ترامب المفبرك.. لماذا يصر الرئيس الأميركي على الاستهانة بـ “كوفيد-19″؟

منذ اللحظة التي أعلن(1) فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن إصابته وزوجته بـ “كوفيد-19″، في الأيام الأولى لشهر أكتوبر/تشرين الأول، انتظر العالم أجمع تبعات حالة الرجل وتأثيرها بالتبعية على قراراته السياسية وإعلاناته المتلاحقة عبر تويتر، خاصة ونحن نقترب -خلال أقل من أسبوعين- من انتخابات الرئاسة الأميركية، وفي وقت تشهد فيه الولايات المتحدة أكبر درجة انقسام في تاريخها، كان موضوع “كوفيد-19” نفسه معركة حاسمة.

ترامب رجل سبعيني ذو وزن زائد عن المتوسط بفارق كبير، وهما معياران يضعانه لا شك في قائمة الخطورة الخاصة بالمرض، وحينما أُعلِنت إصابته عدنا بالذاكرة إلى مارس/آذار حينما عانى بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني مع المرض، لكن ترامب امتلك ميزة رئيسية مقارنة بجونسون، وهي أننا الآن بتنا أكثر خبرة(2) في المرض، من ضمن الأدوية التي تلقّاها ترامب مثلا كان “الديكساميثازون”، في يونيو/حزيران الفائت بتنا نعرف أنه يُقلِّل نِسَب الوفاة من 40% إلى 28% للمرضى على أجهزة التنفس، ومن 28% إلى 20% مع استخدامه في حالة احتياج المرضى إلى الأكسجين.

من جانب آخر كان ترامب قد تلقَّى “ردميسيفير”، وهو إلى الآن واحد من أفضل المرشحين بين الأدوية المضادة للفيروسات، وأخيرا خضع الرئيس الأميركي لنظام علاجي تجريبي متطور تُنتجه شركة “ريجينرون” الأميركية، وهو عبارة عن خلطة من الأجسام المضادة التي تقاوم المرض مثل مناعة الجسم وتمنع الفيروس من الوصول إلى هدفه، لكن هناك مفارقة(3) تحديدا بالنسبة لهذا الخليط الجديد، حيث إن البحث العلمي الذي يُنتج هذا النوع من الأجسام المضادة، وهو مُتفرِّع في عدة نطاقات كعلاج السرطان والإيدز وتشوُّهات الأجنة، يعتمد بالأساس على خلايا قادمة من أجنة أُجهِضت، الأمر الذي عملت إدارة دونالد ترامب قبل عدة أعوام على حظره بحثيا.

عقار “ردميسيفير”

لكن علاقة دونالد ترامب بـ “كوفيد-19” تتخطى حاجز المفارقات، بل يمتد الأمر إلى ما هو أعمق. يمكن مثلا أن نتأمل منشورا كان الرئيس الأميركي قد كتبه على فيسبوك قبل أيام فور تعافيه من المرض، حيث قال(4) إن “كوفيد-19” أقل في الخطورة “بفارق كبير” عن الإنفلونزا في “معظم التجمعات البشرية”، مضيفا أن الإنفلونزا تقتل أكثر من 100 ألف شخص سنويا. (فيسبوك حذف المنشور)

ترامب هنا يتعمَّد فبركة المعلومة بالكامل، فبينما يُشير ليلا ونهارا إلى أن 99% من الإصابات بالمرض غير خطيرة، نحن نعرف أنه في حالة كورونا المستجد فإن نِسَب الحالات الخطيرة(5) تبلغ نحو 20% من الإصابات، تلك النسبة هي 1% فقط في حالة الإنفلونزا(6)، أضف إلى ذلك أن نِسَب الوفاة في حالة “كوفيد-19” في المتوسط العالمي هي 3-4% بينما 0.1% فقط في حالة الإنفلونزا الموسمية(7)، أضف أيضا أن عدد حالات الوفيات في الولايات المتحدة الأميركية بسبب الإنفلونزا ليس 100 ألف، وفيات الأميركان من “كوفيد-19” إلى الآن هي قرابة 230 ألف، أما في موسم 2018-2019 فقد قتلت الإنفلونزا 34 ألف أميركي، والموسم السابق له 61 ألف أميركي، أي تقريبا رُبع وفيات كورونا(8) في أقل من عام!

