موقف سوداني محسوب يعزز موقع مصر في أزمة سد النهضة

دعا السودان مجلس الأمن إلى ثني جميع الأطراف في مفاوضات سد النهضة الإثيوبي عن أي إجراءات أحادية، بما فيها بدء ملء خزان السد قبل التوصل إلى اتفاق مع إثيوبيا ومصر. ويأتي الموقف السوداني ردا على محاولات أديس أبابا الاستقواء والتصعيد في هذا الملف دون مراعاة للمصالح الإستراتيجية لدول الجوار، ما يعكس تغيرا في موقف الخرطوم لصالح رؤية مصر الرافضة ملء خزان السد قبل الاتفاق، وتأييدا سودانيا لنهج القاهرة الدبلوماسي في حل الخلاف.

يعقد مجلس الأمن الدولي جلسة خاصة، الاثنين، للبحث في الخلاف بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة. وحضت الأمم المتحدة الدول الثلاث على العمل معاً لتكثيف الجهود من أجل حلّ الخلافات القائمة بالوسائل السلمية. وأدى وصول الأزمة إلى مجلس الأمن إلى تغير لافت في مسارها، بعد أن بدت الخرطوم غير متوافقة مع رؤية أديس أبابا.

ودخلت دولة جنوب أفريقيا، كرئيس للاتحاد الأفريقي حاليا، على الخط في محاولة لوقف التصعيد الراهن، والتوفيق بين الدول الثلاث لاستئناف المفاوضات في الإطار الإقليمي، قبل أن تتحول الأزمة إلى كرة لهب في مجلس الأمن، تحمل تداعيات سياسية بشأن المشكلات المتراكمة في القارة، والتي تبحث عن إرادة فقط لتسويتها رضائيا.

حسم الموقف السوداني رؤيته في التعامل مع سد النهضة، عندما بعثت وزيرة الخارجية، أسماء محمد عبدالله، برسالة، الأربعاء، إلى رئيس الدورة الحالية لمجلس الأمن الدولي، المندوب الفرنسي، نيكولاس دي ريڤيير، حددت فيها رؤية بلادها المتضررة من المشروع، ووضعت النقاط فوق الحروف، وأنهت ما بدا كأنه تضارب في الموقف من السد.

دعت رسالة السودان قادة الدول الثلاث إلى إظهار إرادتهم السياسية والتزامهم بحل القضايا القليلة المتبقية وإبرام اتفاق، واعتماد المسودة الشاملة المؤرخة في 14 يونيو، والتي قدمتها الخرطوم في الجولة الأخيرة كأساس لوضع اللمسات النهائية على الاتفاق، وثني جميع الأطراف عن الإجراءات الأحادية، بما فيها البدء في ملء خزان السد قبل التوصل لاتفاق.

رسمت المذكرة الخطوط الرئيسية لموقف السودان، بعد أن ظل لفترة طويلة يميل إلى دعم إثيوبيا في مشروع سد النهضة، وفشلت الدراسات الفنية التي قدمتها مصر في إقناعه بوجود مخاطر كبيرة على مصالحه، إذا أصبح السد أمرا واقعا، وعقب تغيير نظام عمر البشير بقي الانحياز لصف إثيوبيا إلى أن تمت مراجعة شاملة للملف، بدأت تظهر معها ملامح تغير نسبي، انعكس في شكل ارتفاع وهبوط في درجات الاختلاف مع أديس أبابا.

كشفت الجهود التي بذلها السودان خلال الفترة من 19 مايو حتى 17 يونيو عن رغبة حثيثة في حل الأزمة بالتفاهم، ومعها بدأت الخرطوم في تبني خطاب مستقل، بعيدا عن حسابات مصر أو إثيوبيا، ينطلق من تقديرات تتعلق بمدى ما يفرزه السد من مزايا وخسائر.

وعندما تيقنت من صعوبة تحمل الأضرار سلكت موقفا تفاوضيا مرنا، لكنه يصب في صالح رؤية مصر الرافضة ملء خزان السد قبل الاتفاق، وباقي المعايير الفنية المرتبطة بالتشغيل.

تعرجات إثيوبية
اعتداءات ميليشيات إثيوبية على منطقة “الشفقة” السودانية أكثر من مرة، لعبت دورا في تغير موقف الخرطوم

جاء التغير من منطلق وطني بحت، حيث جرى التخلي عن المعطيات التي دفعت الخرطوم إلى تبني موقف لا يرى سوى فوائد السد في مجال الربط الكهربائي، ويتغاضى عن أي تداعيات سلبية له على السودان، بعد حملة قوية في الداخل طالبت بإعادة النظر في القضية، ونبهت إلى حزمة من المخاطر المتوقعة، ما التفتت إليه الحكومة وظهر في المنحنى السوداني.

ربما تكون اعتداءات ميليشيات إثيوبية على منطقة “الشفقة” السودانية الحدودية أكثر من مرة، لعبت دورا في هذا التغير، لأنها جاءت مدعومة من قوات الجيش، وبعد أن أخفقت التفاهمات المشتركة بين البلدين في وقفها، وفهمت منها الخرطوم أن هناك استقواءً إثيوبيا يمكن أن يمثل اعتداء على مصالح إستراتيجية أخرى، بينها المياه.

لم يتخل السودان عن خطابه المرن مع أديس أبابا، وفي كل المحطات التي حدثت فيها خلافات حدودية أو بشأن سد النهضة، كانت الخرطوم ملتزمة بلغة الحوار والجوار، وحتى في مسألة الرسالة التي بعثت بها إلى مجلس الأمن في المرة الأولى والثانية بدت بروتوكولية، وانسجاما مع رد كل من مصر وإثيوبيا، وحرصت على وضوحها التام وتحديد أهدافها، وصاغتها بلغة دبلوماسية وخالية من الانحياز لأي طرف.

