المسائل المتعلقة بين “مصر” و”السودان” التي أدت للفجوة في سماء العلاقات بين البلدين، وذلك بعد أن رفض السودان المقترح المصري، كأساس لمفاوضات مياه النيل، وأعلم “مصر” بأنه لا يعترف باتفاقية (1929) الخاصة بمياه النيل.

الحكم العسكري الأول.. ضربة في مقتل
لم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد كان الحزب (الوطني الاتحادي) بقيادة الزعيم “إسماعيل الأزهري”، يرى ضرورة تنحية حكومة عبد الله خليل، وذهب “الأزهري” بتصريحاته لصحيفة (الأهرام) ، والتي وصفتها الصحف آنذاك بالخطيرة، ذهب يطالب من “القاهرة” بضرورة استقالة الحكومة، لأنها أخطأت ولابد من تنحيتها لإنقاذ الموقف وتصحيح الأوضاع بالبلاد، كما لم تخل تصريحات السيد “علي عبد الرحمن” رئيس حزب (الشعب الديمقراطي) ووزير التجارة والصناعة من ذات المطلب، وهو يؤكد عدم رضا الشعب عن الحكومة، بعد أن تأجج صراع حزبه مع حزب (الأمة)، وأعلن أنه يقف ضد جميع المسائل التي اتفق عليها مسبقاً معه، بعد أن بدأت مقاعد الحكم تهتز وتتأرجح تحت ضربات المعاول من داخل الوزارة بحسب تصريحه لصحيفة (السودان الحديث).

آخر ما تضمنته الأخبار الصادرة عشية الانقلاب هي تصريحات، السيد “أمين التوم” وزير الدولة لشؤون الرئاسة عن أن رئيس الوزراء “عبد الله بك خليل” قد بدأ في مشاورات مع الأحزاب الكبرى بشأن تشكيل الحكومة القومية، ولم يمض على هذه التصريحات سوى (24 ساعة) حتى أضحت صحف الأمس التي حملت تصريحات تشكيل الحكومة القومية هي نفسها التي تحمل أنباء استيلاء الجيش بقيادة الفريق “إبراهيم باشا عبود” القائد الأعلى، على مقاليد الحكم بالبلاد، فكان أول ما قام به هو حل جميع الأحزاب وتعطيل الصحف ومنع التجمعات والمواكب، ليصبح هذا الانقلاب هو أول ضربة لنظام التعددية الحزبية في السودان.

تطمينات البيان الأول
تطمينات بعث بها الرئيس “إبراهيم عبود” في أول بيان له عقب توليه رئاسة الحكم البلاد كأول نظام عسكري، طالب من خلاله المواطنين بالتزام الهدوء والسكينة، موضحاً أنه جاء ليخلص البلاد من حالة الفوضى التي اعترتها نتيجة حكم الأحزاب، ويعمل على إعادة الأمن والاستقرار لجميع المواطنين، كما طالبهم بالانصراف إلى أعمالهم طالما أن قوات الأمن تسلمت مقاليد الحكومة، ولكي تستطيع القيام بمهمتها خير قيام، فإنه يأمر بحل جميع الأحزاب السياسية ـ منع التجمعات والمواكب والمظاهرات في كل أنحاء السودان ـ وقف الصحف لحين إشعار آخر.

البيان حذر المواطنين من مغبة اللجوء إلى أعمال الفوضى والتخريب، كما طمأن السفراء وقنصليي الدول بالمحافظة على الاستقلال والسيادة وإقامة علاقات ودية مع جميع الدول، وهنا يمكن القول إن أكثر ما اهتمت به الحكومة الجديدة هو العمل على تحسين سياساتها الخارجية، فقد أعلنت أنها ستعمل على توثيق الروابط بالدول العربية وخاصة جمهورية “مصر العربية” التي كانت تسمى بـ”الجمهورية العربية المتحدة”، ففي أول حديث للرئيس “عبود” أذيع من جميع إذاعات الجمهورية العربية، أكد فيه أنه سيحسن العلاقات ويعود بالبلاد لحياتها الطبيعية، وفي المجال الأفريقي أكد أنه سيعمل على توثيق الروابط بالدول الأفريقية، كما أعلن اعترافه بدولة “الصين الشعبية”، الأمر الذي رحبت به “الصين” وأعلنت مد يد العون بكل ما هو مستطاع لأجل السودان.

