لطالما كان الذهب الملاذ الآمن أوقات الاضطرابات الاقتصادية ومخزناً للقيمة للتحوط ضد الأزمة المالية، وخلال الأشهر الأخيرة اختبر الذهب أعلى مستوياته على الإطلاق، وسط توجّه المستثمرين والبنوك المركزية إلى المعدن النفيس مع انهيار الأصول المالية الأخرى، مثل أسواق الأسهم وانخفاض عوائد السندات.
وليس بجديد على المستثمرين سواء أكانوا أفراداً أو مؤسسات أو حتى حكومات أن يصابوا بظاهرة “حمّى شراء الذهب”، التي ترتفع دائماً وعلى مر العصور في أوقات الأزمات الاقتصادية والحروب.
وفي هذا الشأن، قال المتخصصون في إفادات متفرّقة لـ”اندبندنت عربية”، إن ضعف الدولار الأميركي هو العامل الأبرز وراء ارتفاع أسعار الذهب للمستويات القياسية، لا سيما مع توجّه فيدرالي إلى خطة تحفيز تقارب الثلاثة تريليونات دولار، ما يُلقي مزيداً من الضغوط على العملة الأميركية، ويدعم القوى الشرائية للمعدن الأصفر مباشرة.
وذكر المحللون أن الذهب يميل إلى الاستفادة من تدابير التحفيز الواسعة النطاق من البنوك المركزية، إذ إنه يُعتبر تحوطاً في مواجهة التضخم وانخفاض العملة، متوقعين استقرار الذهب وانخفاضه قليلاً قبل أن يستأنف الصعود مرة أخرى.
ويتلقى المعدن النفيس الدعم من رهانات مزيد من تدابير التحفيز الرامية إلى تعافي الاقتصاد المنهك من الوباء، حيث لا تزال مفاوضات صفقة تحفيز جديدة بقيمة تريليون دولار جارية، بينما تستمر حالات الإصابة الجديدة بالوباء في الزيادة داخل الولايات المتحدة، كما أنّ عشرات الولايات الأميركية أجبرت على وقف أو تعليق خطط إعادة فتح الاقتصاد، وتجاوز عدد الإصابات بوباء كورونا المستجد (كوفيد 19) عالميّاً 19.92 مليون شخص حتى يوم الأحد.
ومنذ بداية العام الحالي وتزامناً مع جائحة كورونا، تمكّن المعدن النفيس من تحقيق مكاسب أكثر من 33 في المئة بعد ما صعد من مستوى 1523 دولاراً في بداية العام إلى مستوى 2035 دولاراً سعر إغلاق الجمعة الماضية، رابحاً نحو 512 دولاراً.
وفي مراجعاته التحليلية، يذكر بنك غولدمان ساكس أن الذهب أصبح منذ بداية العام الحالي الأداة المالية الأكثر ربحية وموثوقية، وليس فقط مقارنة بسندات الخزانة الأميركية، إنما مع أسهم شركات مثل “مايكروسوفت” و”آبل” و”أمازون” و”ألفابت”، و”بيركشاير هاثاواي”، و”فيسبوك”.
الزخم الشرائي
وفي هذا الصدد، قال محمد حشّاد، مدير مركز البحوث والتطوير في “نور كابيتال” ومقرها دبي، إن الذهب استفاد من الزخم الشرائي الواضح والمدعوم بارتفاع أحجام التداول، وزيادة نسبة السيولة وسط تركيز المستثمرين على الملاذ الآمن، والابتعاد عن الأدوات الاستثمارية الأخرى المرتفعة المخاطر.
وأضاف حشاد، أن أسعار المعدن النفيس تسجّل مكاسب قياسية ضمن سلسلة مكاسب طويلة، نجح خلالها في ملامسة مستوى 2075 دولاراً أميركيّاً للأونصة الواحدة، وذلك بعد أن نجح في بناء أرضية دعم صلبة حول 2000 دولار للأونصة الواحدة، ولعل تحركات الذهب الآن من أهم ما يركّز عليه المستثمرون سواء مستثمري المدى المتوسط والمدى الطويل، وذلك في ظل التغيرات والتطورات السياسية والجيوسياسية التي يشهدها العالم أجمع.
وتابع حشاد، أنه نستطيع القول إن الذهب هو الأكثر نشاطاً خلال الأشهر الماضية، وهو أفضل الأدوات الاستثمارية التي أحسنت استثمار تراجع الدولار الأميركي، الذي شهد موجة بيع قوية خلال يوليو (تموز) الماضي، بجانب عوامل أساسية ساعدت على الارتفاع المتواصل لأسعار الذهب، وأهمها الزخم الشرائي مقابل عمليات البيع المكثفة التي يواجهها الدولار الأميركي، التي تصبّ في مصلحة الأدوات المقومة بالدولار.
