قبل 31 عاما وتحديدا في 2 ديسمبر/ كانون الأول 1990، قاد إدريس ديبي حركة تمرد مسلحة بدعم إقليمي تدعى “الحركة الوطنية الإنقاذ الوطنية” للإطاحة برئيس تشاد السابق “حسين حبري”.. الذي كان قد عينه قائدا للجيش ومستشاراً عسكريا له.
وصل ديبي للسلطة بقوة السلاح ليخرج منها بنفس الطريقة، فبعد 3 عقود من الحكم بالحديد والنار، قتل الرئيس إدريس ديبي عشية فوزه بفترة سادسة في الانتخابات الرئاسية التي لم ينافسه فيها أحد تقريبا.
ولأنه يعلم بخطورة تحرك الفصائل المسلحة على بقائه في الحكم، لم يقم حفلا لإلقاء خطاب الفوز بالرئاسة، بل عجل بالذهاب إلى جبهة “زيكي” في إقليم “كانم” شمال تشاد للقضاء على هذه الحركة المتمردة لتكتب نهايته هناك حيث تم استهدافه من قبل فصيل “جبهة التناوب والتوافق”.
ماذا عن مستقبل تشاد في ظل الأحداث المتسارعة بالإعلان عن تشكيل مجلس عسكري برئاسة الجنرال “محمد كاكا” نجل الرئيس المغدور، الذي قرر حل البرلمان والحكومة، وغلق منافذ البلاد من مختلف الاتجاهات، وفرض حالة الطوارئ وحظر التجوال بالمخالفة لنصوص دستور البلاد الذي يقضي بتولي رئيس البرلمان السلطة ويجري انتخابات خلال 45 يوما.
حول تطورات الوضع وتفاصيل مقتل الرئيس “ديبي” كان حوار “الاستقلال” مع الكاتب الصحفى والمحلل السياسي التشادي #محمدطاهرزين.
مقتل الرئيس
ما هي خلفيات مقتل الرئيس إدريس ديبي؟ وهل هناك ترتيب مسبق لذلك؟
الرئيس “إدريس ديبي” قتل في معركة “ميلا” بمدينة زيكي في إقليم “كانم” شمال تشاد خلال مواجهات ضد قوات جبهة “التناوب والتوافق” المعارضة المسلحة بقيادة “محمد مهدي” المعروفة بـ(فاكت).. حيث كان الرئيس يقود شخصياً دبابة في المواجهات، لكنها تعطلت منه وأثناء نزوله منها ليعود للخلف تم استهدافه بقذيفة ليصاب في الحال.
تم الإعلان عن أن إصابته طفيفة، ونقل توا إلى العاصمة التي شهدت أجواء غير طبيعية، لكن سرعان ما انتشرت الدبابات والمظاهر العسكرية في شوارع العاصمة “أنجمينا”، ليعلن بعدها المجلس العسكري عن وفاة الرئيس ونقل السلطة الى نجله، وبدء فترة حكم انتقالية تستمر 18 شهرا.
كان المتمردون من جماعة (فاكت) دخلوا الأراضي التشادية عبر الحدود الجنوبية مع ليبيا، واستولوا في طريقهم على عدد من المدن حتى وصلوا إلى إقليم “كانم” الذي حدثت فيه المواجهة وتسببت في إصابة قاتلة للرئيس في أرض المعركة مع المتمردين عشية إعلان فوزه في الانتخابات الرئاسية بولاية سادسة حيث تجاوزت مدة حكمه 31 عاما منذ ديسمبر/كانون الأول 1990 وحتى 20 أبريل/نيسان 2021.
مشاركة الرئيس الراحل “ديبي” في المعارك ليس أمرا مستغربا، فهو دائما يقود بنفسه الكثير من المعارك في مواجهة حركات المعارضة المسلحة، وآخر هذه المعارك كانت ضد جماعة “بوكو حرام” في إقليم البحيرة.. وكل ما سبق يؤكد مقتله خلال مشاركته في القتال لإدراكه مدى خطورة التحرك المسلح على بقائه في السلطة.
ماذا عن طبيعة المعارضة التشادية السياسية وموقفها من عملية نقل السلطة بهذه الصورة إلى مجلس عسكري؟
المعارضة السياسية الديمقراطية المدنية في تشاد تتشكل من عدد من الأحزاب السياسية، ومنظمات حقوق الإنسان المدافعة عن الحريات، ومنظمات المجتمع المدني المختلفة، وخريطة التحالفات السياسية للمعارضة تضم أكثر من 50 حزبا سياسيا، إلى جانب مئات النقابات والجمعيات العمالية.
هذه الأحزاب رفضت قبل أكثر من عام ترشح الرئيس ديبي لولاية سادسة، بل وتحركت في تظاهرات شعبية سلمية رافضة للانتخابات الرئاسية، وتعرض المتظاهرون لبطش الأجهزة الأمنية وعنف النظام وتنكيله بهم، ومضت الانتخابات بكل ما فيها من تجاوزات حتى فاز بها الرئيس ديبي قبيل مقتله بيوم واحد.