ليست هذه هي المرة الأولى التي يُقلِّل فيها ترامب من شأن تبعات الفيروس عن طريق فبركات مباشرة. بدأ الأمر من شهر فبراير/شباط حينما قال في أكثر من مرة إن هذا الوباء سيذهب بحلول شهر (إبريل/نيسان) مع احترار الطقس، خطة ترامب عبر التلفاز ومنصات التواصل الاجتماعي كانت واضحة، فما دام أن الأهم هو تأييد خطة فتح البلاد، فلا بد أن نُوجِّه الناس لقراءة الحدث على أنه أقل مما يُروِّج له العلماء أنفسهم، يمكن في تلك النقطة أن نلاحظ خط سير تغريداته خلال شهور الأزمة.

حيث بداية من إبريل/نيسان بدأ ترامب في الإشارة المباشرة إلى أن الوباء “وصل إلى ذروته” وأنه “بدأ في الانخفاض”، وأن “نهايته قد اقتربت”، كل ذلك لم يكن مبنيا على أي معلومات دقيقة عن المسار المُتوقَّع للأحداث، استمرت فبركات ترامب المباشرة على هذا النمط وصولا إلى سبتمبر/أيلول حينما قال إن الوباء “يمر بجولته الأخيرة” في الولايات المتحدة، وهو أيضا أمر غير مؤكد بعد، خاصة أننا على أبواب الشتاء، وخلال مناظراته مع “بايدن” -حاليا- ما زال يُردِّد الكلام نفسه.

بل ويمكن أن تُلاحظ الفبركة المتعمَّدة بوضوح شديد حينما قال فيها إن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة أقل نسبة وفيات في العالم مقارنة بعدد المصابين. لكن في تلك اللحظة التي قال فيها ترامب هذا الكلام كانت نِسَب الوفيات في الولايات المتحدة الأميركية نحو 4%، دعنا مثلا نقارن ذلك بدولة مثل قطر أو المملكة العربية السعودية أو أيٍّ من الدول الأوروبية، كانت الولايات المتحدة الأميركية هي تاسع أسوأ دولة في العالم من حيث نِسَب الوفيات في كل 100 ألف مواطن بالدولة، في لحظة إطلاق هذه التصريحات(9).

أما الأكثر إثارة للانتباه دائما فكان تصريحات ترامب التي تتناول موضوعات غاية في الدقة والخطورة في السياق نفسه، تصريحات من نوعية “الأطفال مُحصَّنون ضد “كوفيد-19″”، وهو أمر كرَّره أكثر من مرة وصولا إلى مناظرته الأولى مع بايدن، الأمر الذي نعرف بالتأكيد أنه غير صحيح(10) (10% من مصابي الولايات المتحدة أطفال)، فرغم أن التقديرات الأولية أشارت إلى أن الأطفال يتعرَّضون للإصابة بنِسَب أقل مع أعراض أخف، فإن الكثير من النشاط البحثي حاليا يُشير إلى أن الأطفال يمكن أن يكونوا أحد الأسباب الرئيسية للانتشار المتفاقم للمرض(11)(Super Spreaders).

وبالطبع لا يمكن إلا أن نتطرَّق في هذا السياق إلى “فضيحة الهيدروكسيكلوروكين”، لنتأمل مثلا تصريح دونالد ترامب في التاسع عشر من مارس/آذار الماضي، حينما قال إن هذا العقار قد يكون “عاملا حاسما” في لعبة القضاء على “كوفيد-19″، ثم تلت ذلك تصريحات(12) أخرى له يقول فيها إنه يعتمد بشكل شخصي على الهيدروكسيكلوروكين للوقاية من “كوفيد-19″، الأمر الذي دفع الجمهور للهجوم على الصيدليات وشراء كميات كبيرة منه ما تسبَّب في نقصه بالأسواق، إلى جانب ظهور بعض حالات التسمم بسبب استهلاك الدواء بجرعات غير مناسبة.

