فيلم (ستموت في العشرين) قريباً من المعصية… قريباً من الانسان

يطرح الفيلم (ستموت في العشرين) سؤال: هل يمكن ان ينهي الانسان حياته دون الوقوع في معصية او شر؟ هل يمكن ان يقابل ربه ابيض الصحيفة؟ و إن تمكن، ألا يكون ذلك هدْر لفرصٍ منحها الله له بحكم خلقه القابل للمعصية؟ و إن حدث هل للحيوية و المتعة سبيل لحياة الانسان و الارض و اثراءها بلا خوض تجارب؟ و ما الحياة دون تجارب تحتمل الصواب و الخطأ؟ و ما الانسان دون معاصي تثبت طبيعة خلقه المغايرة للملاك و الشيطان و غيرهما من المخلوقات؟
الفيلم مأخوذ من قصة الكاتب حمور زيادة (الموت عند قدمي الجبل) مع بعض التغيير في الاحداث و الشخصيات و شئ من التغيير في الفكرة و التناول و التكثيف، بما يوائم رؤية المخرج و كاتب السيناريو امجد ابو العلا و بما يتناسب و ادوات السينما التي بالتأكيد ستختلف عن ادوات الكتابة.

انجبت سكينة و زوجها النور، مزمل بعد سنوات من الانتظار، يذهبا به لأحد الشيوخ لمباركته، و الصدفة تجعل احد الدراويش يحسب صلاته على الرسول و الشيخ يهم بالدعاء للمولود بالعمر ليهتف الدرويش: عشرين. و لا يستجيب الشيخ لتوسلات الام و الاب ألّا يؤمن على هذا الرقم. فيعيش مزمل و والديه تحت وطأة قرار الشيخ و درويشه بتحديد عمره بعشرين سنة.
لمناقشة هذه الاسئلة ناقش الفيلم ايضاً كيف يمكن ان تسيطر فكرة على انسان او مجتمع فتحيل حياته و حياتهم الى خدمتها بسجنه في دائرتها فلا يرى العالم إلّا و قد ضاق عن أي امر إلّاها.
في القصة المكتوبة نرى القرية بنشاطاتها العادية و حركة الناس و حوارهم، في الفيلم تقل الحركة و الحوار بما يكثف فكرة الموت المسيطرة على الجميع.

هو فيلمٌ يمتع بصر المشاهد، يهتم و يعتني بهذه الحاسة حد الترف، باهتمامه الدقيق بتفاصيل الصورة.
مزمل، بطل الفيلم لا يعرف غير قريته، و لا علم له بعالم خارجها، لم يذهب للمدرسة و لم يلعب في الشارع كأقرانه و لم يعرف حتى بلغ العشرين غير سيرة موته و انتظاره. قرب بلوغه العشرين سيتعرف على العالَم من خلال سليمان، رجل يعود للقرية بعد طول غياب، يتعرف مزمل على ملذات الحياة و متعها من خلال اسلوب حياته و من خلال الافلام التي يشاهدها عنده. تجولنا في هذه القرية طوال عشرين عاما، لم نجد فيها إلّا الصمت و انتظار الموت.
عرض الفيلم تعامل الابطال مع سيطرة الفكرة، اختلف تعاملهم حسب مواقعهم و طرق تفكيرهم، لكن و ان اختلفوا إلّا أنهم ظلوا في دائرة سيطرتها. ام مزمل سيطرت عليها حد معايشتها مع كل نفس. الأب هرب كما يهرب من يخاف المواجهة، شيخ المسجد و صاحب الدكان القريب من المنزل، كانا من النوع العملي لا للخروج من سيطرتها و لكن لاتباع طريقة عملية للتعامل معها، و ذلك بحثِّ الام على ارسال مزمل، الذي لم يذهب للمدرسة، الى المسجد لتعلم القرآن و مساعدة صاحب الدكان في العمل. و سيدة عجوز ستواسيها دائما ان ابنها سيموت في العشرين. أما مزمل نفسه فقد استسلم للفكرة و ظل منتظراً وقوعها. الفكرة سيرفضها ثلاثة، سليمان القادم الى القرية بعالم جديد، حبيبة مزمل و امها. حبيبته ستحاول ان تخرجه من ظلام الفكرة الى نور الحب. كانت هناك محاولات لتغيير الفكرة من قبل الام و الاب، او محاولات لإطالة عمر مزمل، لكنها كلها تمت تحت الايمان بها و سيطرتها على عقولهم فكانت النتيجة عدم تغيرها، لأنهم لجأوا لذات الادوات صاحبة السيطرة، العادات و الاعراف و المعتقدات المحدودة في المكان و العقل الباطن و هم في الفيلم الشيوخ الدينيين و سيدات الزار.

الاضاءة كانت أهم ادوات التعبير في هذا الفيلم، الاضاءة و اختلاف مصدرها من شمس او فانوس، درجة اضاءة المكان، تحرك الشخصيات و مسافاتهم من سقوط الضوء.

