السودان.. ما تأثيرات تحرير أسعار المحروقات بشكل نهائي؟

بعد تحرير أسعار المحروقات بشكل نهائي.. الحكومة السودانية أمام امتحان صعب
الشارع السوداني ومنذ صدور قرار رفع أسعار الوقود تنتابه حالة من الاستياء الشديد تبدت في اندلاع احتجاجات على نطاق واسع بالخرطوم وإغلاق الطرق الرئيسة وإحراق الإطارات.

لا تجد الحكومة الانتقالية في السودان مفرا من إعلان زيادات جديدة على أسعار الوقود كل بضعة أسابيع، فالخيارات أمامها باتت منعدمة كما يصرح بذلك مسؤولوها لتبرير القفزات الهائلة، التي تطبقها في الأسعار، والتي قاربت هذه المرة 100%.

وبموجب الأسعار الجديدة، فإن لتر البنزين سيباع بـ290 جنيها (0.67 دولار) مقارنة بـ150 جنيها (0.35 دولار) قبل القرار، مقابل 285 جنيها (0.66 دولار) للغازولين.

وقالت الحكومة إن أسعار الوقود ستخضع للمراجعة حسب سعر الدولار، وهو ما يعني احتمال أن تشهد ارتفاعا جديدا في مقبل الأيام، سيما أن الجنيه السوداني تراجع بسرعة في السوق الموازي أمام سلة العملات، فور الإعلان عن الزيادات في أسعار الوقود.

وأمام بدء احتجاجات متفرقة في العاصمة (الخرطوم)، وتنامي الدعوات لإسقاط الحكومة، قال وزير المالية، جبريل إبراهيم، في مؤتمر صحفي الأربعاء الماضي إن الحكومة الحالية لا مناص أمامها إلا بإصلاح الاقتصاد، وتابع “حتى إن سقطت الحكومة، فمن تأتي بعدها ليس لديها خيار غير المضي في ذات الإصلاحات، أو عليكم إسقاطها هي الأخرى”.

ويؤكد الوزير العزم على مواصلة انتهاج سياسية التحرير حتى يتعافى الاقتصاد السوداني من التشوهات، التي قال إنه ظل يعاني منها كثيرا، ويعترف في الوقت ذاته بأن تلك السياسات ستخلف معاناة كبيرة وسط المواطنين، وشبهها بأنها ستكون “جراحات مؤلمة جدا وعميقة وشديدة؛ لكن لا علاج إلا عبر استئصال المرض”.

وفي سياق تبرير وزير الطاقة، جادين علي عبيد، للقرار الذي أثار موجة غضب واسعة وسط السودانيين، يوضح أن رفع الدعم عن الوقود وخروج الدولة من تكاليفه سيسهم بصورة مباشرة في تطوير حقول النفط السودانية، التي تدنّى إنتاجها بنسبة 50%؛ لعدم قدرة الدولة على توفير موارد لتطويرها، ويشير إلى أن الحكومة تضطر لبيع نفطها بـ50% من تكلفته الحقيقية، مما تسبب في إيقاف تطوير الحقول.

وقالت وزارة المالية -في تصريح صحفي- إن رفع أسعار الوقود يأتي في إطار سياسة الدولة الرامية لإصلاح الاقتصاد الوطني، وتأسيس بنية تمكن مؤسسات الدولة والقطاع الخاص من التعامل مع مؤسسات التمويل الدولية.

كما أفادت الوزارة بأن عملية تحديد السعر تخضع لتكلفة الاستيراد، والتي تشكل ما بين 71-75% من سعر الوقود، مضافا إليها تكاليف النقل ورسوم الموانئ وضريبة القيمة المضافة وهامش الربح لشركات التوزيع، حيث تشكل هذه التكاليف مجتمعة ما بين 25-29% من سعر البيع للمستهلك.

ويصف الخبير الاقتصادي، خالد التجاني، قرار الحكومة برفع أسعار الوقود بأنه “انتحاري بامتياز”؛ بل خارج أي سياق موضوعي لإصلاح اقتصادي حقيقي، ويؤكد أن الخطوة ستضرب في مقتل ليس معاش الناس فحسب؛ بل “تصبح معول هدم لأي محاولات لتحريك قطاعات الإنتاج المختلفة لتزيد انهيار الأوضاع الاقتصادية المتردية أصلا”.

