المدهش بحق أن تتراجع إثيوبيا عن اتفاقية 1902م والتي رسمت الحدود السودانية الإثيوبية بما يمنح منطقة الفشقة للسودان وينزع منطقة بني شنقول من السودان ليمنحها لإثيوبيا!
إثيوبيا تذرعت بحجج واهية أن اتفاقيتي مايو 1902م وأكتوبر 1903م مع السودان أبرمتا مع سلطة استعمارية هي بريطانيا باعتبار أن راسم الحدود (ميجر كوين) بريطاني الجنسية بالرغم من أن إثيوبيا كانت وقتها تحت حكم وطني متمثل في إمبراطورها منليك الثاني الذي وافق على خطوط مستر كوين ، ولعل تنصل إثيوبيا من اعترافها القديم يمنح السودان الحق في أن يسلك ذات المنطق الإثيوبي ويطالب بمنطقة بني شنقول الغنية بالذهب والتي كانت ولا تزال سودانية ويقطنها سودانيون ،ثم أن ذلك الاتفاق لم يقتصر على الأرض إنما امتد إلى المياه وكف يد إثيوبيا عن إقامة أية منشآت تحد من تدفق مياه النيل الأزرق ، وذلك ما يمنح السودان ومصر يداً طولى في مفاوضات سد النهضة الأمر الذي يضعف من حقوق إثيوبيا ويفتح باب التفاوض على مصراعيه بما يعيد منطقة بني شنقول بل ويغل يد إثيوبيا كثيراً في ملف سد النهضة ، ولعل توثيق المؤرخ الجهبذ د. فيصل عبدالرحمن علي طه حول نزاع الحدود بين السودان وإثيوبيا قديماً وحديثاً خير معين في تناول القضية بشكل أوسع يضعف الموقف الإثيوبي ويقوي حجة السودان.
ليس من مصلحة إثيوبيا التعنت وفتح جبهة حرب غير مبررة مع السودان سيما وأن جبهتها الغربية تعاني من الهشاشة والصراعات الإثنية والقبلية ويكفي حرب التقراي وجبهة تحرير بني شنقول والتوترات المستمرة في مناطق قبيلة الأرومو بل والصراع الحدودي القديم مع إريتريا ثم مع كينيا والصومال ، فضلاً عن حاجتها لعدم استعداء السودان والذي يصب في مصلحة مصر حول خلافها مع إثيوبيا في سد النهضة.
لم تعجبني اللغة المهادنة التي استخدمها حمدوك الذي لا أراه يصلح البتة للتفاوض حول الملف الحدودي جراء شخصيته الهشة وبروده الثلجي وانتمائه الضعيف للسودان والناشئ عن تعدد الولاء، ولن أتردد في أن أقول إن الرجل الذي يحمل الجنسية البريطانية ، ربما لا يهتم كثيراً بالأمر خاصة وأن الخلاف مع إثيوبيا يضعف من العسكر الذين يخوض معهم ، بالوكالة عن حلفائه في الداخل والخارج ، حرباً مكتومة ، في حين تجد البرهان بعسكريته الصارمة في أعلى درجات اليقظة والتفاعل مع المعارك التي تدور رحاها حالياً في الحدود السودانية الإثيوبية!
لا أحتاج إلى التذكير بمواقفه التي خضع فيها للسفير البريطاني عرفان صديق وهو يستدعي البعثة الأممية للسودان ثم يذعن فيها لإرادة ومؤامرة الأمريكي بريسلي وهو يسوقه للتوقيع مع الحلو على علمانية الدولة!
أكثر ما يزعج في الموقف الحكومي السوداني ذلك الخلاف الكبير بل والصراع المحتدم بين مكوني السلطة الحاكمة في السودان (العسكري والمدني) ممثلاً بالبرهان وحمدوك المتماهي مع مواقف اليسار الأمريكي وحاضنته السياسية والاجتماعية في السودان.