في بيت مزمل هناك غرفة مظلمة، الدخول اليها يكون عبر ممر مظلمٍ ايضاً، تدخلها الأم من وقت لآخر، لتسجل على حائطها حسابها البدائي لسنوات عمر مزمل. تشبه حوائط سجون الحبس الانفرادي و طريقة حساب المساجين لايامهم فيها، فالفكرة ايضا تسجن اصحابها.
المشاهد المصورة في هذه الغرفة المظلمة تظهر براعة المخرج في توظيف الاضاءة للتعبير عن الفكرة في اكثر مشاهد الفيلم تميزاً. سطوة الفكرة الظلامية، الاستسلام و اليأس و الاحباط و عدم تمكن الانسان من الافلات منها لاختياره الجانب المظلم و عدم الاستفادة من شعاع النور و الامل الذي يغشى العقل. الغرفة تمثل عقل الانسان مظلماً بالفكرة السوداوية، في أعلاها كوة صغيرة تدخل حزمة من الضوء بطول الغرفة من اعلاها حتى الارض تقسم الغرفة الى جزئين مظلمين. الام دائما ما تجلس في الركن الاكثر ظلاماً، مزمل يتحرك من الجزء المظلم للآخر دون الوقوف عند الشريط المضئ. وقف تحته مباشرة حتى غمره الضوء مرة واحدة، عندما زارته نعيمة حبيبته، و كانت تحثه ان يخطبها، كانا تحت ذلك الشعاع من الامل و الحب و الحلم و كل ما يمثله الضوء للانسان. و في مرة اخرى، كان مع امه، و هي تجلس في الركن المظلم، عبَر تحت الضوء، وقف قليلا تحته ليسقط الضوء على الجزء الاسفل من جسمه لثوانٍ، بعدها يقف في الجزء المظلم الآخر ليجد على الحائط انه اتم العشرين. توظيف الكاميرا و توزيع الضوء في هذه الغرفة أغني الفيلم اعتماد الحوار لنقل الفكرة.
مشاهد القرية كانت تكرس لحياة مزمل بوجه واحد، عدم الدخول في تجارب انتظاراً للموت دون اخطاء و ذنوب، و المشاهد في بيت سليمان كانت تكرس للحق في التجريب و الوقوع في الخطأ و الذنوب، و على الاختبار الحقيقي للحياة. سليمان كان النقيض لمزمل، هرب من ابيه المتزمت من القرية في شبابه الباكر و عاش متجولا في المدن من الخرطوم الى القاهرة و الى اوروبا مستمتعاً بحب تصوير الشوارع و الناس، و غارقا في الملذات دون مراجعة لنفسه. هنا ايضاً استخدم المخرج الاضاءة لبيان دخول الاثارة و معرفة المتع و الملذات لمزمل الابيض السيرة حتى ذلك الوقت. شمس الحياة التي انسكبت على الشاشة في مشهد مزمل و هو ذاهب للمرة الاولى لبيت سليمان، و العالم الذي استحال مشرقاً، و الحياة التي رفرفت ستائرها و مزمل يسمع الغناء و يرى رحابة بيت سليمان. الاضاءة كانت ايضاً اللغة الاوضح حين قرر مزمل خوض التجربة في الكمبو، الشمس غسلت المكان كما في التعبير الاصلي للقصة، ضوء الشمس تحدث نيابة عن مزمل عن البهجة التي غمرته بعد تجربة الحياة، و اكتشافه انه لا زال حياً و قد تجاوز يومها العشرين، و ظلت مشرقةً ترعى قراره بخوض الحياة و ترْك القرية و سيرة الموت وراءه، و هي نهاية تختلف عن نهاية القصة حين خضع مزمل لقدر الشيخ و حفر قبره بيده. اختلاف النهاية بين القصة و الفيلم، لا يلغي اتفاقهما في طرح اسئلة حق الانسان في التجربة، و مدى سيطرة الافكار على الناس و اختلاف تعاملهم مع هذه السيطرة.
الابداع الحقيقي للمخرج انه حمّل الفيلم اسئلة و قضايا انسانية تعتمل في عقل و قلب الانسان اياً كان جنسه او لونه منذ ظهوره على الارض الى ان يرثها الله، و ذلك من خلال مجتمع موغل في المحلية. طرح اسئلة و ناقش فكرة تهم الانسانية كلها من تفاصيل حياة في قرية صغيرة في وسط السودان. اهتم المخرج بتفاصيل القرية السودانية مضفياً جمالاً ساحراً و خاصاً للصورة، لاعباً على عدم تحديد زمن للاحداث، على خلاف القصة، ليتمكن من نقل صورة تذخر بجمال و غنى و ثراء مشاهد حياة القرية في بلاده، ليمتع كلا المشاهدَين السوداني و غير السوداني.
الفيلم بجماله و قوته و دقته يحفز على البحث عن الكمال و طرح الاسئلة و الملاحظات.
اختيار زمن احداث الفيلم شكَل تحدياً للمخرج،فقد اراد ان يظهر قرية تحافظ على تراث القرية السودانية لاثراء الصورة، فاعتمد شكلا للحياة في القرية يحاكي ما قبل السبعينات، فأعطى بذلك وحدة للصورة و الاحداث و الشخصيات إلّا أن اختيار زي نعيمة المدرسي الذي فرض زياً بالمدارس في التسعينات، و ظهور توكتوك في احد المشاهد كوسيلة مواصلات و هي التي ظهرت بالسودان تقريباً بعد ٢٠١٠، مما يتنافى و ظهور اللواري من بداية الفيلم كوسيلة مواصلات، و الصورة في غرفة نعيمة لمسلسل تركي عرض في القنوات الفضائية ايضا بعد ٢٠١٥، كلها مشاهد تكسر وحدة الصورة و الاحداث، و اذا اعتمدنا فرضية توقف الزمن في هذه القرية عندما هتف المجذوب: عشرين مقرراً عمر مزمل، فبحساب بسيط يكون مزمل قد وُلِد في منتصف التسعينات و امه في نحو الستينات مما يهدم كثيراً من تفاصيل الصورة المعتمدة لقرية في وسط السودان، اهمها طريقة حساب سكينة البدائية لعمر ابنها، فما من امرأة وُلدت في الستينات في وسط السودان إلّا و تكون قد نالت قسطاً من التعليم يغنيها عن تلك الطريقة في الحساب.
كيف يسكن سليمان بيت الانجليز؟ فبالتأكيد هذا النوع من البيوت آلَ للحكومة لا للافراد بعد الاستقلال.