الاتهامات تحيط بالحكومة الجديدة…
ما بين عملية التسليم والتسلم من قبل رئيس الوزراء “عبد الله خليل” للفريق “إبراهيم عبود”، وما بين دعوة أحد الأحزاب ومباركتها يتأرجح انقلاب 17/11/1958، وتحيط به الاتهامات من كل الجوانب، فهناك من يقول إن “عبد الله خليل” قام بتسليم قيادة البلاد إلى الجيش في ظل الأوضاع السيئة التي كانت تعيشها، بعد أن عجز عن إدارتها وليس في الأمر انقلاب بمعناه المتعارف عليه، فيما يرى آخرون أن “عبود” جاء بدعوة ومباركة أحد الأحزاب، سيما أنه ونائبه اللواء “أحمد عبد الوهاب” توجها صبيحة الانقلاب إلى منزل السيدين “عبد الرحمن المهدي” والسيد “علي الميرغني” لمباركة الانقلاب، الأمر الذي نفاه اللواء “أحمد عبد الوهاب” لاحقاً في أحد الحوارات التي أجريت معه، حيث برر زيارتهما تلك بوصف أن الزعيمين يتمتعان بقدسية كبيرة لدى المواطنين، وزيارتهما جاءت لطلب المساعدة في استتباب الأمن الداخلي وصيانته وتركيز أهداف الحركة.

وفي ذات الشأن لفت نائب رئيس حزب الأمة اللواء (م)” فضل الله برمة ناصر” لـ(المجهر) إلى أن انقلاب 17 نوفمبر لم يكن انقلاباً بمعناه المتعارف عليه، حيث دعت الحاجة الملحة رئيس الوزراء “عبد الله خليل” إلى تسليم السلطة للقوات المسلحة للحفاظ على الأمن القومي للدولة الوليدة، على أن تعود الأوضاع إلى طبيعتها وتؤول الرئاسة إليه بعد ستة أشهر، إلا أن الجيش لم يلتزم بالاتفاق رغم أن الجهة الوحيدة المضمونة في ذلك الوقت كانت القوات المسلحة للحفاظ على أمن البلاد.

أسباب السقوط…
تأييد واسع حظي به الرئيس “عبود” فور وصوله إلى الحكم، وبحسب المصادر فقد تبنت حكومته خططاً تنموية شملت البنيات الأساسية مثل مد خطوط السكك الحديدية، والتوسع في قطاع الزراعة من خلال إقامة مشاريع تنموية صغيرة في الأقاليم لتنمية الأرياف والمناطق النائية. وتم إبرام اتفاقية جديدة مع “مصر” لتقسيم مياه النيل أدت إلى رفع حصة السودان إلى 11 مليار متر مكعب من المياه، وذلك في إطار صفقة شملت بناء (السد العالي) في مصر.

ورغم هذه الإنجازات الاقتصادية إلا أن حكومة عبود واجهت أزمة سياسية عميقة لم تمهلها طويلاً (ستة أعوام فقط)، ففي عام 1963م، شهد جنوب السودان نشاطاً سياسياً كثيفاً من قبل المعارضة الجنوبية في المنفى، وبرز حزب (سانو SANU – الإتحاد السوداني الإفريقي الوطني)، بزعامة “جوزيف أدوهو” كداعية إلى استقلال الجنوب، كما ظهرت في (سبتمبر) من ذات العام حركة (ألانانيا) والتي تعني (الأفعى السوداء السامة) بلغة قبيلة المادي بزعامة “جوزيف لاقو”، وقد شنت هذه الحركة حرب عصابات في المديريات الجنوبية الثلاث (أعالي النيل، بحر الغزال والاستوائية)، مما أدى إلى تدهور الوضع الأمني فيها، الأمر الذي استغلته الأحزاب السياسية لتأخذ بثأرها وتعيد كرامتها، فجاهرت بمعارضتها للنظام الحاكم من خلال تصريحات زعمائها وندوات كوادرها خاصة في الجامعات والمعاهد العليا، وعبر انتفاضة هادرة بدأت شرارتها في 21 أكتوبر 1964 خرج الشعب بمختلف كياناته، ولم يهدأ حتى تم الإعلان عن حل المجلس العسكري وتنحي الرئيس “عبود” بعد أسبوعين من المظاهرات، وتم تشكيل حكومة برئاسة “سر الختم الخليفة” عرفت بحكومة (جبهة الهيئات).

صحيفة المجهر السياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.