لا أحد يتعلم من التاريخ …. انقلاب السودان

في صبيحة يوم 25 مايو 1969، بثت إذاعة أم درمان بيانًا للعقيد أركان حرب جعفر محمد نميري معلنًا استيلاء القوات المسلحة السودانية على السلطة في البلاد، ثم أُجرِيَ استفتاء عام في البلاد على منصب الرئاسة، صار بمقتضاه النميري رئيسًا لجمهورية السودان.

حاول نميري في بداية عهده أن يعيد ترتيب البيت السوداني من الداخل على طريقته، لكن – وكعادة أي نظام عسكري- الفشل كان من نصيبه في النهاية، فقد أتقن نميري ضرب الحركات والأحزاب السياسية ببعضها وتغيير تحالفاته حتى يصبح هو المسيطر الوحيد على المشهد، فازدهرت في عهده الحركات الإسلامية، بدءًا من الإخوان المسلمين وجماعة أنصار السنة، مرورًا بالطرق الصوفية المختلفة، وختامًا بالأحزاب التي دخلت الحلبة عن طريق طوائفها الدينية كالختمية والأنصار، وعلى الجانب الاقتصادي تبنت حكومة نميري سياسة تأميم البنوك والشركات التجارية الكبيرة في البلاد وتحويلها إلى القطاع العام، وكنتيجة مباشرة، فقد الجنيه السوداني 80% من قيمته ما بين عامي 1980 و1985 بتأثير عودة الحرب الأهلية والسياسة الاقتصادية الهوجاء.

وقابل ذلك تدهور خطير في الإنتاج الزراعي والصناعي وتدني فظيع في عائدات الصادرات وعجز كبير في ميزان المدفوعات، جعل البلاد تعيش في حالة أزمة اقتصادية حقيقية أدت إلى موجة من الإضرابات العامة هددت بانهيار النظام النميري، وفي عام 1976 خططت المعارضة السودانية في الخارج، والتي تضم الحزب الشيوعي، وحزب الأمة، والحزب الاتحادي الديمقراطي، والإخوان المسلمين، بالتعاون مع السلطات الليبية لانقلاب عسكري ضد نميري، عن طريق غزو الخرطوم بقوات سودانية، تدربت في ليبيا بقيادة العقيد محمد نور سعد، الذي كاد بالفعل يستولي على السلطة ولكن قوات نميرى أجهضت الانقلاب، وقتلت المشاركين فيه مع قائدهم، وأطلق على المحاولة “هجوم المرتزقة” في أدب نظام النميري، و”غزوة يوليو المباركة” في أدب الانقلابيين.

في الأسبوع الأخير من مارس 1985، سافر نميري في رحلة علاج إلى واشنطن، بالتزامن مع إقرار الحكومة تسعيرة جديدة مرتفعة لبعض السلع ومن ضمنها السكر، فبدأ على أثرها بضع المظاهرات البسيطة العفوية، إلا أن مظاهرات “السكر المر” كما أطلق عليها، سرعان ما تطورت إلى إضرابات واحتجاجات متواصلة رغم تراجع الحكومة عن التسعيرة الجديدة، وخرج الناس إلى الشارع في ثورة شعبية، بمشاركة النقابات والاتحادات والأحزاب، وبصورة أعيت حيل أعتى نظام أمني بناه نميري في سنوات حكمه، وبدا أن مسببات الغضب على نظامه قد وصلت إلى درجاتها القصوى، واضطرت القيادة العامة للجيش إلى التدخل، لتفادي تردي الأوضاع الأمنية وتفشي الفوضى، أمام عجز الحكومة التي كان يرأسها نائب الرئيس عمر محمد الطيب.

وفي صباح يوم السبت 6 أبريل 1985، وبينما كان نميري في الجو عائدًا إلى الخرطوم ليحبط الانتفاضة الشعبية، أذاع الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب وزير دفاع النظام آنذاك، والقائد العام لقوات الشعب المسلحة، بيانًا أعلن فيه انحياز القوات المسلحة للشعب وإنهاء حكم الرئيس نميري، وجاء في تبرير تلك الخطوة بأن “قوات الشعب المسلحة، وبعد أن ظلت تراقب الموقف الأمني المتردي في أنحاء الوطن، وما وصل إليه من أزمة سياسية بالغة التعقيد، قررت بالإجماع أن تقف إلى جانب الشعب واختياره، وأن تستجيب إلى رغبته بالاستيلاء على السلطة ونقلها إليه عبر فترة انتقالية محددة”، أما نميري فقد نصحه معاونوه بتغيير وجهته إلى القاهرة وقبول حقيقة خلعه من قبل الشعب، ولقبت الثورة بـ “انتفاضة أبريل 1985”.