نعرف الآن أن ترامب، بعد أن أُصيب بالمرض، لم يُعالَج بهذا الدواء، حيث أصبح النطاق البحثي حاليا أكثر ميلا ناحية رفض الهيدروكسيكلوروكين بوصفه علاجا لـ “كوفيد-19″، وكانت إدارة الغذاء والدواء الأميركية (FDA) قد سحبت(13) بالفعل إقرارها الاستخدام الطارئ له قبل نحو شهرين من الآن، إلا أن ترامب ظل مُصِرًّا على أن الهيدروكسيكلوروكين يُمثِّل طفرة في التعامل مع “كوفيد-19″، ومع توالي صدور تلك الدراسات بدأ ترامب في إضافة محور آخر للعبة أكثر خطورة، فبينما كان يُروِّج بالأساس لأن المرض كان مقدورا عليه، وأنه لا حاجة إلى إغلاق الاقتصاد، ومن السهل أن يتعامل الأميركان معه، الفكرة التي ظل يُروِّج لها حتّى بعد إصابته، انتقل ترامب إلى نظرية المؤامرة.

في يوليو/تموز الفائت شارك(14) حساب ترامب على تويتر فيديو لطبيبة أميركية تُدعى ستيلا إيمانويل تقول إن الهيدروكسيكلوروكين هو العلاج الوحيد الصحيح لـ “كوفيد-19″، وهو أيضا وسيلة وقاية فعّالة، وأضافت في الفيديو نفسه أنها تمكّنت من علاج مئات المرضى بهذا العقار، وأنها -وهي النقطة التي نود الانتباه لها- لا تعرف بالتحديد مَن يمنع هذا الدواء عن الناس، وما مصالحه، مع تشكيك مباشر في البحث العلمي الخاص بهذا النطاق.

إيمانويل هي أحد المؤمنين بنظرية المؤامرة، ويمتد الأمر وصولا إلى تصوُّراتها(15) أن الإصابة بالإجهاض أو تكيُّس المبايض هي أعراض مباشرة لوجود حيوانات منوية خاصة بالجن الذي مارس الجنس مع هؤلاء السيدات اللائي عانين من تلك المشكلات الطبية، تؤمن كذلك بنظرية مؤامرة تُشير إلى أن كائنات فضائية من فصيلة الزواحف تُدير الحكومة الأميركية، وأن أشياء مثل هاري بوتر وبوكيمون هي وسائل الماسونية للسيطرة على الأطفال وتعليمهم أساسات السحر.

خطاب ترامب المؤامراتي قديم، من 2016 وهو يُروِّج لنظريات مؤامرة سياسية(16)، وحاليا يستخدمه بتركيز شديد كلما اقتربنا من موعد الانتخابات الأميركية، ويمكن أن تُلاحظ أنه مؤخرا شارك تغريدة تُروِّج لنظرية مؤامرة تقول إن بايدن، منافسه في الانتخابات الرئاسية، قتل عن عمد 6 من ضباط الأمن المشاركين في عملية اغتيال ابن لادن للتستُّر على الحقيقة التي تقول إنه لم يمت وفشلت المهمة في عام 2011.

ويمتد هذا الخطاب المؤامراتي ليصل إلى العلاج ببلازما المتعافين، حيث قال في تغريدة على تويتر إن ما يُسمى بـ “الدولة العميقة” داخل إدارة الغذاء والدواء (FDA) تتعنّت لتجعل من الصعب جدا على شركات الأدوية الحصول على تصريحات لاختبار اللقاحات والعلاجات لـ “كوفيد-19″، مُشيرا إلى أن هناك مؤامرة ما تهدف إلى تأخير الأمر لما بعد 3 نوفمبر/تشرين الثاني، ويقصد موعد الانتخابات الأميركية.