ويرى التجاني في حديثه للجزيرة نت أن أحد الأسباب التي اضطرت الحكومة لهذا القرار، فراغ خزائن الحكومة لدرجة أن الوفاء بالفصل الأول لتعويضات العاملين أصبح شبه مستحيل بدون اللجوء إلى الاستمرار في الاستدانة من النظام المصرفي بأضعاف ما يسمح به السقف القانوني.

وأضاف “البنك المركزي يعاني الأمرّين لعجزه وفقدانه لاستقلاليته، وطغيان الهيمنة المالية المفروضة عليه من قبل الحكومة، ويلجأ إلى الحل السهل شكلا، الكارثي مضمونا، بضخ المزيد من السيولة بطباعة أوراق نقدية لتكون النتيجة استمرار انفلات التضخم بكل تبعاته”.

ويتابع “في محاولة للتخفيف من غلواء تزايد معدل التضخم الذي تجاوز 400%، ويفوق بـ4 أضعاف المعدل الذي كان مستهدفا في موازنة العام الحالي، الذي انقضى نصفه. يأتي أحد دوافع هذا القرار لجلب آخر جنيهات في جيوب المواطنين المسحوقين لتمويل جزء من العجز المهول في الإيرادات”.

تركة ثقيلة

وبحسب الخبير الاقتصادي، فاروق كمبريسي، فإن تكلفة دعم المحروقات في السودان تتراوح بين 210 إلى 250 مليون دولار شهريا -وفق تطورات الأسعار عالميا- يمثل الغازولين 60% منها، والبنزين 20%، وغاز الطبخ حوالي 8%، والفيرنس (وقود المصانع) والمنتجات الأخرى حوالي 12%.

ومن حيث القطاعات يستهلك قطاع النقل حوالي 60% من المحروقات، وقطاع الكهرباء 17%، ويليه القطاع الصناعي والقطاع الزراعي.

ومنذ العام 2012 -يقول كمبريسي- أنهك هذا الدعم خزينة الدولة، في وقت أشار صندوق النقد إلى أن الدعم يعادل 75% من عائدات الضرائب؛ لأن السودان ليست لديه آلية محددة للتسعير وفق التطورات العالمية.

ويتابع أنه كلما استفحل الأثر السلبي للدعم تلجأ الحكومة لخفض قيمة العملة الوطنية إلى أن اضطرت الحكومة الانتقالية لدفع ثمن كل ذلك غاليا، حيث ورثت عن النظام السابق مديونية 3.5 مليارات دولار مستحقة للشركات الصينية، قال إنها الآن تمثل عقبة كبيرة أمام زيادة الإنتاج النفطي وصيانة الحقول المنتجة.

نتائج كارثية

وتقول الصحفية المختصة في الشؤون الاقتصادية، نازك شمام، إن قرار زيادة أسعار المحروقات اتخذ على أمل الوصول لنقطة القرار المحفزة للحكومة من صندوق النقد الدولي، والذي يمهد بلوغها لحصول الخرطوم على ملياري دولار، وإن نهاية هذا الشهر تشهد وصول فريق من الصندوق للوقوف على الإجراءات التي تبنتها الحكومة.

كما تؤكد شمام في حديثها للجزيرة نت أن مؤتمر باريس لدعم الاستثمار في السودان، الذي عقد منتصف مايو/أيار الماضي، ناقش فيه مسؤولون كبار من دول العالم الأول قادة الحكومة الانتقالية حول الإصلاحات الاقتصادية وضرورة الاستمرار في استكمالها.

وتوضح أن الحكومة جاهدت طويلا منذ وقت مبكر لتطبيق هذا القرار؛ لكن ثمة متاريس حالت دونه، بعد أن أرسل وزير المالية السابق إبراهيم البدوي تأكيدات للمؤسسات الدولية بالعزم على إجراء إصلاحات اقتصادية تتضمن تحرير أسعار الوقود والكهرباء والخبز والأدوية فضلا عن تحرير سعر الصرف.

وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الحكومة لإقناع الرأي العام والشارع السوداني بضرورة المضي في الإصلاحات؛ إلا أنها أخفقت في الحصول على أي تأييد، فقررت -كما تقول المحللة الاقتصادية- تطبيق قرار رفع تدريجي للدعم عن المحروقات بدءا من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تبعه توحيد سعر الصرف في فبراير/شباط.

وتؤكد نازك شمام أن المتغيرات الاقتصادية لم تجعل قرار رفع الدعم عن المحروقات ذا فائدة ملموسة للإيرادات الحكومية، تزامنا مع الارتفاع المستمر لسعر الصرف.

وتشير إلى تأثيرات القرار على المعيشة وعلى المنتج المحلي والواردات، وتشرح بأن تطبيقه الأول سيعمل على رفع سعر الصرف، بعد أن تلجأ الشركات المستوردة لتأمين حاجتها من النقد الأجنبي، بما يؤثر سلبا على أسعار السلع المستوردة، وينتج عنه على المدى الطويل شح وندرة بعض السلع، بينما يظهر تأثيره على المنتج المحلي برفع تكلفة المنتجات بشكل كبير في ظل عدم دعم الدولة لأي من مدخلات الإنتاج.

غليان الشارع

وبالفعل، فإن الشارع السوداني ومنذ صدور قرار رفع أسعار الوقود تنتابه حالة من الاستياء الشديد تبدت في اندلاع احتجاجات على نطاق واسع بالخرطوم، وإغلاق الطرق الرئيسة، وإحراق الإطارات.

كما يصب مغردون على وسائل التواصل الاجتماعي جام غضبهم على الخطوة، التي يقولون إنها اتخذت بلا اكتراث لأوضاع الناس الصعبة أصلا.

وفي دوائر القوى السياسية، رفضت قوى الإجماع الوطني، التي يتزعمها الحزب الشيوعي، زيادة أسعار الوقود وعقدت اجتماعا طارئا يوم الخميس، خلص وفق مصادر تحدثت للجزيرة نت إلى الدفع بمذكرة لرئيس الوزراء تعارض القرار وتدعوه للتراجع عنه.

وانتقدت قوى الإجماع -في بيان- مضي الحكومة في تطبيق سياسات السوق الحر بدون استعداد لمراجعة النتائج، وأشارت إلى أن الطاقم الاقتصادي لمجلس الوزراء، يصر على تطبيق سياسات تؤدي إلى ارتفاع مستمر في أسعار السلع والخدمات، مع تدهور متنامٍ في قيمة العملة الوطنية، وتآكل المدخرات والقوى الشرائية، وزيادة عجز الموازنة كنتاج لتراجع الصادرات والإيرادات، علاوة على تضخم تصاعدي تخطى عمليا 400%.

واعتبر التحالف توقيت الإعلان عن الزيادات استمرارا في نهج الاستجابة والرضوخ لاشتراطات الدائنين والممولين الدوليين، التي وضعوها في مؤتمر باريس، كإحدى متطلبات إمكانية التوصل لاتخاذ قرار إعفاء ديون السودان.

كما هاجمت الحركة الإسلامية سياسيات الحكومة الانتقالية ووصفتها بالرعناء، وقالت في بيان، أول أمس الخميس، إن سلوك الحاكمين بات خصما على الأمن والاستقرار بما أحدثه في عامين من تضييق في معاش الناس بلا مبالاة أو تدرج في السياسات الاقتصادية القاسية والمتوحشة، وبدون مراعاة للضعفاء والفقراء والمساكين.

وأضافت الحركة -في بيانها- “أن سياسات رفع الدعم التي تمارسها الحكومات الراشدة تتم في تدرج ووفق منظومة شاملة من سياسات تعويضية لقطاعات الشعب التي تحتاج إلى السند، ثم إن رفع الدعم يجب أن يتم وفق سياسات شاملة تركز على دعم الإنتاج والصادر، وتضبط الوارد والصرف الحكومي. وليس قفزا فوق كل المراحل وتهشيما لقدرات المجتمع وإفقاره”، وحث بيان الحركة على الخروج إلى الشارع وإسقاط الحكومة.

المصدر : الجزيرة

تعليقات الفيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.