إخضاع السودان لتدابير مجلس الأمن ظَّــل دائماً رغبةً أجنبية

(1)منذ عام 2014 تدنت حدة المواجهات في جميع أنحاء دارفور وانخفضت وتيرتها ولجأت الحركات المسلحة شمالا إلى داخل الأراضي الليبية وجنوباً إلة داخل أراضي جمهورية السودان وانعكس ذلك في التقارير المقدمة لمجلس الأمن من البعثة المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي(يوناميد) ومن فريق الخبراء الذي أنشأه مجلس الأمن لمراقبة الإلتزام بالعقوبات التي فرضت على نطاق ولايات دارفور منذ عام 2005م.

في الولايات المتحدة حددت الإدارة الأمريكية مسارات خمسة لتطبيع العلاقات مع السودان وتم إحراز تقدم في هذا الجانب.

إلى ذلك فأن الإدارة الأمريكية الجديدة لم تنظر بعين الرضا إلى الأمم المتحدة وما تقوم به وقرر الرئيس ترمب خفض مساهمة الولايات المتحدة في عمليات السلام التي تقوم بها المنظمة وانعكس ذلك على أكبر بعثات الأمم المتحدة لحفظ السلام وهي بعثة يوناميد فتم تخفيض ميزانيتها وأصبح الطريق ممهداً بفضل تضافر هذه العوامل مجتمعة ليس لتخفيض قوام البعثة فحسب كما كان يرجو ((المتحفظون)) في مجلس الأمن وفي سكرتارية الأمم المتحدة وإنما لتحديد تاريخٍ للخروج لا يُخلف سُوى وهو يونيو من هذا العام.

بذلت وزارة الخارجية وبعثتها في نيويورك جهداً دبلوماسياً متصلاً للتغلب على التخوفات التي كان عدد من أعضاء مجلس الأمن الدائمين وغير الدائمين والأعضاء الذين يتأهبون لشغل مقاعدهم في 2018و2019 يُبدونها، وأصبح اﻻتفاق من حيث تحديد تاريخ تنفيذ ما سمي (باستراتيجية الخروج) محدداً غير انه تم التوافق على أن يكون هذا الخروج مُمرحلاً ومتدرجاً وتم إِيداع ذلك في قرارين لمجلس الأمن تحت ذات الفصل السابع.القرار 2363 لعام 2017 والقرار2429 لعام 2018. النتيجة هي اكتمال خروج كل مكونات “يوناميد” من عسكريين وشرطيين ومدنيين في 29 يونيو 2020م على أن تتم تصفية ما تبقى من معدات وآليات وغيرها بنهاية العام. تنص الفقرة 24 من قرار إنشاء هذه البعثة المشتركة للأمم المتحدة واﻻتحاد الأفريقي في 31 يوليو 2007م على أن على البعثة في نهاية المطاف تنفيذ استراتيجية للخروج بعد أن تكون قد أنهت ولايتها. من الأفضل اقتباس هذه الفقرة حرفياً وهي كما يلي:-

((يشدد المجلس على
تصميمه أن تتحسن الحالة في دارفور بشكل ملموس ليتسنى له النظر في الوقت المناسب وحسب الاقتضاء ومع مراعاة التوصيات المقدمة من الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي في تخفيض حجم بعثة الأمم المتحدة واﻻتحاد الأفريقي في دارفور وإِنهائها في نهاية المطاف)).