قبل هذه التغريدة بنحو أسبوع، وبينما كانت إدارة الغذاء والدواء مُتردِّدة في إصدار تصريح بالاستخدام الطارئ لبلازما المتعافين بوصفها علاجا لـ “كوفيد-19″، تدخَّل(17) مجموعة من كبار مسؤولي الصحة الفيدراليين، من ضمنهم الدكتور أنطونيو فاوتشي عضو فريق عمل البيت الأبيض لفيروس كورونا والوجه الإعلامي الأميركي للبحث العلمي الخاص بهذا النطاق، لمنع إصدار هذا التصريح بحجة أن البيانات عن بلازما المتعافين ما زالت ضعيفة، لكن بعد التغريدة بأيام قليلة صدر تصريح طارئ باستخدام بلازما المتعافين في علاج المرض.

في تلك النقطة فإن يدَيْ ترامب السياسيتين تتلاعبان مباشرة بالبحث العلمي، فهو يضغط بنظرية المؤامرة في العلن بيد، ويضغط على المؤسسات العلمية بيد أخرى في الخفاء، ويُشير مقال منشور مؤخرا في “نيتشر”(18) إلى أن إدارة الرئيس الأميركي الحالية قمعت وفرضت رقابة على علماء الحكومة الذين يعملون على دراسة الفيروس وتقليل أضراره، واستخدمت أدواتها السياسية في المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC) وإدارة الغذاء والدواء (FDA)، وأمرت تلك الوكالات بتقديم معلومات غير دقيقة، وإصدار إرشادات صحية غير حكيمة، والترويج لعلاجات لم تثبت صحتها في علاج المرض.

لذلك لن يكون من المفاجئ أن نعرف أن أعرق الدوريات الطبية19 “نيو إنجلاند جورنال أوف ميدسن” (NEJM) قرَّرت قبل أسابيع قليلة، لأول مرة منذ أكثر من مئتي سنة، أن تمد يديها في معترك السياسة وتُطالب مباشرة بتغيير القيادة الحالية في الولايات المتحدة الأميركية. من جانب آخر أعلنت دورية “نيتشر”(20) العريقة صراحة تأييدها لبايدن في الانتخابات السياسية، ودعوة العلماء ومحبي العلوم إلى ذلك، مُشيرة إلى أن ما يفعله ترامب هو إهانة للعلوم والحقائق.

أما الأكاديمية الوطنية الأميركية للعلوم(21)، وهي هيئة كانت محايدة طوال عمرها، فقد أصدرت بيانا في أواخر (سبتمبر/أيلول) يُدين التدخُّل السياسي في وكالات الصحة العامة، مع إشارات مباشرة إلى جهود إدارة ترامب من أجل الإسراع بالموافقة على لقاحات وأدوية قبل اكتمال اختبارات الأمان والفاعلية، الأمر الذي يمكن أن يتسبَّب في كوارث عدة، ليس أقلها تشويه صورة العلم والعلماء أمام العامة، وهي صفة ظلَّت جزءا من قوة الدولة الأميركية منذ الصعود إلى القمر في ستينيات القرن الفائت.

في كتابه “نظريات المؤامرة: السرية والقوة في الثقافة الأميركية” أشار مارك فينستر، الأستاذ بكلية القانون بجامعة فلوريدا عام 2008، إلى أن معتنقي نظريات المؤامرة ليسوا فقط مجموعة من المصابين بمستويات، ربما غير مَرَضية، من الذهان، فالبعض يُروِّج عمدا لنظريات المؤامرة لأنها تخدمه سياسيا بقوة، وتحشد أنصاره في مواجهة معارضيه دون حاجة إلى اللجوء للمنطق والعقلانية، خاصة حينما تُهينهم وتُشوِّه صورتهم عمدا.

خلال أقل من عام مضى حاول الرئيس الأميركي فعل ذلك، كذب عمدا بشأن مخاطر فيروس كورونا المستجد، وعمل بكَدٍّ على تقويض الجهود المبذولة لاحتوائه، فقط لأغراض سياسية تتضمن دعم خطة الفتح والفوز بالانتخابات، الأسوأ من ذلك أنه خلال كل تلك الفترة لم يتوقف عن الإشارة إلى أن “كل شيء تحت السيطرة”، في وقت عانت فيه الولايات المتحدة الأميركية من أعلى عدد إصابات وأعلى عدد وفيات في العالم كله!

الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.