مناع و آخرون .. افتعال المعارك الصغيرة

عندما كان الجنيه السوداني يتهاوى بسرعة أخافت المواطن و أفزعته , ارتفع صلاح مناع على أكتاف الثوار وهم يحتفلون بانتصار جديد للثورة .. فما سر مليونية (حامد الجامد) و الحرص على إبقاء (وداد) في السجن و مداهمة إفطار جمال عنقرة للكباشي, باعتبار هذه المعارك الصغيرة انتصارات, وتجاهل التراجع الخطير في ميادين الانجازات الحقيقية ؟
يمكن تلخيص الإجابة في : العجز عن تحمل استحقاق التحول الديمقراطي ..
تكمن صعوبة الاستحقاق الديمقراطي في كون الديمقراطية كلاً متكاملاً لا يجوز معها استدعاء أي مسلك دكتاتوري يشفي الغليل من أعداء الأمس و يشبع شهوة التشفي . وعليه يصبح أوجب واجبات قادة التحول الديمقراطي حماية الديمقراطية من أي منزلق قد يعيد البلاد إلى انتهاك الحقوق القانونية والمساس بالحريات و باستقلال القضاء . وبما أن الذاكرة الشعبية تحتفظ بمظالم وفظائع للنظام السابق, سهل على قادة فترة الانتقال تبرير استدعاء تدابير تجافي المبادئ الديمقراطية المعروفة . و تعتبر لجنة تفكيك نظام الإنقاذ مثالاً لمخالفة القواعد الديمقراطية , إذ تصدر عن اللجنة إدانات مسبقة و اتهامات خطيرة طالت جهات عديدة بما فيها النائب العام والقضاء .

وهي لجنة لم تضطر لها سلطة الفترة الانتقالية, حيث كان في الإمكان أن يؤدي دورها مكتب في ديوان النائب العام يتلقى الشكاوى بلا حاجة لاستعراض أو إثارة , لكن التراخي في الالتزام بالاستحقاق الديمقراطي جعل اللجنة فوق الجهاز القضائي ثالث ثلاثة بين السلطات التي تحكم الدولة الديمقراطية .

المظهر الثاني للعجز عن تحمل الاستحقاق الديمقراطي هو التهرب من مرحلة الدولة الصعبة , بالإبقاء على حالة الثورة . تم ذلك بأن أعفى الثوار أنفسهم من مهمة التغيير الشاقة , بأن أبقوا على حالة الثورة الشاعرية . ثم اكتشف الثوار أنها حالة قصيرة العمر ولن يكون مقبولا أن يبقوا طويلاً عند حالة الشعر و التصفيق و تلوين الجدران ؛ فجعلوا من الثورة حالة غامضة لا يشغلها خبز و لا موسم زراعي ولا صادر ماشية ولا كتاب مدرسي , و حالة مقدسة لا يجوز المساس بها ولو لم تُحدث التغيير . وهي حالة غير مقبولة أيضا لثورة مهمتها الجوهرية التغيير , فعمد الثوار لخلق أعداء وهميين للثورة أو تضخيم أعداء حقيقيين لتكون مهمة الثوار الوحيدة هي حماية الثورة . فإذا فشل الثوار في التغيير سارعوا إلى الإشارة إلى عدو الثورة الأول هاتفين ( الجوع الجوع و لا الكيزان) تقليلا من فشل الثورة في توفير القوت وتلميحاً إلى أن التخلص من الكيزان أعداء الثورة غاية يهون معها الجوع ! وأعد الثوار قائمة من الأعداء و احتياطي للقائمة, فيُستدعي أي منهم حسب الظرف ؛ فكان (العسكر) العدو التالي للكيزان .

وامتدت القائمة لتشمل النائب العام, و قد يشار أحيانا لرئيسة قضاء الثورة كما أسلفنا . في هذه الأجواء أباحت لجان المقاومة لنفسها قطع الطرق سواء أكانت الطرق الداخلية في المدن أو الطرق القومية , واستباحت حرمة المنازل بزعم أنها تستضيف اجتماعات المؤتمر الوطني , ووصلت الجرأة بهذه اللجان أن اعتبرت مشاركة عضو مجلس السيادة ـ المكون العسكري ـ في مناسبة اجتماعية تهديداً للثورة .

أما الضلع الثالث في ثالوث العجز عن تحمل الاستحقاق الديمقراطي فهو إطالة أمد الفترة الانتقالية , وهو تشوه خطير أصاب التحول الديمقراطي , حيث أن فترة الانتقال فترة استثنائية يجب أن تكون قصيرة حتى لا تتحكم حكومة بلا تفويض شعبي في مصائر الشعب و الوطن . لكن أعجب عجائب الذين صاغوا هذه الفترة أنهم جعلوا الفترة الاستثنائية أطول عمرا من دورة انتخابية كاملة . وهو مخطط مدروس لتمكين مجموعات صغيرة تفتقد السند الجماهيري من حكم ما هم بالغوه عبر صناديق الانتخابات . فتمددت هذه المجموعات الصغيرة و تحكمت , و يكفي أن نشير إلى أن حزب البعث ممثل في اللجنة المركزية لقوى الحرية والتغيير بثلاثة أحزاب تحمل اسم (البعث) .

ورغم أن الانتخابات هي ملمح الديمقراطية الأبرز باعتبارها المعبر عن الإرادة الشعبية , إلا أن المجموعات الصغيرة المتحكمة في الفترة الانتقالية لم تتورع من تعطيل الانتخابات ما دامت تهدد وجودها في السلطة . ولم تكتف بذلك فسعت بقوة للانفراد بالسلطة وذلك بالتشكيك في العسكريين و التذكير بخطر مشاركة الجيش في السلطة الانتقالية , ومن العجائب أيضاً أن المشككين هم الناصريون والبعثيون والشيوعيون , رغم أن التجربة الناصرية في مصر و تجربة البعث في سوريا وفي العراق قد اعتمدت بالكامل على الجيوش في ترسيخ حكمها , وتتعدد التجارب الشيوعية المسنودة بالقوة العسكرية .
إطالة الفترة الانتقالية تشويه للتحول الديمقراطي ولو كانت عناصر الحكم متجانسة ؛ فيصبح التصحيح أكثر إلحاحاً عندما تنعدم الثقة بين أطراف الحكم وتصيب علاقتهم شروخ كما هو حال العلاقة بين المكون المدني و المكون العسكري في السلطة الانتقالية .. وعليه فقد صار واجباً على القوى السياسية ذات القواعد الجماهيرية أن تعمل بهمة لإيقاف هذه المسرحية العبثية بممارسة الضغوط المطلوبة لإجراء الانتخابات في أقرب وقت ممكن, حتى يتمكن الشعب بإرادته الحرة من تشكيل حكومة يتحمل مسئولية اختيارها, ومن هذا المنطلق يتابعها ويحاسبها , ويشاطرها المصاعب ـ إن دعا الحال .

وعلى الرغم من أن تشكيل الحكومة الأخيرة لا يعدو أن يكون استبدال حكومة غير مفوضة بحكومة بغير تفويض إلا أن الحكومة الأخيرة تحمل ايجابية غير ذات صلة بالتغيير المرتقب , هو مشاركة حزب الأمة صاحب القاعدة الجماهيرية الكبيرة , فقد أضر موقفه المتردد السابق بالفترة الانتقالية حين سمح للأحزاب الصغيرة بالسيطرة والتمدد . وينتظر أن يكون الموقف الايجابي الأخير مقدمة للمشاركة في التصحيح الأكبر .
خلاصة القول إن الديمقراطية ليست إدعاء ..

المصدر: صحيفة السوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.