وإذا استثنينا بريطانيا العضو الدائم في مجلس الأمن وألمانيا التي احتلت مقعدها غير الدائم لعامين (2019 و2020) فأن المجلس كان على أهبة الاستعداد للمضى في تنفيذ استراتيجية الخروج. لم تكن بريطانيا بأي حال على استعداد لأن تعرقل تنفيذ الإستراتيجية لدرجة التصويت ضده وإبطاله بحق النقض وإلا لما كانت قد انضمت إلى التوافق الذي قرر تحت الفصل السابع خروج يوناميد في موعد محدد باليوم والشهر والسنة. ألمانيا وبعد لقاءات عديدة اشترطت أن يطلب السودان عون لجنة بناء السلام التي تتبع للإدارة السياسية بالأمم المتحدة والصندوق الذي يتبع لها وفق نظام بيروقراطي مفصل وهو صندوق بناء السلام ويقبل بفتح مكتب لمفوضية حقوق الإنسان في السودان وقد تم ذلك. ألمانيا نفسها كان لديها إسهام إِيجابي بعقدها لقاءات في برلين في عام 2018 للحركات الرافضة للعملية السلمية اتفقت فيها هذه الحركات على أن يكون أساس التفاوض مع الحكومة هو وثيقة الدوحة للسلام في دارفور “DDPD”. إذاً فأن الاتجاه كان هو أن تنخرط لجنة بناء السلام في الفترة اللاحقة للحرب وهي فترة بناء السلام وأن يتم دعم الفريق القطري للأمم المتحدة في السودان مادياًوبشرياً. ذلك إلى جانب استمرار الوجود في “قولو” وهي منطقة صغيرة في جبل مرة التي هي جزء من ولاية وسط دارفور والتي هي واحدة من الولايات الخمس المكونة لدارفور الكبرى. كنا علي ذات الخطى التي سارت عليها “تيمورلست”من قبل بالانتقال من حفظ السلام إلى الفريق القطري، رغم عدم امتلاكنا للدالّة السياسية التي كانت تتمتع بها تيمورلست المدعومة من كل الدول الغربية وجارتها استراليا.

وفي بيانه أمام مجلس الأمن في11 يونيو 2018 عبر السيد وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام عن قناعة الأمم المتحدة والخلاصة التي توصلت إليها المنظمة بأن النزاع في دارفور (قد أصبح في ذمة التاريخ.) وقبل ذلك وفي بداية العام 2018 قدم الخبير الألماني (بيتر شومان) والذي سبق له أن ترأس بعثة (يوناميد) بالإنابة لفترة قصيرة تقريراً لإدارة عمليات حفظ السلام كلفته به لتقييم الوضع في دارفور ومستقبل يوناميد أكد فيه إجمالاً على ضرورة خروج يوناميد في أقرب وقت عدا جبل مرة والذي أوصي أن يكون الوجود الأممى فيه مدنياً معللاً ما ذهب إليه بأن استمرار البعثة سيكون خصماً على التنمية في دارفور التي هي جوهر التسوية.

رغم كل ذلك ظلت بريطانيا مصرة على موقفها المتمثل في تعطيل خروج يوناميد إِجرائياً وأن يعقب الخروج في كل الأحوال حضور أممي ذو وزن وثقل.استفادت بريطانيا من نفوذها كعضو دائم في مجلس الأمن ومن موقعها كحامل قلم (pen holder) لقضية دارفور في المجلس. يتوخى نظام (حامل القلم) ويعني في مجلس الأمن الدولة التي تقود المفاوضات وتعد مشروع القرار المعني وتطرحه كأساس للنقاش والتفاوض-يتوخى هذا النظام أن تكون لهذه الدولة علاقة ما ومعرفة بالدولة التي يعدون لها هذه التدابير.وأذكر أن المندوب الدائم الأسبق لتشاد وجه انتقاداً حاداً لنظام (حامل القلم) في مجلس الأمن في جلسة لمجلس الأمن متسائلاً بأي حق أخذتم وحملتم هذا القلم؟ وعلى سبيل الاستطراد فأن تولي هذه المهمة وراءه ضرورة عملية في مجلس الأمن غير انه يخفي أيضاً نيّة سياسية مبيتة تتعاظم تأثيراتها عندما تكون الدولة حاملة القلم عضواً دائماً ثابتاً في المجلس لا ينتهي تأثيره بما ينتهي إليه العضو غير الدائم في المجلس من انقضاء العضوية في عامين ويصبح أعمق أثراً في القضايا المتطاولة مثل النزاع في دارفور والذي باشر المجلس العمل فيه منذ عام 2004م.وعملياً فإن هذه المعضلة ستضعف من (ملكية) السودان للعملية برمتها في البعثة المزمعة.