بعد الانتفاضة، استلم المشير “سوار الذهب” السلطة، بصفته أعلى قادة الجيش وبتنسيق مع قادة الثورة من أحزاب ونقابات، وتقلد رئاسة المجلس الانتقالي إلى حين قيام حكومة منتخبة في البلاد بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي حددت بعام واحد، وصدرت بعد ذلك عدة قرارات نصت على تعطيل العمل بالدستور وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وإعفاء رئيس الجمهورية ونوابه ومساعديه ومستشاريه ووزرائه وحل حزب الاتحاد الاشتراكي الحاكم، وفي 9 أبريل 1985م، أعلن عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي لممارسة أعمال السلطتين السلطة التشريعية والتنفيذية برئاسة الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب والفريق أول تاج الدين عبد الله فضل نائبًا له، وعضوية 13 من كبار ضباط الجيش من بينهم إثنان من أبناء جنوب السودان، كما تم تشكيل حكومة مدنية برئاسة الدكتور الجزولي دفع الله.

أنجز الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وعده بعد انقضاء الفترة الانتقالية في سابقة فريدة من نوعها، ولأول مرة يتخلى قائد عسكري عن السلطة طواعية وبعد وعد قطعه على مواطنيه دون أي مقابل سياسي أو مادي خاص، وجرت الانتخابات في موعدها وفاز فيها حزب الأمة الجديد بزعامة الصادق المهدي، متقدمًا على غيره من الأحزاب وتولى رئاسة مجلس الوزراء، بينما جاء الحزب الاتحادي الديمقراطي في المرتبة الثانية الذي كان يتزعمه أحمد الميرغني، وتولى رئاسة مجلس رأس الدولة (مجلس السيادة سابقـًا)، فيما خرج منها حزب الجبهة الإسلامية القومية وزعيمه حسن الترابي ليتصدر صفوف المعارضة في البرلمان، وسلم سوار الذهب صولجان السلطة إلى الحكومة المدنية الجديدة.

كان الترابي أستاذًا في جامعة الخرطوم ثم عين عميدًا لكلية الحقوق بها، وشارك في تأسيس “جبهة الميثاق الإسلامية” وهي تمثل أول حزب أسسته الحركة الإسلامية السودانية والتي تحمل فكر الإخوان المسلمين، وبعد انتقال السلطة إلى الصادق المهدي بعام واحد، أسس الترابي “الجبهة الإسلامية القومية” كامتداد لجبهة الميثاق الإسلامية ولفكر الإخوان المسلمين.

اتسمت فترة الديمقراطية الثالثة وحكم الصادق المهدي بعدم الاستقرار، إذ تم تشكيل خمس حكومات ائتلافية في ظرف أربع سنوات، وكانت الهزائم المتلاحقة التي منيت بها القوات الحكومية في جنوب السودان سببًا في تذمر القيادة العامة للجيش، التي قدمت مذكرة لرئيس الحكومة الصادق المهدي، مطالبة إياه بالعمل على تزويد الجيش بالعتاد العسكري الضروري، أو وضع حد للحرب الدائرة في الجنوب، وأحدثت المذكرة بلبلة سياسية في البلاد لأنها تتضمن تهديدًا مبطنًا للحكومة وتوبيخًا رسميًا لتقصيرها في إحدى مهامها الأساسية وهي الدفاع عن البلاد، بإهمالها التزاماتها تجاه الجيش، كما كانت تلك المذكرة مؤشرًا خطيرًا لتدخل الجيش في السياسة بشكل مباشر.

بل كان من الغريب أن يقحم جيش – في نظام ديمقراطي- نفسه في السياسة مبتعدًا عن المهنية، ويخطر رئيس الحكومة علنًا وبشكل مباشر، بما يجب أن يعمله لحل المشاكل الوطنية، ثم تدهورت العلاقة أكثر بين الجيش وحكومة الصادق المهدي بعد توجيه الفريق فتحي أحمد علي القائد العام إنذارًا إلى الحكومة، مطالبًا إياها بالاعتدال في مواقفها السياسية ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين، ورفض الصادق المهدي هذا التهديد وأصدر حزب الأمة بيانًا أدان فيه مسلك القائد العام وتدخل الجيش في السياسة.

في 30 يونيو 1989، قاد العقيد عمر حسن أحمد البشير انقلابًا عسكريًا ضد حكومة رئيس الوزراء الصادق المهدي المنتخبة ديمقراطيًا، بإيعاز من الجبهة القومية الإسلامية ورئيسها حسن الترابي، وتولى مناصب رئيس الدولة ورئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وزير الدفاع في الوقت نفسه، إضافة إلى رئاسته لمجلس قيادة “ثورة الخلاص الوطني.

في أواخر عام 1999، حل البشير البرلمان بعد خلاف مع زعيم الحركة الإسلامية والزعيم الروحي للانقلاب حسن الترابي، وبعدها أصبح الترابي من أبرز معارضي الحكومة وأمينًا عامًا لحزب المؤتمر الشعبي المعارض في السودان وتعرض للاعتقال عدة مرات حتى انفرجت العلاقات مع النظام مع إعلان الحكومة للحوار الوطني.

المصدر : ساسة بوست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.