المعارضة ترى أن ما حدث من المجلس العسكري بمثابة انقلاب على نظام الحكم القائم في تشاد، ومخالفة للدستور الذي وضعه الرئيس “ديبي” نفسه، وأن مسرحية توريث السلطة في البلاد لن يقبل بها الشعب، فضلا عن أن الدستور يوجب تولي رئيس البرلمان السلطة حال وفاة رئيس الجمهورية، على أن يدعو لإجراء انتخابات في غضون 45 يوما حتى تنتقل السلطة إلى رئيس مدني يتم انتخابه ديمقراطيا.
ترى المعارضة السياسية وكذلك العسكرية أن ما حدث عبارة عن انتقال البلاد من حكم ديكتاتوري فاشل إلى حكم وراثي استبدادي أشد فشلا، وأنه لا يمكن الحوار مع من يستولي بطريقة غير دستورية على السلطة.
كما أن المعارضة عازمة ليس فقط على إبعاد نجل الرئيس “الجنرال كاكا” عن السلطة، وإنما على إسقاط نظام حكم إدريس ديبي بالكامل ودخول العاصمة، لأن نظام الرئيس المقتول لم يترك فرصة للحوار طوال فترة حكمه التي استمرت 31 عاما.
المعارضة المسلحة
ما هي أهم مجموعات المعارضة المسلحة التي تحارب السلطة في تشاد؟
المعارضة المسلحة بعضها يوجد في الجنوب الليبي، والبعض الآخر يتخذ من مناطق المثلث بين تشاد والسودان وإفريقيا الوسطى مسرحا لتحركاته، وتتكون من مجموعات عديدة من أهمها.
1- “جبهة التناوب والتوافق” التي قتلت الرئيس ديبي، ومعظم معسكراتها في الجنوب الليبي وقد بدأت هجومها الأخير في 11 أبريل/نيسان 2021، واستولت على عدة مدن آخرها ولاية “كانم” وأعلنت عزمها المضي في القتال حتى إسقاط العاصمة أنجمينا.
2-“اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية” يرأسه وزير الدفاع السابق “محمد نوري” وقد خاضت قواته معارك ضد حكومة ديبي في 2006 و 2008 حتى وصلت قصر الرئاسة وحاصرته وكادت تسقط نظام ديبي لولا التدخل الفرنسي.
3- “اتحاد قوى المقاومة التشادية” يرأسها “تيمان إيرديمي” وقد شن هجمات على العاصمة أنجمينا وكاد يسقطها لولا القصف الفرنسي الذي استهدف قواته وأجهضها في 2019.
4- “التحالف الرباعي للمعارضة التشادية” والذي يتكون من “مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية (CCMSR)، وجبهة الأمة من أجل الديمقراطية والعدالة (FNDJT)، واتحاد حركات الديمقراطية والتقدم (UMDD)، والاتحاد الوطني من أجل التغيير (UNC) وتتمركز قواته الآن في منطقة تبيستي، وعلى تواصل مع كافة الفصائل بما فيها جبهة الوفاق Fact، وجميع هذه الفصائل تؤكد أن عدوهم الأول كان الرئيس إدريس ديبي.
كما أنهم بعد مقتل الرئيس ديبي يرفضون توريث الحكم لنجله محمد ديبي الشهير بـ”كاكا” ويرونه امتدادا لنظام والده الاستبدادي ويصرون على المضي قدما نحو العاصمة للاستيلاء على السلطة من أجل إنهاء حقبة الاستبداد من أجل تشاد التي تتسع للجميع من كافة الأعراق والأديان والقبائل ويتمتع فيها الجميع بالحرية..
قادة المعارضة المسلحة يؤكدون في تصريحاتهم أن والد كاكا قطع كل أواصر التواصل والحوار مع كافة القوى السياسية السلمية وأنه لا يصلح معه أي حوار، وأن شعار المعارضة بشقيها أنه لا حوار مع نظام حكم فاشل أو امتداده، معربين عن دهشتهم لمرحلة مؤقتة تستمر 18 شهرا.
ما طبيعة الصلة بين ما يحدث في تشاد حاليا وتطورات الأوضاع على الساحة الليبية؟
الجماعات المسلحة التي تعارض نظام الرئيس إدريس ديبي ليست جماعات أجنبية كما يحاول البعض ترويج ذلك، لكنها جماعات تشادية وكانت تستقر في ليبيا ومنطقة المثلث الحدودي بوسط إفريقيا وتعمل من هناك ضد الحكومة التشادية.
لكن بعد صدور القرارات الدولية باستقرار الوضع في ليبيا واتفاق الفرقاء على خارطة طريق ليبية في جنيف، وتعيين حكومة جديدة اضطرت هذه المجموعات التشادية المسلحة إلى العودة لتشاد، وبدأت تتناوش مع القوات الحكومية واستولت في طريقها على عدد من المدن والحاميات بعضها بدون قتال، حتى وصلت إلى إقليم “كانم” الذي قتل فيه الرئيس ديبي، وأبرز هذه الجماعات جبهة “التناوب والتوافق” وأخرى تحت ظلال التحالف العسكري الرباعي.
