التوقيت آخر أيّام عام الحُزن والفواجع:
ما أصعب الكتابة عن فقدك الجلل، خليل الروح وصديق الصبا ورفيق السنوات والأيام، بحلوها ومُرِّها وخيرها وشرها.
وجدناك منذ اكتمال الوعي وأنت على ذات الهيئة والهيبة والخُلُق النبيل.
بياض الجلباب والعمامة والشال والابتسامة الناصعة المُضيئة والهِمّة العالية في خدمة القريب والبعيد.
كنت الحاضر الدائم في أحزاننا وأفراحنا حين يتخاذل الأصدقاء ويجف العشم.
لم أجد شخصاً كان موضع إجماع الناس، كما كنت مُوفّقاً ومصالحاً وجابراً للخواطر.
كل منا يظن أنّه الأقرب إليك مَودّةً وصحبةً، باهتمامك وفيض وودّك الدّفّاق، كنت أذن خير لكل شاكٍ ومهمومٍ.
كنت عين الحق، حينما تلتبس الرؤى وتعتم المسارات وتضيق الخيارات.
كنت قدم الخير في قضاء حوائج الناس، تُقاوم أوجاعك بالذكر والدعاء واللطف الشفيف.
لا تخرج منك آهة ألم ولا يقطب لك جبينٌ.
هي الابتسامة ترياق الهموم والأحزان ومرسال المحبة والود العميم.
لا أذكر طوال معرفتي المديدة بك أن رأيتك وأنت بلا تلك الابتسامة المُشرقة.
لا أذكر طوال عُشرتنا العامرة أن وجدتك خارج طقسك الصوفي الشفيف غاضباً أو حانقاً أو مُبتئساً.
جذبتنا برفقٍ ولطفٍ للمساجد وحلقات القرآن، ونحنُ في طيش الشباب وغمره.
علّمتنا التجويد وسترت عور قراءتنا المتلعثمة، وعرّفتنا بالمشائخ وأهل المديح.
تلك الليلة ١٩٩٠:
كم كانت تلك الليلة حاضرة في الذهن والوجدان، حين توقّف الزمان، من صلاة العشاء إلى أنفاس الفجر.
ونحنُ نستمعُ بدهشةٍ وإعجابٍ فيّاضٍ بمنزل أهل الكرم والذكر آل موسى أبو ضريرة للشيخ الجليل دكتور عمر مسعود، وهو يتحدّث ويشرح ويُفسِّر ويشعل زناد التأمُّل.
والمرحوم المُنشد عبد السلام محمد علي، رأيناه واستمعنا إليه لأوّل مرّة، وهو ينشد قصائد الإمام الصرصري، وشيخ عمر يشرح ويحكي.
عام 2004:
حينما أصاب الفشل كليتي شيخ يوسف تسابق مُحبُّوه للتبرُّع، كلٌّ يُريد أن يفديه بكلية.
نجحت العملية على يد النطاسي البارع دكتور كمال أبو سن بمستشفى الفيصل، جمعنا به الأستاذ المفضال أحمد البلال الطيب، نجحت بدعاء مساجدنا وحلقات الذكر.
عمّت الأفراح كل بيت في مناقل الخير والوفاء، كان شفاء شيخ يوسف مهرجاناً للفرح بمدينتنا الحبيبة.
نظّمنا وقتذاك زيارة تكريمية للدكتور كمال أبو سن.
رافقنا في تلك الزيارة عددٌ من الأصدقاء والزملاء الأفاضل: المرحوم دكتور كمال حنفي وبروفيسور عبد اللطيف البوني والدكتور خالد التجاني والأستاذ صلاح عووضة وعدد من الزملاء.
في تلك الزيارة ولدت فكرة إنشاء مركز لغسيل الكُلى بمحلية المناقل، وهو الأول بغرب الجزيرة.
فكان الوعد حقيقة على أرض الواقع بمُتابعة ومُثابرة شيخ يوسف ودعم الخيِّرين.
سبتمبر الماضي:
قبل شهرين، ذهبت إليه وهو بالعناية المكثفة بمستشفى الساحة، حيث لا مكان للابتسام.
وجدته كعهدي به، مُمسكاً بمسبحته، مُشرقاً بابتسامته يُضاحكني بلطفٍ.
يسألني عن حالي، وأنا عن حاله مُشفقٌ وحزينٌ.
هكذا هو دائماً لا يتحدّث عن ما يُعاني، ولا يُريد لأحدٍ أن يُقاسمه الهُمُوم والآلام، يبث الطمأنينة في قلوب زائريه.
زُرته مرةً أخرى وهو بالغرفة بعد خروجه من العناية، كان يحكي لي كأنه يتحدّث عن مريض آخر، قال لي: (الكلية يا ضياء أدّت ما عليها وزيادة طوال الستة عشر عاماً، لم تعد قادرةً على إعطاء المزيد.. هكذا هي الأقدار ومنطق الأشياء).
كانت تلك المرّة الأخيرة وافترقنا، ذهب إلى القاهرة للعلاج، دُون أن يسمح لأحدٍ بمرافقته.
هكذا يوسف الصديق، لا يُريد أن يتعِب أحداً، حتى وهو في أشدّ الحاجة لعون الآخرين الذين تسابقوا قبل سنواتٍ لفدايته بكلاهم.
ليلة أربعاء الحُزن:
رحل شيخ يوسف من على سرير نومه بأحد فنادق القاهرة، رحل كما عاش بكل هُدُوءٍ، وعلى وجهه تلك الابتسامة التي سيُلاقي بها ربه، بإذنه تعالى وكرمه وفيضه الجليل.
المصدر :السودان الجديد