اعتماد اسلوب حياة الخواجة لسليمان ليرمز للحرية في الحياة، يتناقض مع اختياره للبجاما الحرير و الغليون المتماشيان مع حياة خواجة آخر اكثر التزاماً بقيم و اسلوب حياة الطبقة الوسطى العليا، و التي لا يمثلها سليمان الذي حكى كيف عاش حراً متجولا في شوارع الخرطوم و اوروبا.

مشهد طلب ابن الشيخ من مزمل ان يكشف عن جسمه و اظهار ميول الشيخ للصبي، يطرح قضية علا صوتها في عصر لاحق لصورة الزمن التي اعتمدها الفيلم، مما يجعلها مقحمة و تشتت التركيز على عمق القضية المحورية، مدة الفيلم و موضوعه و ادواته لا تتحمل طرح قضايا متعددة.
اللغة في بعض الحوار لم تكن متوافقة مع طبيعة الشخصيات و القرية قال مزمل متحدثاً عن عمله: انا بوصل الطلبات، و هذه جملة تقال بعد الالفية الثانية و ظهور الدلفري و طلب المشتروات بالتلفون. و نعيمة قالت: هناك في ست بتغني، و ست مفردة لا مكان لها في قرية في وسط السودان. و جملة النور: بهدلة و قلة قيمة، جافت الاحساس بلهجة القرية.
سليمان حضر لمزمل في الجامع، في احد أهم مشاهد الفيلم، حمل ورقة بيضاء و رشها بالحبر، و هو المشهد الذي يعكس السؤال المحوري للفيلم، تظل الورقة بيضاء و بها بعض السواد في اشارة ان بعض المتع، لن تنفي كونه انسان طيب، كان لهذه الجملة ان تأتي من شخصية اخرى، بها شئ من الاتزان و الحكمة، لما تحمله من اجابة للسؤال المحوري للفيلم، و هو ما لا يتناسب و دور سليمان، النقيض لمزمل.
اغنية (يا شعباً لهبك ثوريتك) و الاغاني المختارة عند حضور مزمل لبيت سليمان، تشبه الى حد كبير الارتجال على خشبة المسرح لاحداث تفاعل اكبر مع الجمهور، لا زمن الاحداث و لا شخصية سليمان تشبه تلك الاغاني.
ملابس شخصيات القرية و بالذات الاطفال كانت بيضاء ناصعة بما ينافي واقع الحال.
هذه الملاحظات لا تقدح في جمال و قوة الفيلم، بقدر ما تتماشى مع الدقة و المعايير العالية التي وضعها الفيلم لرفع ذوق المشاهد، و رفع المتعة السينمائية لفيلم جاء بعد زمن طويل من الانتاج السينمائي السوداني الخجول. و المؤسف ان فيلما بهذا الابداع ظل حديث المهرجانات طوال عام، لم يجد طريقه للمشاهد السوداني، ليضاف لتعقيدات و مفارقات المشهد بعد ثورة نادت بالحرية كحال ملازم للابداع.

اماني ابوسليم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.