هل يحظى رئيس المجلس العسكري الجنرال “كاكا محمد ديبي” نجل الرئيس الراحل بقبول شعبي؟
الجنرال “كاكا” ليست لديه خلفية ولا خبرة سياسية، وهو شخصية عسكرية تماما، معروف عنه أنه أكثر استبدادا من والده ولا يحظى بقبول شعبي من الجماهير كما أن الجيش ليس مجمعاً عليه كذلك وترى المعارضة المسلحة أنه شخص قاتل وغير مقبول من جميع أطياف الشعب ويرفضون توليه رئاسة السلطة.
الموقف الدولي
كيف ترى مستقبل الهيمنة الفرنسية وسط إفريقيا بعد رحيل ديبي؟
تعتبر فرنسا الحامي والراعي الرسمي لنظام “ديبي”، حيث قدمت له دعما كبيرا من أجل بقائه في الحكم طوال 31 عاما، وقامت بحمايته والدفاع عنه عندما تمت محاصرته عام 2008 في القصر الجمهوري من قبل المعارضة المسلحة آنذاك.
كما قصفت فرنسا بعنف عبر غارات جوية الحملة العسكرية التي كادت تطيح به عام 2019 إبان مواجهة تمت بين قواته و”مجلس القيادة العسكري لإنقاذ الجمهورية” (CMSR) أحد فصائل المعارضة التشادية شمالي البلاد.
لم يتوقف الدور الفرنسي عند الدعم العسكري واللوجيستي المباشر، بل توالت الأنباء بوصول وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بيرلي إلى أنجمينا بعد 48 ساعة من حادثة المعارض “يحيى ديلو” بعد مداهمة منزله وقتل والدته ومرافقيه من أجل تسوية القضية والسماح لديبي بإجراء انتخابات أبريل/نيسان 2021، والتي لقي حتفه بعدها.
كما أن فرنسا باركت المجلس العسكري الانتقالي ورحبت بخلافة الجنرال “كاكا” لوالده فضلا عن امتناعها عن التدخل العسكري لحماية ديبي هذه المرة وتركته يلقى مصيره على يد جماعة (فاكت) وإصدار تحذيرات لمواطني عدد من الدول الأوروبية بالعاصمة أنجمينا قبل 4 أيام من مقتل ديبي توحي بوجود نوع من الترتيب لتغيير الوضع في تشاد واستبدال “ديبي” بآخر لإعادة تشكيل المنطقة بعد تطور الوضع في ليبيا.
فضلا عن أن حالة الاطمئنان البادية على مواقف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بمجيء الجنرال “كاكا” واستمرار دعم التدخل الفرنسي بزعم مواصلة حربها على ما تسميه التطرف الإسلامي يؤكد أن هذا السيناريو معد سلفا.
الحرب الأهلية
البعض يتحدث عن خطر انزلاق تشاد الى أتون الحرب الأهلية خلال هذه الأحداث، ما حقيقة ذلك؟
لا أعتقد أن ذلك يمكن حدوثه، لاسيما وأن المعارضة المسلحة خطابها للشعب التشادي خطاب مسالم وودود، وهناك تصريحات متلفزة للمتحدث باسم التحالف الرباعي للمعارضة التشادية المسلحة عبد الله شيدي بأنهم يرون الجنود التشاديين أشقاء لهم ولا يريدون قتل أحد منهم، ولا تدمير الآليات العسكرية لأنها ملك للشعب التشادي، وأن بابهم مفتوح لمن يريد أن يلتحق بهم لجعل تشاد دولة حرة ديمقراطية يحكمها جميع المواطنين من مختلف القبائل والأعراق والأديان دون تفرقة، وأنهم يؤكدون في التحالف أن عدوهم الأول كان “ديبي” ونظامه حتى إسقاطه.
تشاد بلد مسلم.. هل هناك وجود لأية ناشطين سياسيين إسلاميين في المشهد العام حاليا؟
ليس هناك كيان سياسي أو حزب يمثل التيار الإسلامي في تشاد، لكن يمكن الحديث عن وجود أفراد لكنهم غير مؤثرين وليس هناك حزب أو تيار بعينه يمكن أن نقول إنه يمثل الإسلام السياسي، وهؤلاء الأفراد متناثرون في الأحزاب المختلفة ولا يمثلون تكتلا، وتقريبا بعضهم ينتمون للإخوان المسلمين لكن ليسوا لاعبين مؤثرين على الساحة في تشاد.
ما توقعاتك لسيناريو الأحداث خلال المستقبل القريب في البلاد؟
المعارضة المسلحة رفضت ما أعلنه المجلس العسكري ورفضت توريث الحكم وأعلنت عزمها المضي نحو العاصمة للتخلص من نظام ديبي، وكذلك المعارضة المدنية السياسية رفضت تجاوز الدستور وأعلنت رفضها تولي نجل الرئيس.
الجميع يترقب ما ستسفر عنه الأيام القليلة القادمة حيث ما زالت الأوضاع هادئة منذ إعلان وفاة الرئيس وتشييع جثمانه بحضور ماكرون وعدد من رؤساء وحكومات الدول المجاورة.