لولا لجنة إزالة التمكين لما اضطررت للجلوس طويلاً أمام صغاري، أشرح لهم كيف أنني كابدت كثيراً من أجل إكمال دراستي الجامعية، وان شهاداتي كلها سليمة وليست مُزوّرة.. ولما احتجت لأن أذكر لهم المبرر الحقيقي لعدم إيفائي بتعهداتي لهم بإهدائهم دراجة هوائية حين النجاح والتفوق في امتحانات آخر السنة، فالسبب كان انفلات السوق واضمحلال الدخول، وأنا لست سارقاً، وإلا لكان ميسوراً تحقيق أحلامكم البسيطة باقتناء (عجلة).. مرد هذا المجهود الجبّار في الشرح والتفسير، قرار لجنة إزالة التمكين بإعفائي وثلة من زملائي في التلفزيون والإذاعة من العمل وإنهاء خدماتنا تحت طائلة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو، وما كاد أن يعلق بسببه في أدمغة أبنائي الصغيرة من صور شائهة تجاه والدهم.. وما يعرفه عامة الناس وخواصهم أن لجنة التمكين تنشط في تطهير الفاسدين.. وألف تنهيدة من تنهيدات وجدي صالح المُصطنعة لا تعدل نظرة حيرى ومتسائلة من طفل تستفسر عن حقيقة ما يرى ويسمع حوله.. وفي معرض دفوعاتي لإعادة الصبية إلى جادة الحقيقة، أحدثهم عن وقتهم المستحق عليّ وبذلته في دوام إضافي لآتيهم بعد أن يجن الليل وهم في مأواهم الشعبي في آخر نقطة على حدود ولاية الخرطوم يتطلب الوصول إليه استخدام كافة أشكال وسائل النقل المتهالكة (حافلات، دفارات، تكاتك، ولن تسلم الأرجل أحياناً) ينعمون بجوار منزل الأستاذ محمد الفكي، غير انه في سكناه من الزاهدين، أبين لهم ان هذا العنت من أجل لا تمتد أيادينا إلى مال حرام.. كل هذه مرافعات لدفع تُهمة ظالمة من أطلقها لم يتحسب لآثارها وارتداداتها.
والقرار المذكور دفعني دفعاً إلى تذكير الأصدقاء والمعارف، حين لمست الدهشة تأخذ بألبابهم إلى مواقفي التي شهدوها معي حين ميسرة أو عسر إن كان فيها جنوحٌ نحو التجاوز، أو الفساد أو التسلط أو الاستيلاء على ما ليس لي.. وهُنا فُرصة أيضاً لعرض كيفية حُصُولي على وظيفتي في تلفزيون السودان، إذ أن الأمر لم يخالف ما اعتاد وتعارف عليه العاملون في هذه المؤسسة، بدخولي متعاوناً بالإدارة السياسية ضمن كوكبة من الصحفيين المحترفين، إلى أن شغرت وظائف بالتدافع الطبيعي من إحالة للمعاش وترقيات، ورشحنا نحن زهاء السبعة عشر موظفاً، واستكملنا إجراءات التوظيف عبر لجنة مفوضة من لجنة الاختيار مستوفين كافة الشروط وبكامل المستندات المطلوبة (كشف التمكين لم يشمل سوي ثلاثة من هذه القائمة)، ومضينا في عملنا منذ العام ٢٠٠٩، لم نترقَ فيها إلا درجة واحدة، وفي حسباننا هذا ظلم النظام السابق، ما كنا نظن أن ظلم حكومة الثورة أشد وقعاً وأكثر إيلاماً.
لا أشك أن قرار فصلي من العمل كان ظالماً، وخلا خطاب الفصل من اية حيثيات تسبب الفصل وكان متعجلاً، إذ اسمي في الخطاب ورد خاطئاً، واستغرب أن لجنة لا تجد متسعاً للتدقيق في وثائق رسمية، كيف تسنى لها التحقق من التجاوزات التي ترقد في ملفات العاملين.. فقلة الخبرة والدربة لكوادر هذه اللجان لا يحتاج كثير عناء لاستبيانه.. أنا الآن بسبب هذا التخبط، انتظر خطابي الذي أعيد إلى لجنة إزالة التمكين لتصحيح الاسم، ولا أدري متى يعود، وفترة السماح للاستئناف تتسلل من بين أيدينا يوماً بعد يوم، ولا أحدٌ يملك إجابة حول ما الذي يمكن أن يحدث حال لم نتمكّن من اللحاق بفترة الاستئناف بسبب هذا الخطأ الذي تتحمّله لجنة التمكين وحدها..؟
أما لجنة الاستئناف التي سنذهب إليها إذعانا، إذ لا سبيل للتظلم غيرها، فهي ليست سوى الوجه الآخر للجنة التمكين، فكلتا اللجنتان سياسيتين.. فإما أن نتجرّع مرارة الظلم، وإما أن نتعلق بقشة الاستئناف، حيث لا ملجأ من لجنة العطا إلا إلى لجنة نيكولا، وهو للغرابة يشبه إلى حدٍّ بعيدٍ، التدابير التعسفية التي اتخذها نظام الإنقاذ عندما اشترط التدريب العسكري لدخول الجامعات وأداء الخدمة الوطنية شرطاً للتوظيف، لتأتي لجنة إزالة التحكيم وتحاكم الموظفين بناءً على هذه التدابير وكأنها لا تعلم أن آلافاً من الخريجين قد أدوا الخدمة الوطنية في مناطق العمليات العسكرية أو ربما هي لا تعلم، فكثيرا مما يتسيّدون المشهد الآن قد هبطوا من وراء البحار ليجنوا ثمار ثورة لم يغرسوا ثمرتها.
والحال كهذه، فإن لجنة إزالة التمكين تنتهج سلوكاً يمهد الطريق أمام هروب الأموال المنهوبة.. هي غير حريصة على الدقة فيما تتخذ من قرارات مُعتمدة على حصانتها ضد أحكام القضاء، ولكن حين رفع حجب هذه الحصانة ستعود كل الأموال المصادرة إلى أصحابها سواء اكتسبوها بطرق شرعية او غير شرعية.. فلا مصادرة إلا بحكم محكمة، هذا ما قال به خبراء وفقهاء قانونيون وسياسيون ومثقفون منصفون تصريحاتهم في هذا الشأن مبذولة في الوسائط، ولجنة التمكين تلوذ بالصمت، وعندها سيدفع الشعب السوداني هذه الأموال من ماء عينيه، تماماً كما حدث في قضية المدمرة كول، فلجنة إزالة التمكين تشبه الإنقاذ في كثير من التصرفات والحماقات، والحقيقة إن هذه لجنة لتمكين التفكيك حوّلت ملف العدالة الانتقالية إلى سوق سياسي وإعلامي للتشفي والتشهير، ولا شك أنّ هناك كثيرين مثلي أصبحوا ضحية لنزق الموتورين والانتهازيين والفشلة كأولئك الذين فوّضتهم اللجنة لإحلال التمكين الجديد في التلفزيون.. ولو لم ترفع لجنة إزالة التمكين يدها عن هذه القضية الحقوقية وإعادتها إلى سوح القضاء، فإن دماراً كارثياً ينتظر مؤسسات الدولة، وقبلها نفوس الشرفاء من مواطنيها.. وإلى أن يحدث ذلك فحقيق بلجنة التمكين ان تنعق مع (البوم الذي يعجبه الخراب).. وافوض امري إلى الله إن الله بصير بالعباد.
المصدر: صحيفة السوداني