في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الانتقالية تجتمع على أعلى مستوياتها لإجازة موازنة العام 2021، كان الجنيه السوداني يسجل انهيارا مريعا في سوق العملات الموازي (السوق السوداء)، حيث هبط الثلاثاء إلى أدنى مستوياته على الإطلاق بعد تداول الدولار الواحد بحوالي 300 جنيه، بينما سعره الرسمي حوالي 55 جنيها.
وتتزايد المخاوف من الأثر القوي لانهيار العملة المحلية على الأوضاع الاقتصادية المتردية أصلا في هذا البلد، حيث يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات على نحو متصاعد.
ويعزو خبراء اقتصاديون وتجار في سوق العملات أسباب التدني المتوالي للعملة المحلية إلى وجود جهات تعمد إلى شراء كميات ضخمة من العملات، خاصة الدولار، وهو ما يؤكده الخبير في الشؤون الاقتصادية، خالد التجاني النور، للجزيرة نت بأن الحكومة هي أكبر مشتر للعملة الأجنبية.
المتهم الأول
ترتفع أصابع الاتهام بوجه “محفظة السلع الإستراتيجية” التي شكلتها الحكومة قبل عدة أشهر، وقوامها كبار الشركات ورجال الأعمال، لتتولى مسؤولية استيراد الاحتياجات الأساسية من وقود وطحين، حيث يسود اعتقاد واسع بأن رواد المحفظة يضطرون لشراء العملات من السوق الموازي بكميات ضخمة وبأعلى الأسعار لمقابلة الاستيراد.
غير أن رئيس اللجنة التنفيذية للمحفظة، عبد اللطيف عثمان، سعى لتبديد تلك الشكوك بالقول إن المحفظة أمنت مبالغ الاستيراد بالاعتماد على مواردها الذاتية، والمتمثلة في صادرات الذهب، وخطوط التمويل المصرفي الخارجية المتاحة عبر شبكة مصارف المحفظة.
ويوضح عثمان أن محفظة السلع الإستراتيجية ساهمت خلال الفترة من 24 أكتوبر/تشرين الأول 2020، وحتى 28 فبراير/شباط 2021، في استيراد 37 باخرة، بحمولة كلية تبلغ مليون و270 ألف طن متري من المحروقات، وبخطابات اعتماد تبلغ قيمتها الإجمالية 602 مليون دولار.
ويتحدث أحد التجار الكبار في مجمع الذهب الرئيسي (وسط الخرطوم) للجزيرة نت بأن أحد أسباب تراجع العملة الوطنية، هو بيع أجانب لكميات كبيرة من الذهب بالعملة المحلية، ثم شروعهم على الفور في تحويلها إلى دولار توطئة للاستفادة منها خارج البلاد، ويؤكد أن ذلك أسهم أيضا في ارتفاع الطلب على العملات الأجنبية مقرونا بشح المعروض منها.
بدورها تعزو الصحفية المهتمة بالشؤون الاقتصادية، نازك شمام، التدهور غير المسبوق للعملة المحلية لضعف احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي؛ بسبب عجز الميزان التجاري الناتج عن ضعف الصادرات السودانية وارتفاع الواردات.
وتشير في حديثها للجزيرة نت إلى أن عجز الميزان التجاري سجل للفترة من يناير/كانون الثاني، إلى سبتمبر/أيلول من العام 2020، ما يفوق 3.9 مليارات دولار، علاوة على أسباب أخرى أسهمت في تراجع العملة السودانية؛ بينها فتح الباب أمام القطاع الخاص لاستيراد الوقود والقمح، بما يشكل ضغطا إضافيا للطلب على النقد الأجنبي في الأسواق الموازية، ويساعد على ارتفاع وتيرة المضاربات.
تغيير العملة
كمخرج من الأزمة المتفاقمة في الاقتصاد، وبسبب تدني قيمة العملة المحلية، قالت اللجنة الاقتصادية بتحالف الحرية والتغيير -الائتلاف الحاكم- إن تغيير العملة قد يكون حلا ناجعا للوضع الحالي، خاصة مع تزايد عمليات التزوير، حيث يقول عضو اللجنة عادل عبد الغني إن مقترح تبديل العملة تسيّد المناقشات التي جرت قبل إقرار الموازنة؛ لكن فيما يبدو بدون التوصل إلى قرار حاسم حولها.