مضت الدولة حاملة القلم منذ يوليو 2007م والذي تم فيه إجازة قرار إنشاء البعثة المشتركة (يوناميد) تحت الفصل الخاص بتدابير الإنفاذ القسرية أو الجبرية (الفصل السابع من الميثاق) في إثقال قرارات تجديد البعثة السنوية ببنود وعبارات تمهد لبقاء البعثة أطول فترة ممكنة كما تمهد للتوسع في مهامها نذكر منها:-

أ/ مباشرةً وبعد إجازة قرار إنشاء يوناميد في عام 2007م، وإبتداءً من عام 2008م وفى قرارات التجديد السنوية أضيفت إشارة إلى (أحكام الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمي) الذي عقدته الأمم المتحدة عام 2005م والذي تضمن مفهوم (الإلتزام بمسئولية الحماية) وهو الذي يعطى حق التدخل الإنساني للدول خارج نظام الأمن الجماعي وخارج مبدأ تحريم الحرب إلا من خلال أحكام هذا النظام وإلا للدفاع عن النفس وهو المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه منظمة الأمم المتحدة.

ب/ بعد قرار الإنشاء اختفت في الأعوام التي تلته الإشارة الواردة فيه بأن عملية (يوناميد) هي عملية مشتركة أو مختلطة وأنها وبذلك (ينبغي أن تكون ذات طابع أفريقي وأن يشكل جنودها قدر الإمكان من البلدان الأفريقية)

ج/ أصبح الاحتمال في عبارة ( احتمال أن يؤثر استمرار العنف في دارفور سلباً على باقي السودان وعلى المنطقة ) يقيناً في القرارات اللاحقة:- ( إن النزاع الدائر في جزء من السودان يؤثر على الأجزاء الأخرى من البلد وفي المنطقة ككل).

د/ دعا مجلس الأمن في قرار التجديد في عام 2009م (يوناميد) إلى (المؤازرة في التحضير لانتخابات موثوق بها) – بما يشير إلى محاولات التوسع موضوعياً في كامل التراب الوطني.

هـ/ بعد بدء تنفيذ استراتيجية خروج يوناميد في عام 2017م، حاولت بريطانيا في عام 2018م تعطيل تاريخ اكتمال الخروج في يونيو 2020م وتمديده حتى عام 2022م غير أن المجلس تمسك بذلك التاريخ (يونيو 2020) ووقفت روسيا بقوة إلى جانب السودان وكسرت ما يسمى في مجلس الأمن (بالإجراء الصامت Silent procedure) مرتين لصالح السودان والذي وقفت إلى جانبه دول عديدة في المجلس نذكر منها الصين والكويت والدول الأفريقية الثلاث إثيوبيا وساحل العاج وغينيا الإستوائية. وكان الموقف الأفريقي الذي بذلت فيه وزارة الخارجية جهداً شاقاً ووزعت فيه البعثة مذكرة جامعة والتقت فيه بكل أعضاء المجلس دون استثناء حاسماً في تأكيد الموقف الأفريقي والذي هو الشريك الأول في البعثة المختلطة. دفع ذلك المترددين من أعضاء المجلس إلى مؤازرة موقف السودان لكونه موقفاً إفريقياً جامعاً.

إلى جانب ما ورد أعلاه لابد من الإشارة هنا إلى أنه بعد تواتر التقارير عن تحسن الأحوال الأمنية والإنسانية في دارفور، وبروز اﻻتجاه لضرورة تنفيذ استراتيجية خروج يوناميد من دارفور وفي إطار الجهود المناوئة لمحاصرة ذلك الاتجاه فجرت منظمة العفو الدولية والتي أسسها مواطن بريطاني في عام 1961 مفاجأة داوية أثناء انعقاد دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة السنوية في 29 سبتمبر 2016م أي أثناء مشاركة رؤساء الدول ووزراء الخارجية من كل أنحاء العالم في اﻻجتماعات رفيعة المستوى الخاصة بالدورة، ورتبت في مقر المنظمة الدولية في نيويورك في ذلك اليوم مؤتمراً صحفياً أعلنت فيه استعمال قوات الجيش السوداني بطريق القصف الجوي والمدفعي أسلحة كيميائية ضد المدنيين في جبل مرة ونشرت صوراً فظيعة للضحايا من النساء والأطفال في كتيب بالألوان توفرت نسخه لكل راغب. غير أن تضافر الجهود الوطنية مع ما قامت به منظمة حظر الأسلحة الكيميائية وشهادات بعثة يوناميد نفسها والذي فاجأها الإدعاء الكاذب وشهادات فريق الخبراء الدولي الخاص بالعقوبات في دارفور وأدت وأجهضت هذه المحاولة لقلب الأوضاع في دارفور رأساً على عقب .

