بين ثقافة القطيع،وثقافة الثورة (هناك فرق)

بالطبع فإن نقدنا للسلوك الفكري والسياسي لحكومة المرحلة الانتقالية الحالية لا يصدر عن رفض لثورة التغيير أو نزوع لإعادة النظام القديم،أو دفعا لإنتاج نظام استبدادي

 

جديد ، بل هو عصف فكري وسياسي غايته صيانة الثورة من الردة والانتكاسة،لأن حركة التاريخ تنبئنا ان مسار الثورات نحو تحقيق قيمها وشعاراتها لا يكون مهادا سالكا، فالثورات تعتريها انحرافات ومطبات،وأروع ما تتيحه الثورات رخصة الحرية والتدافع الفكري والسياسي لتقويمها وتعهدها بالنقد البناء،ودفعها لتحقيق غاياتها الاستراتيجية وصناعة التحول الديمقراطي المستدام
(2).
الثورات تمر بهزات واضطرابات في المجتمع ناتجة من ميراث النظام القديم، والمعالجة في ظل الثورة تكمن في إتاحة الحرية والحوار العميق لبناء اللحمة الاجتماعية الوطنية،لأن مهام الثورة العميقة تقتضي البحث عما يجمع القوى السياسية ويوحد المجتمع داخل الدولة، وليس اثارة ما يفرقهم، وإذا ما فشلت الثورة في بناء ثقافة ووعي يعمق القيم الوطنية العليا حتما سينقسم المجتمع عموديا وستنهار مؤسسات الدولة الهشة اصلا، ونقع في فخ الفوضى الشاملة.
(3)
كل الثورات العالمية التي تم اختزالها في ايديولوجيا احادية، وكتلة سياسية ضيقة، فشلت في تحقيق مقاصدها وهي الحريات والديمقراطية ودولة القانون وارتدت إلى استبداد مطلق وتجلى ذلك في الثورة الروسية والإيرانية والكوبية
(4)
الثورة العميقة ينهض بها كل المجتمع بكل تناقضاته الفكرية وتنوعه الديني والثقافي والاثني واي ثورة يتم تقزيمها واختزالها في تيارات فكرية وسياسية معينة فإن مصيرها احداث شرخ وانقسام في المجتمع وكذلك تؤدي إلى تنامي حالة التناقضات داخل ذات القوى السياسية التي اختطفت الثورة، تنتهي إلى هزيمة مشروع الثورة، وانفضاض المجتمع عن الثورة وفقدان الثورة للحصانة والمشروعية وتشكل قابلية وسطالمجتمع لقبول مستبد جديد تحت زرائع حفظ الأمن وصيانة السلم الاجتماعي، والمجتمع السوداني في حالة تتساوى فيه حماسته للمشروع الديمقراطي، وحماسته لقيادة جديدة تنتشله من وهدة الفقر والبطالة، وغياب المشروع التنموي.
(5)
الثورات الحقيقية هي جماهيرية لا حزبية ولكن الأحزاب والمجموعات السياسية التي تسعى للهيمنة على الثورة لا تعي أن الثورة في الأصل تنهض نتيجة الوعي بالظلم وهذا الوعي بالظلم يجب أن تتشكل وطأته وحدته في كل شرائح المجتمع وليس في شريحة اجتماعية وسياسية محددة وهذا ما يعرف بالحالة الثورية، والحالة الثورية حتما باللحظة التاريخية لانفجار الثورة بل تتشكل بالتراكم الطويل والمجاهدات المستمرة منذ لحظة صعود نظام السياسي القديم للحكم حتى اللحظة التاريخية الحاسمة التي قادت لسقوطه، ولذلك فإن كل القوى السياسية السودانية لها سهم الشراكة في صناعة الثورة السودانية الحالية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بما في ذلك تيار الإصلاح والتغيير داخل حزب المؤتمر الوطني، والعبقرية الثورية تقتضي تعظيم واستمرار هذه الشراكة حتى يترسخ المشروع الوطني الديمقراطي المستدام.
(6)
عبأت قيادات قوى الحرية والتغيير الشارع السوداني بخطاب ثوري غاية في الشعبوية والفجاجة، والطاقات السالبة، وبثمارها تعرفونها، فحالة الانقسام العمودي الحاد في بنية المجتمع السوداني لا تصب في تحقيق مشروع البناء الوطني الديمقراطي، وثالثة الاثافي أن هذه القيادات المجازية استمرأت حالة الفصام النكد وتماهت مع ذات خطاب التحشيد والتخدير الشعبوي حتى سادت (ثقافة القطيع) وغدا الرجوع عن هكذا ثقافة قطيعية بمثابة ردة ثورية، ولذلك فقدت الثورة السودانية بواعث نهوضها والمتمثلة في القيادة الكارزمية الملهمة،وجماعية القيادة،ووحدة القوى السياسية للثورة بسبب التهافت والصراع حول المغانم، مع حالة سيولة واستقطاب عميق وسط المحتمع.
(7).
ازاء هذا الشرخ وحالة الفتنة وسط المجتمع، حتما ستفقد الثورة قيمة السلميةوستضع المجتمع بين خياري الحرب الشاملة، أو التنازل عن الحرية مقابل الأمن لمستبد جديد.
لذلك يجب إنهاء ثقافة القطيع الماثلة، وتصدي العقلاء والمثقفين لمهام إعلاء لغة الحوار والتسامح وبسط العقلنة وسط المجتمع السوداني،وإعادة بناء وتشكيل وجدان المجتمع السوداني بالقيم الثورية العميقة وليست القيم الزائفة، لانتشال الثورة من ثقافة القطيع، إلى ثقافة الثورة الواعية.

المصدر: صحيفة الوطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.