غير أن وزيرة المالية المكلفة، هبة محمد علي، حسمت الجدل باستبعاد حدوث هذه الخطوة لا سيما -كما تقول- إنها تكلف ما لا يقل عن 600 مليون دولار، وأضافت في مؤتمر صحفي، الأربعاء، أن كل المشكلات التي سيعالجها تغيير العملة يمكن معالجتها بطرق أخرى أقل كلفة وأكثر استدامة، بينها تقوية الأجهزة الأمنية والعسكرية لمحاربة التزييف، الذي وصفته بالمشكلة الكبيرة، إلى جانب إقرار سياسات اقتصادية إصلاحية لجذب أموال المغتربين، وفي مقدمتها تعديل سعر الصرف؛ ليكون جاذبا للمغتربين الذين أكدت أنهم لا يدخلون دولارا واحدا حاليا.
ويعضد التجاني فرضية عدم جدوى تغيير العملة، مع تأكيده أن الحال الاقتصادي المتأزم غير مرتبط بتبديلها أو تركها، لا سيما أن المضي في هذه الاتجاه سيكلف الدولة الكثير بوقت لا تملك فيه أي احتياطي نقدي.
ويلفت الخبير الاقتصادي إلى تحرير سعر الصرف أو تعويم العملة كأحد شروط صندوق النقد الدولي لمساعدة الحكومة، التي قال إنها لا تستطيع تطبيق التعويم ما لم يكن لديها احتياطات كافية.
ويعتقد التجاني أن المأزق الحقيقي الحالي للحكومة هو عدم رغبة أي دولة في منح السودان مبالغ مالية، وهو الأساس الخاطئ الذي بنت عليه الحكومة الانتقالية معالجة الأوضاع الاقتصادية بالحصول على دعم خارجي بدون أن يتحقق شيء من تلك الأماني رغم مؤتمرات شركاء السودان، والتعهدات التي طرحها المانحون بدون أي نتيجة على الأرض.
وتذهب شمام في الاتجاه ذاته مؤكدة أن الجهود، التي بذلتها الخرطوم، لم تلفح في استقطاب دعم خارجي وتحقيق استقرار مستدام للجنيه السوداني، فالدعم الذي تلقته الخرطوم من مؤتمر شركاء السودان ما يزال طي الإجراءات المعقدة، بالإضافة إلى أن أغلب هذا الدعم مخصص لمشروع دعم الأسر السودانية.
وتضيف “أما ما أعلن عنه وزير الخزانة الأميركي ورئيسة بنك الاستيراد والتصدير الأميركي اللذان زارا السودان بداية الشهر، فمخصص لإعفاء الديون ولشركات القطاع الخاص الأميركية، التي ترغب في الاستثمار بالسودان ما يقلل من إسهامها في معالجة أزمة سعر الصرف، الذي يحتاج إلى مبالغ مقدرة لاستيراد السلع الإستراتيجية.
تراجع الجنيه
يرجح المحلل الاقتصادي، هيثم فتحي، مواصلة الجنيه التراجع أمام العملات الأجنبية في ظل عدم وجود احتياطي للعملات الأجنبية، ويشير إلى أن الاقتصاد السوداني حاليا في مرحلة اتحاد العوامل (التضخم، وضعف الإنتاج والصادرات، وانفلات الكتلة النقدية، والعامل النفسي، وحالة عدم الثقة وسط قطاع الأعمال والمستهلكين والمستثمرين)، ويرى أنه لا مخرج منها سوى الاعتماد على صادر الذهب، كحل سريع يستدعي تنظيمه والاستفادة من عوائده.
ويلفت فتحي في حديثه للجزيرة نت إلى التراجع المتواصل في أداء القطاعات الإنتاجية الرئيسة -الزراعة والصناعة-؛ مما أدى إلى ظهور اختناقات هائلة في الإنتاج زادت من الاعتماد على الاستيراد، خاصة الاستيراد الغذائي، وقلصت من حجم الصادرات، وبالتالي زاد الطلب على النقد الأجنبي، علما أن عائد صادرات الذهب لا يتعدى 1.2 مليار دولار في العام؛ أي ما يعادل حوالي 18% فقط من فاقد صادرات النفط قبل انفصال جنوب السودان في 2011.
ولا يرى المحلل أن الموازنة الجديدة ستكون قادرة على خفض التضخم إلى 95%، بالنظر إلى أن العام السابق تم استهداف معدل تضخم 30%؛ لكنه سجل 250%، مما يرفع التوقعات بتسجيل مزيد من التصاعد لوجود واستمرار ذات الأسباب، التي تساهم في رفع نسبة التضخم؛ مما يعني وفق قوله مزيدا من التدهور للجنيه السوداني.
المصدر : الجزيرة