إن خروج البعثة الأممية الأفريقية من دارفور لا يمكن أن يفسر بأي حال من الأحوال إلا بأن أسباب نشرها في دارفور قد انتفت بمساهمتها المتواضعة في زوال حالة الصراع واﻻحتراب في هذه المنطقة من البلاد. وذلك بلا شك يصب تماماً في المصلحة الوطنية السودانية المجردة ويضع دارفور كلها في مرحلة الإقلاع إلى أجواء وآفاق التعافي والتنمية وهي المرحلة المسماة ببناء السلام في تراث الأمم المتحدة. لذلك فإن أية تدابير سياسية بديلة ليوناميد في دارفور تنال من هذا الإنجاز المشترك. والمرحلة الطبيعية التالية فيما يتعلق بدور الأمم المتحدة هي اﻻستفادة من أجهزتها وآلياتها ومن الحماس الذي يبديه أمينها العام تجاه السودان في مجال التنمية لا غير . والتنمية هي التي تخاطب قضية التهميش المشروعة في هذا الجزء العزيز من الوطن. والسودان اليوم في وضع أفضل خارجياً بعد التغيير الثوري في ديسمبر 2018م ويتمتع بالقبول. إن الثورة الشعبية العارمة التي اندلعت قد وضعت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وخاصة (أصدقاء السودان) أمام اختبار غير يسير بالقيام بما عليهم من مسئوليات وتنفيذ وتطبيق أحد أهم مرامي البرنامــج العالمي للأمــم المتحــدة حتى عـــام 2030م المسمى (أهداف التنمية المستدامة SDGs) وهو (ألا يتخلف أحد عن الركب) أي ركب التنمية وأن تحُقق كل الدول أهداف هذا البرنامج بحلول ذلك العام. وبالطبع وحسب اﻻلتزامات الموثقة المؤكدة للأمم المتحدة والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية ومجتمع المانحين في الدول الصناعية الكبرى فإن عليها جميعاً أن تعين وبصفة خاصة الدول الأقل نمواً والدول الخارجة من النزاعات والدول المثقلة بالديون والدول الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية في الكرة الأرضية. وإذا كانت هناك دول تستحق العون والمساعدة الدولية على أساس أحد هذه المعايير، فليست هنالك دولة تنطبق عليها هذه المعايير الأربعة مجتمعة إلا السودان مع دولةٍ أخرى أو تثنتين. ومع ذلك ظل السودان خارج هذا اﻻستحقاق الجلىّ تماماً وهو ما لا ينبغي أن يظل. لذلك فأن وضع (هيكل) سياسي اليوم في مجلس الأمن يتضمن الجانب اﻻقتصادي كأمر فرعي ثانوي هو أمر محزن.

(2)
ما الــــذي تـــم؟
في يونيو 2019م حان موعد التجديد الدوري السنوي ليوناميد. ومنذ عام 2017م كما يعلم الكثيرون وكما أوضحنا آنفاً هنا، ظل موعد التجديد السنوي مناسبة للتخفيض التدريجي الممرحل للبعثة ليكتمل خروج كل القوات في يونيو 2020م. عقد مجلس الأمن جلسته المنتظرة في 27 يونيو 2019م وألقى المندوب الدائم للسودان وهو من أكفأ الدبلوماسيين السودانيين المتمرسين ذوى الخبرة بياناً موفقاً متوازناً رحب فيه بما بذلته البعثة المشتركة من جهود ومعبراً عن تطلع السودان للتحول إلى بناء السلام في دارفور على ضوء تحسن الأوضاع فيها ((كما سلفت الإشارة فأن بناء السلام لم يكن يعني من حيث التطبيق غير مباشرته بطريق الفريق القطري للأمم المتحدة UNCT وبوضع إطار تفصيلي tailored باحتياجات البلاد التنموية)). غير أن مجلس الأمن قرر وقف عملية التخفيض وتجميدها لأربعة أشهر تنتهي في 31 أكتوبر 2019م وفي بيانه أشار ممثل المملكة المتحدة إلى أن تجميد تخفيض البعثة هو ((موقف مسئول من المجلس وأن النص على إيجاد آلية سياسية لما بعد يوناميد يؤكد عزم أعضاء المجلس على الوقوف إلى جانب دارفور)) شدد مندوبا روسيا والصين على الإلتزام بالتاريخ النهائي المودع في قرار المجلس 2429 لعام 2018م بخروج البعثة.