ذلك التباين بين الموقفين يمكن أن يقرأ من خلال الاطلاع على عدد الخميس الماضي في صحافة اليسار الأمريكي أو سمه الليبرالي في السودان ممثلاً بصحيفة (الديمقراطي) التي لم تورد كلمة واحدة عن الحرب المشتعلة في منطقة الفشقة ، وكأن تلك المنطقة الضخمة والمهمة للغاية تتبع للقطب الشمالي وليس للسودان ، في حين احتلت أخبار المعارك مانشيتات كل من الانتباهة والصيحة والسوداني!
من بالله عليكم ينبغي لنا أن نلوم على عدم توحد الجبهة الداخلية في مواجهة العدوان الخارجي وهي المعركة التي ينبغي أن يعلو صوتها على كل قضية أخرى سيما وأن جنودنا يفقدون الأرواح العزيزة وينزفون الدماء الغالية في وقت يتلهى بعضنا بمحقرات الأمور وسفسافها.
إننا للأسف نعاني من حالة لا مبالاة وسيولة مريعة في مواجهة خطر كبير ينبغي أن نحشد كل طاقاتنا وقدراتنا العسكرية والمادية والسياسية والشعبية في سبيل مواجهته ، ومن المحزن بحق أن يتبنى حمدوك ومناصروه من قوى اليسار وبني علمان الدعوة لتجريد القوات المسلحة من منظومتها الدفاعية بل ويساندون (قانون التحول الديمقراطي والشفافية لسنة 2020 والذي أجازه الكونغرس الأمريكي بالتزامن مع قرار رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب وذلك لإخضاع المنظومة الدفاعية والتصنيع الحربي لموازنة وزارة المالية الأمر الذي يعيدنا إلى تلك الأيام النحسات حين كان جنود السودان يخوضون المعارك في مواجهة التمرد في أحراش الجنوب وهم حفاة من (البوت) ويفتقرون إلى الذخيرة ويبيتون على الطوى في حين كان قرنق يكتسح المدن والقرى في الجنوب والشمال ويحتل الكرمك وقيسان ويهدد كسلا وخزان الروصيرص بعون من دول أخرى قريبة وبعيدة.
ما من قضية ينبغي أن تشغل الساحة السياسية اليوم أكثر أهمية من مساندة القوات المسلحة بمختلف أنواع الدعم العسكري والمادي والمعنوي.
ذلك ما ينبغي أن يجعل من قضية احتفاظ الجيش بصناعاته الحربية ومنظومته الدفاعية بعيداً عن الارتهان لموازنة وزارة المالية (الجائعة) خطاً أحمر ممنوع الاقتراب منه ، ذلك أن استقلال الجيش من حيث امتلاك القدرات العسكرية أسوةً بالدول الأخرى مثل مصر التي لا تعاني من معشار المهددات الأمنية التي تحيط بالسودان أمر لا مفر منه ولا مجاملة فيه ، ولا أشك لحظة في أن ذلك القانون الأمريكي الشرير جزء من مخطط خطير يستهدف وحدة السودان سيما وأن عراب ذلك المخطط هو ذات الرجل الذي لعب دوراً قذراً في ما حدث للعراق من مكر تزول منه الجبال!
ذلك ما يحتم على مجلس شركاء الفترة الانتقالية أن يعجل باتخاذ قرار يٌخضع له الدولة باعتباره من الثوابت الوطنية التي لا تنازل عنها مهما كانت كثافة الضغوط والتحديات.
سعدت بالزيارة التي قام بها د.جبريل إبراهيم للمقاتلين في الفشقة وبإعلانه جاهزية قواته للقتال إلى جانب القوات المسلحة وليت جميع الحركات المسلحة تحذو حذوه.
إننا نحتاج إلى استنفار الشعب ليقف سنداً لقواته المسلحة ، وأهم من ذلك ليت البرهان يستنفر القوات الأخرى مثل الدعم السريع والدفاع الشعبي ويعيد إلى الخدمة المفصولين من ضباط القوات المسلحة بل وضباط هيئة العمليات فكل تلك القوات المدربة نحتاج إليها في مواجهة العدوان الإثيوبي وفي مجابهة التحديات الأخرى التي تنتظر ساعة الصفر لإنفاذها.
المصدر: الانتباهة أون لاين