التنظير والتأسيس لفكرة العدالة الدولية ،قام على وجود دول ومجتمعات يفلت فيها المجرمون من العقاب ،إما لعدم قدرة الأجهزة العدلية بما فيها القضاء ،على ملاحقة المتورطين ،أو لغياب الإرادة في الملاحقة والمحاسبة .
من هنا نبعت فكرة المحكمة الجنائية الدولية ،كآلية من آليات تحقيق العدالة ،وكقضاء تكميلي ينصف الضحايا المظلومين ويلاحق مرتكبي الجرائم ويضمن عدم إفلاتهم من يد العدالة ،خاصة في الجرائم الخاصة بالحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب.
(2)
حكومة المؤتمرالوطني ،وبنهاية التسعينيات ،دعمت تلك الأفكار والمبادئ الإنسانية ،وشارك -إن لم تخن الذاكرة ،وزير العدل علي محمد عثمان يس ،في كل الإجتماعات المؤسسة لتلك المحكمة ،وساهم الوفد السوداني بجملة من المقترحات لتطوير الفكرة التي تندرج ضمن محاولات سابقة لترسيخ مبدأ العدالة الدولية وتكاملها مع النظم العدلية الداخلية ،دون مساس بمفهوم سيادة الدول .
في الأربعييات جرت أشهر المحاكمات في نورنبيرغ لمجرمي النازية في المانيا ،وفي مطلع الألفية حوكم الرئيس الاسبق لليبريا ،تشارلز تايلور بمحكمة خاصة في سيراليون بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ،بالتالي جاءت تجربة المحكمة الجنائية في ذات اﻻتجاه حتى ولو اكتنف التجربة كثير من القصور والسلبيات .
(3)
لم يكتف نظام المخلوع عمر البشير بالمشاركة في اجتماعات التأسيس ،فأكمل دعمه بالتوقيع على ميثاق روما التأسيسي الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية ،فيما تلكأ لاحقاً في اتخاذ الخطوة التالية والاخيرة بالمصادقة على الميثاق بواسطة البرلمان.
وبعد الحرب في دارفور2003م، وما أفرزته من جرائم ،انقلب نظام المؤتمر الوطني ،رأساً على عقب ضد فكرة العدالة الدولية وعلى المحكمة كآلية من آليات تحقيقها،وتولى كبار القانونيين الموالين للنظام مهمة الدحض القانوني ،وروجوا لتسييس المحكمة وتأثيرها على سيادة الدولة ،مع التباهي بالنظام القانوني الداخلي .
الدخول إلى عالم قوقل كاف لتجد الكثير مما قاله مثلاً، أحمد إبراهيم الطاهر ،ومحمد الحسن الأمين ،وعبد الرحمن إبراهيم، والطيب هارون ،وغيرهم .
(4)
نفس الشخوص ونفس التنظيم الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وعبأ الناس ضد مبدأ العدالة الدولية ،طوال 13 عاماً من بدء أول مذكرة توقيف ضد مسئولي نظامهم ،عادوا أمس دون أن يرمش لهم طرف ،أو تنتابهم مسحة خجل ، ملوحين بالعدالة الدولية ضد أعضاء لجنة إزالة تمكين نظام الثلاثين من يونيو،ليس بسبب ارتكابهم لجرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية ،لكن لأن اللجنة تجرأت على فريد زمانه ووحيد عصره ،المخلوع البشير،ودونت بلاغاً ضده ،بتهمه باستلام حوافز ،وصلت إلى 20 مليون دولار في الشهر.
ذلك ما حدث من خلال بيان أصدرته هيئة الدفاع عن البشير وقع عليه أحمد ابراهيم الطاهر ومحمد الحسن الأمين والطيب هارون وعبد الرحمن ابراهيم ،وهاشم ابوبكر الجعلي ونخبة من المحامين .
البيان دحض اﻻتهامات ضد البشير،وعدها إشانة سمعة لموكلهم ،وذلك أمر طبيعي وحق لهم ولموكلهم،وما يثير الحيرة ويرفع حواجب الدهشة ،هو ما جاء في البيان نصاً “سوف يقاضي موكلنا كل من افترى عليه كذباً متى توفرت سبل تحقيق العدالة سواء داخل البلاد أو خارجها .
(5)
أفهم من البيان أن الرئيس المخلوع واعضاء هيئة دفاعه بثقلهم السياسي ،قد فهموا وأدركوا الآن أن هناك فرصة عدالة خارج البلاد ،يمكن أن يلجأ إليها الضحايا و المظلومون ،حينما تعجز أدوات العدالة الداخلية في إنصافهم ،وهم بذلك يخرجون من حالة إنكار وتوهم ظلوا فيها سنين عدداً رغم خبرة بعضهم السياسية والقانونية .
من المؤكد أن البشير،وهيئة دفاعه لن يذهبا لعدالة خارجية في قضاء محلي لدولة أخرى لا ينعقد لها اختصاص النظر في قضية حدثت داخل السودان ، ولن يجدوا إن صحت مزاعمهم بقصور العدالة الداخلية ، سوى اللجوء لمحاكم إقليمية أو دولية ،ولا استبعد أن يختاروا في يوم من الأيام خيار المحكمة الجنائية الدولية ، تجاهلاً لمبادئ السيادة وعبارات الاستعمار الجديد والعدالة الدولية المسيسة التي صدعونا بها لسنوات.
(6)
بعد سقوطها المذل والمهين بواسطة ثورة ديسمبر المجيدة ،توقعت أن يخرج من صلب الحركة الإسلامية جيل جديد ، لم تلوثه سنوات التفريط في المبادئ الكبرى ،وما ألزمت به الحركة نفسها ..جيل لم يتعلم الانتهازية ،لكن يبدو أن حدسي وظني قد خابا وتلاشيا فما زال رواد مدرسة البرغاماتية في الحركة يمسكون بخيوط اللعبة ودفة القيادة ،ويصرون على تعرية الحركة الإسلامية من أي مبدأ أخلاقي أو إنساني .
عبدالحميد عوض
السوداني