بعث معالي السيد رئيس الوزراء رسالته في 22 أكتوبر 2019م طالباً من مجلس الأمن ومن الأمين العام تمديد بقاء اليوناميد لمدة أثني عشر شهراً كما أشرت فأن يوناميد كانت قاب قوسين أو أدنى من الخروج بشرطين خففا تماماً – الاعتراضات والعقبات التي تضعها بعض الدول الأوربية في المجلس.

عدا نمط البعثــة الميدانيــة الكبيرة في حجمها بطبيعة تعـدد مهامها فإن الوجـود السياســي للأمــم المتحــدة إلى جانب الفريــق القطــري الذي يترأسه الممثــل المقيــم (Resident Coordinator) هو أمر مفروغ سلفاً بالنسبة للسودان إذ أن هناك مستشارا خاصا للأمين العام للسودان وهناك لجنة العقوبات المنشأة بموجب قرار مجلس الأمن تحت الفصل السابع رقم 1591 لعام 2005م وكلاهما نمطان من الأنماط الثلاثة للبعثات السياسية الخاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك قبول السودان بالشرطين المشار إليهما واللذين أفصحت عنهما ألمانيا بوضوح وعملت على تحقيقهما سكرتارية الأمم المتحدة ومجلس الأمن في نيويورك ومفوضية حقوق الإنسان في جنيف، فأنه ليس ثمة داعٍ على الإطلاق لطلب نشر بعثة سياسية ميدانية في السودان في الوقت الراهن على الأقل. هذه القناعة تأتي بغض النظر عن التقاء وجهتي نظر الحكومة ودول ظلت تبدي اهتماماً خاصاً بموضوع حماية المدنيين في غير حماس لعملية التنمية التي تتطلب مشروعاً متكاملاً للمساعدة الاقتصادية والمالية الدولية بما فيها عقد المؤتمر الدولي للتعهدات (مؤتمر المانحين). وقد تكون هذه الدول محقة في التزامها واهتمامها الأخلاقي لحماية المدنيين ولكن لا يمكن الطعن في أن حماية المدنيين تأتي في صلب التزامات الحكومة اﻻنتقالية دون أن يرتابَ أحد في ذلك إذ أن هؤلاء المدنيين سواء أكانوا في دارفور أم أي مكان آخر في البلاد هم من أشعل فتيل الثورة كما أن تحقيق التنمية بتكامل الجهد الوطني مع الجهد الدولي هو صمام الأمان لحماية مستديمة للمدنيين في كل مكان.

الثورة التي اندلعت في البلاد حركها تردي الأوضاع الاقتصادية ولم يحركها الافتقار إلى عملية السلام خاصة في دارفور. لذلك فإن السعي للتوافق على بديل اليوناميد وهي بعثة أممية أفريقية لإقليم دارفور، وأن يُعهد لذلك البديل بحل القضايا السياسية وقضايا المناطق الملتهبة (hot spots) كما جاء في التقرير الأممي الأفريقي المشترك في 12 مارس 2020م في شمال البلاد وشرقها وغربها ووسطها وجنوبها هو تحميل للأمر فوق ما يحتمل وسيؤدي بالضرورة إلى التغليب المطلق للقضايا السياسية والقضايا المفتعلة الخاصة بحماية المدنيين وما تجره من ترتيبات عسكرية وشرطية دولية – على القضايا اﻻقتصادية وهي لب المشكلة السودانية والمهدد الأول لوحدة البلاد لما لها من إنعكاسات خطيرة على الأوضاع الأمنية والسياسية. وقد أصاب التقرير المشترك للأمين العام ورئيس مفوضية اﻻتحاد الأفريقي والذي سبقت الإشارة إليه بتشخيص الأزمة اﻻقتصادية للبلاد بأنها خطر وتَحدٍّ وجودي. ولو أخذت سكرتارية الأمم المتحدة ممثلة في إدارة الشئون السياسية وبناء السلام وإدارة حفظ السلام هذا التشخيص مأخذ الجد لما أوصت ببعثة سياسية خاصة. ورد هذا (التشخيص) في فقرة يتيمة من الفقرات الأربع والثمانين التي اشتمل عليها التقرير. والتقرير يجري على عادة التقارير المتتابعة للسكرتارية من تصوير النزاع في دارفور بأنه نزاع عرقي ولم يختلف عن سابقاته في أن ينحى باللائمة والجرم على القوات المسلحة والدعم السريع في انتهاكات حقوق الإنسان المختلفة بما فيها الإنتهاكات ضد الأطفال مع العلم بأن السودان قد تمكن بفضل جهود شاقة حثيثة من الخروج في عام 2017 من القائمة السوداء للدول التي تنتهك حقوق الأطفال في النزاعات المسلحة.