وأفاد بأن ضعف الدولار جاء نتيجة عدة أسباب أبرزها: تزايد ارتفاع حالات الإصابة بفيروس كورونا في الولايات المتحدة، الذي هزّ مكانة الدولار الأميركي، وأدّى إلى تراجع مستويات الثقة، وسط المخاوف حيال تعافي أكبر اقتصادات العالم في وقت قريب، ويأتي ذلك بالتزامن مع تصعيد الخلافات بين الجانبين الأميركي والصيني وسط تلميحات من جانب الإدارة الأميركية بأنها تفكّر في توسيع إجراءاتها ضد بكين.
وأشار إلى التراجع الواضح في عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل عشرة أعوام، وملامسة مستويات قياسية، لتفقد أخيراً ثماني نقاط مستقرة حول 0.56 في المئة، علاوة على تراجع عوائد السندات لأجل 30 عاماً بنحو 14 نقطة، مسجلة 1.25 في المئة.
وتابع حشاد، “الحديث عن خطة تحفيز جديدة بقيمة 2.9 تريليون دولار واحدة من الأسباب التي تضغط على العملة الأميركية، التي تأتي في مصلحة تزايد الطلب على الذهب كملاذ آمن وسط تقلبات الأسواق، إضافة إلى المأزق السياسي من الجولة الثانية للحوافز المالية الأميركية، وكذلك عمليات البيع المكثفة على الدولار، نتيجة تدهور سوق العمل، وذلك مع احتمالية فشل الكونغرس في التوصّل إلى حزمة التحفيز المالي، وفي حال لم يتحرّك الكونغرس لدعم الاقتصاد فقد يكون الاحتياطي الفيدرالي مضطراً لاتخاذ مزيد من الإجراءات التحفيزية، وخفض أسعار الفائدة المرجعية على الدولار، وقد يكون مضطراً إلى مستويات الفائدة السالبة، التي تزيد من الضغط على الدولار الأميركي، ويستغلها المعدن الأصفر ليستهدف قمماً سعرية جديدة”.
وحول توقعات الأسعار المقبلة، قال حشاد إنه لا بدّ من مراقبة السلوك السعري جيداً حول مفاتيح الاتجاه من الأعلى 2075 دولاراً، واختراقها يزيد ويسرّع ويؤكد قوة الاتجاه الحالي الصاعد، ليكون الطريق مفتوحاً بشكل مباشر تجاه 2130 دولاراً للأوقية، بينما في حال فشلت الأسعار في الحفاظ على مستوى التداول فوق دعم 2000 دولار فقد نشهد تصحيحاً هابطاً، أهدافه الأولية على المدى القصيرة هي 1937 دولاراً.
تكالب على حيازة الذهب
من جهته، قال رجب حامد، المدير الشريك بمجموعة “سبائك”، “يوجد تكالب من المستثمرين لزيادة حيازتهم من الذهب، ما جعل الأسعار تشتعل. كنا نتوقع أن تصل سعر الأونصة إلى مستوى 1900 دولار، ثم تحدث عملية تصحيح، لكن خالف الذهب التوقعات، واستكمل الصعود إلى مستوى 2075 دولاراً”.
وأوضح أن السوق خلال الفترة الأخيرة في الأسعار القياسية فقدت عمليات التصحيح وجني الأرباح للذهب، لأن الكل متخوّف من بيع الكميات، في حين تواصل الأسعار الاستفادة من المؤثرات الأخرى.
وبسؤاله متى تقل حدة شراء الذهب؟ قال حامد، “يتحقق ذلك إذا ظهرت شفافية ورؤية واضحة للمستقبل، فمثلاً بالوضع الحالي حتى بعد الانتخابات الأميركية ستظل الأسواق في حالة لجوء إلى الملاذات الآمنة وعدم الانفتاح على الاقتصاد، وتراجع شهية المخاطرة، لأن الأوضاع المحيطة تجعل المستثمر يحتفظ بالسيولة، لحين وجود انفراجة في البورصات، لكي تعود شهية المخاطرة ويعود الاستثمار”.
وتوقع حامد أن يستكمل الذهب ارتفاعه إلى مستوى 2100 دولار للأونصة، ثم تبدأ عملية تصحيح تهبط بالأسعار إلى مستوى 1950 – 1900 دولار في سيناريو تحسن أداء الدولار الأميركي، بينما تحوّلت التوقعات المستقبلية بعد تجاوز مستوى الألفين إلى استهداف 2300 و2500 دولار للأونصة.