عززت الرسالة السودانية موقف مصر في ضرورة الاتفاق قبل الملء، ودفعت أديس أبابا إلى تهدئة خطابها الحاد، والإشارة إلى الحرص على التوصل لاتفاق، كما أن القاهرة أعادت التشديد على هذا الموقف الأيام الماضية، ونفت اللجوء إلى الخشونة، لكنها ألمحت إلى وجود خيارات وامتلاك أوراق لم تعلن عنها، قد تكون قادرة على إجبار إثيوبيا على العودة إلى طاولة المفاوضات، وهي إشارة غامضة يمكن فهمها سياسيا أو عسكريا، حسب الخندق الذي يقف فيه كل شخص أو دولة.

تراهن القاهرة على موقف الخرطوم الذي وضع ثوابت تتفق معها في قضية الملء، في حالة المضي قدما في تداول القضية داخل أروقة مجلس الأمن، أو العودة للمفاوضات، فلم تعد تغرد بمفردها، أو تتهم بأنها متغولة على إثيوبيا، أو لا تريد لها الخروج من نطاق الفقر والظلام، كما تردد الحكومة، ولذلك باتت أديس أبابا أقرب إلى التجاوب لاستئناف الحوار.

كان رئيس الحكومة السودانية، عبدالله حمدوك، واضحا عندما أبدى تفاؤله بالعودة واستكمال الحوار، وبحث الأمر، الأربعاء، مع رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامفوسا، باعتباره رئيس الدورة الحالية للاتحاد الأفريقي، والسبل الكفيلة باستكمالها مع مصر وإثيوبيا، واتفق الجانبان على أن هذه القضية لا مجال لحلها إلا عن طريق التفاوض.

ضوابط دولية
الرسالة السودانية تدعم الموقف المصري في ضرورة الاتفاق قبل الملء
انسجمت سلسلة من المواقف الدولية مع تحركات حمدوك الداعية إلى التفاوض والاتفاق، وأهمها جاءت من قبل الاتحاد الأوروبي، ومجلس الأمن القومي الأميركي ووزيري الخارجية والخزانة في الولايات المتحدة، وخبراء في مجموعة الأزمات الدولية، ناهيك عن البنك الدولي الذي ربط منح قروض لإثيوبيا بالتوقيع على اتفاق ينظم عمل السد، وبدا بشكل عام أن المجتمع الدولي يدعم فكرة عقد اتفاق أولا، ويرفض التصرفات أحادية الجانب في الملء، وأقرت الغالبية بأنها تتنافى مع القوانين الدولية.

يقلل تعامل أديس أبابا مع ملف سد النهضة على أنه نهر محلي ورفض الاعتداد بالضوابط والأعراف من وزن المجتمع الدولي، ويبين أنه غير قادر على ممارسة ضغوط سياسية عليها، في ظل تلميحات بوجود علاقات قوية لها مع جهات مختلفة، تعتقد أنها تمثل شبكة أمان لها، بينما تمنح مصر وزنا لهذا المجتمع وطقوسه البيروقراطية بدليل اللجوء إلى مجلس الأمن، وقبله طلب وساطة طرف رابع، والقبول بأي وساطة من أي جهة، والإصرار حتى الآن على التمسك بالحلول السلمية.

بعيدا عن النتيجة التي سيتوصل إليها مجلس الأمن والوقت الذي سيستغرقه، تؤكد أزمة سد النهضة وجود ثلاثة أنماط من الدول، مصر وإثيوبيا والسودان، كل منها يريد التعامل وفقا لمنظومته وبالطريقة التي يراها مناسبة، لكن لا أحد ينكر سلطة المجلس التي تعتمد على أهمية كل دولة في المنطقة وعمق علاقاتها مع القوى الكبرى التي تتحكم في اتجاه البوصلة داخله، وتجعل القضية تخضع لاعتبارات عدة.

هذا طريق يخضع لمساومات ومناورات عدة، غير أن الأساس في المحصلة أن هناك أزمة من الواجب أن تخضع للقوانين التي يستمد منها مجلس الأمن شرعيته، وهي الزاوية التي تعتمد عليها القاهرة ودفعتها نحو تدويل الأزمة، وترى أن المنطق الإثيوبي لن يصمد أمامها، لأنه يعتمد على لغة العضلات التي لا تتعامل بها سوى الدول الكبيرة داخل مجلس الأمن، ويعد الدخول في هذه الدائرة خسارة لأديس أبابا التي ستجد نفسها بين فكي رحى، الملء الانفرادي وبلا اتفاق وتحمّل النتائج المعنوية لهذه الخطوة من قبل المجتمع الدولي، والانصياع للتفاهم والشروع في دخول جولة جديدة من المفاوضات.

في الحالتين، لن تتمكن إثيوبيا من تعميم منهجها السابق، القائم على التحدي واستهلاك الوقت والتشبث بحرية التصرف في نهر دولي، فقد أصبحت المعلومات المتاحة حول القضية كافية للحكم على مواقف الدول الثلاث، ما يضع إثيوبيا في موقف بالغ الحرج، ويقلل من مصداقيتها، وهي التي تتطلع إلى الحصول على المزيد من الدعم الدولي لاستكمال مشروعها التنموي، وهنا يأتي المأزق الداخلي الذي يمكن أن تتعرض له، حيث وعدت الحكومة الشعب بالرفاهية، وصورت له أن السد هو باب النجاة الوحيد لكل الأزمات.

صحيفة العرب

Exit mobile version