أعاد التقرير أحد (لوازمه) في التقارير السابقة وهو اﻻقتتال القبلي لينتهي إلى القول بأن هذا الإقتتال قد ((أثار (قلقاً) يتعلق بالتحديات الأمنية بعد إنسحاب يوناميد خاصة أن قوات نظامية تشارك في هذا الإقتتال.))

يشير التقرير إلى أن البعثة (يوناميد) تتطلع للعب دور في تطبيق اﻻتفاقيات المنتظرة في جوبا كما يقترح التقرير نشر عناصر مسلحة وخبراء عسكريين وشرطيين فى البعثة السياسية القادمة مع التوصية بأن يواصل الخبراء العسكريون في يوناميد عملهم في البعثة الجديدة.
هل ستكون البعثة الجديدة بمثابة (يوناميد الثانية 2UNAMID) بعد أن تخلّقت من الرماد وعادت للحياة مثل طائر الفينيق في الأساطير اليونانية؟ .

من قراءتنا لرسالتي السيد معالي رئيس الوزراء للأمم المتحدة في 27 يناير و27 فبراير 2020م بدا جلياً أن الرسالة الثانية قد نسخت الأولى التي جمعت كل ما يمكن أن تقوم به بعثة ميدانية سياسية خاصة دون استثناء. غير أن التقرير المشترك للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي عندما أتى على الفقرة الخاصة (بخيارات بعثة المتابعة المنتظرة) أشار إلى رسالة 27 يناير بحسبانها المرجع لهذه الخيارات. وانطلاقاً من هذا التقرير ذكرت وكيلة الأمين العام للشئون السياسية في بيانها أمام مجلس الأمن يوم 24 أبريل فيما ذكرت إصلاح القطاع الأمني والقضاء وغيرهما باعتبارها أبرز مهام البعثة السياسية.

التقرير المشترك للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي بتاريخ 12 مارس وما دار في جلسة مجلس الأمن يوم 24 أبريل مقدمة أولى لضمان بقاء البعثة القادمة وتحورها وتحولها في المستقبل لما يسمى ((بتسلل البعثات)) ((mission -creeping)) وللتأثير المستقبلي الحاد على التطورات. إن نظام تقديم التقارير الدورية (reporting) هو الذي سيضمن استمرار وبقاء حالة التسلل.

أخيــراً
فإن الدبلوماسيين بطبيعة المهنة يعملون على إطفاء الحرائق وليس التسبب فيها. وقد كنت اظن – وما أزال – أن ما بذل من جهد وسكب من عرق بطريقة متكاملة لخروج يوناميد وضمان أن يتم ذلك بتوافق وتفاهم مشترك مع الأمم المتحدة هو عمل مهني وطني خالص وينبغي أن ينظر إليه على هذا النحو وإن يتم البناء عليه، وأنه يتوجب دائماً استحضار القواسم المشتركة للسودانيين في وطنهم عند اختيار المناسب مما تقدمه المنظمة الدولية في السياق الزمني المحدد وفي المرحلة الوطنية المحددة.

وفي ذلك يلاحظ القارئ أنني قد لجأت أحياناً فيما قدمتُ إلى التكرار وما قصدتُ به إلا التوكيد والنأي عما عداه.

المصدر: صحيفة السوداني

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.