وتابع، “الذهب استفاد من تفاقم المخاوف بشأن موجة ثانية لكورونا، وتحوّل السيولة إلى ملاذات آمنة، إلى جانب العوامل الاقتصادية التي تتضمّن ضعفاً عاماً في الدولار، وانخفاض عائد الأسهم والسندات بنسب كبيرة، ما جعل شهية المخاطرة تنخفض بنحو لافت”.
ويرى المدير لدى “سبائك” أن بيانات سوق العمل الأميركية كانت في يوليو (تموز) إيجابية إلى حدّ ما، وممكن مع بيانات أغسطس (آب) أن نرى بعض الراحة النفسية، ويتجه بعض المستثمرين إلى مزاولة النشاطات مرة، وارتفاع مؤشر الدولار بعد أن كان عند 103 نقاط في بداية الأزمة، ثم انخفض إلى 92 نقطة الجمعة الماضية، وهو أقل مستوى خلال عامين.
وأشار حامد إلى تأثير برامج التحفيز التريليونية للاقتصادات الكبرى ومخاوف التضخم في زيادة الزخم الشرائي للذهب، إلى جانب ذلك تعززت القوة الشرائية للصناديق الاستثمارية والأفراد، إلى جانب طلب البنوك المركزية العالمية، وذلك رغم ارتفاع سعر الأونصة، إذ كان الذهب أفضل أداء منذ بداية العام، وحتى الآن بنسبة عوائد ناهزت 36 في المئة.
انتعاش الذهب
من جهته، قال جون لوكا، محلل أسواق السلع العالمية، إن انتعاش الذهب جاء بفضل ضعف الدولار الأميركي، الذي يتعرّض لضغط كبير مع مواصلة بنك الفيدرالي الأميركي طباعة الدولار، ما أدّى إلى انخفاض قيمة العملة، في وقت يجري تسعير الذهب بالدولار، لذلك من المتوقع استمرار استفادة أسعار الذهب من هذه السياسات.
وأضاف لوكا، أن هناك قاعدة عامة أنه لا يمكن للأسواق أن ترتفع إلى الأبد، بالنسبة للسلع مثل الذهب أو النفط أو أي شيء آخر، إذ يجب أن نشهد ما يعرف بالتصحيح الصحي لأسعار الذهب، قبل أن يستأنف وتيرة الارتفاع، التي سيحددها بشكل كبير تحركات الاقتصاد الأميركي.
وتابع، “تداولات الجمعة الماضية تعكس أن أسواق الذهب أصبحت جاهزة للانخفاض نحو أدنى مستوى الـ2000 دولار للأوقية، وهو حاجز نفسي بالنسبة إلى المتداولين الذي إذ جرى اختراقه سنتجه صوب مستوى 1925 دولاراً ثم 1800 دولار، وستنشط معه العودة إلى تكوين المراكز الشرائية مرة أخرى”.
تدافع المستثمرين على الذهب والسندات العالية التصنيف
وحسب إحصاءات بنك أوف أميركا، شهدت تدفقات الصناديق تدافعاً من المستثمرين على السيولة والذهب والسندات العالية التصنيف، وسط ترقب في الولايات المتحدة لموافقة الكونغرس على تحفيز جديد، وتسببت بواعث القلق حيال مصير الحزمة في خروج 7.4 مليار دولار من صناديق الأسهم على مدى أسبوع حتى الأربعاء الماضي، في وقت فترت فيه أيضاً التدفقات على الأسهم الأوروبية، إذ شهدت نزوح مليار دولار على مدار الشهر الماضي.
وقال البنك إن صناديق الأسهم الأميركية شهدت أكبر نزوح في ستة أسابيع، إذ فقدت 6.5 مليار دولار، ورغم ذلك، يقترب المؤشر “ستاندرد آند بورز 500” من مستوى قياسي مرتفع، إذ ساعدت إجراءات التحفيز المتخذة بالفعل مؤشرات الأسهم الأميركية على تجاوز عمليات البيع التي أعقبت تفشي فيروس كورونا.
واستقطبت صناديق الذهب نحو 2.7 مليار دولار. بينما جذبت السندات العالية التصنيف 14.7 مليار دولار، مع اقتداء المستثمرين بالبنوك المركزية التي تبلغ مشترياتها من السندات ملياري دولار في الساعة.
إندبندنت