10 سنوات على وفاته.. تفاصيل الساعات الأخيرة لمؤسس “أبل” ستيف جوبز

لم تكد تغادر السيارة وتغلق بابها حتى تعالى صوت الخطوات المُتعجِّلة للسيدة الخمسينية شرق أوسطية الملامح التي كانت تحث الخُطى نحو منزل أنيق مميز في ضاحية بالو ألتو بولاية كاليفورنيا، في ظهيرة يوم الخامس من أكتوبر/تشرين الأول عام 2011. كان من المفترض أن يكون ذلك اليوم يوما خريفيا لطيفا بامتياز، لكنه بدا بالتأكيد كئيبا مُقبِضا للسيدة القلِقة التي تحوَّلت خطواتها السريعة إلى ما يُشبه القفزات.

تتذكَّر صوته الضعيف المُرتجف عبر الهاتف: “يجب أن تُسرعي بالقدوم إلى بالو ألتو يا عزيزتي. أنا أخبرك بذلك الآن لأنني أخشى أنني لن أستطيع أن ألقاكِ، إنها النهاية”، وتتذكَّر أيضا أنها قاطعته قائلة: “انتظر، أنا قادمة حالا، أنا في سيارة أُجرة في طريقي إلى المطار، سأكون عندك حالا”.

حسنا، بمجرد دخولها إلى المنزل، أشار إليها الحاضرون الواجمون الذين يتوقَّعون قدومها إلى الغرفة التي تقع في نهاية الرواق وتوجَّهت إليها مباشرة. توقَّفت أمام الباب لتلتقط نفسا عميقا، ثم دلفت إلى الغرفة التي اجتمع بها عدد من الوجوه المألوفة حول شخص يرقد في السرير وحوله بعض الأجهزة الطبية. الجميع صامتون لا يتحدَّثون إلا همسا.

المنزل الذ توفي فيه ستيف جوبز

للوهلة الأولى، شعرت بالصدمة. كان الشخص المُسجَّى على الفراش أقرب إلى هيكل عظمي شديد النحول، لا تكاد تتميَّز ملامحه، ضعيف مُتهالك مريض يصارع لالتقاط بعض الأنفاس، يُحيطه الجميع بنظرات الشفقة والعيون الممتلئة بالدموع. لم يكن هذا الشخص يشبه أخاها الذي تعرفه وطالما توجَّهت إليه نظرات الذهول والانبهار والإعجاب طوال حياته تقريبا، خصوصا عندما كان يقف في زهو أمام شاشات العالم ليُعلِن تقديم منتجات جديدة غير مسبوقة تُغيِّر مسار حياة البشر.

كان هذا الشخص هو ستيف جوبز، مؤسِّس شركة “أبل” التقنية. وكانت السيدة التي هرعت إلى لقائه هي منى سيمبسون، الكاتبة والروائية الأميركية السورية، وأخته البيولوجية من أبيهما السوري (عبد الفتاح الجندلي). وكان المحيطون به في الغرفة زوجته وأبناءه الأربعة. وكانت هذه اللحظات تحديدا هي لحظات الاحتضار الأخيرة لستيف جوبز، التي حكتها سيمبسون في مقالة نشرتها في صحيفة نيويورك تايمز بعد وفاته. (1)

أثناء تأملها للمشهد، الذي بدا سيرياليا كئيبا ككل مشاهد الاحتضار، عادت السيدة سيمبسون بالذاكرة إلى تفاصيل رحلة مرض ستيف جوبز، وكيف تحوَّل أخوها من نموذج لأكثر الأشخاص نجاحا وحيوية وشهرة على وجه الأرض إلى شخص يصارع فقط لكي يلتقط أنفاسه الأخيرة.

تفاحة خبيثة في البنكرياس

“لديّ بعض الأخبار الشخصية التي أحتاج إلى مشاركتها معكم، وأردت أن تسمعوها مني مباشرة. شُخِّصت بنوع نادر من سرطان البنكرياس يُمثِّل 1% من إجمالي أنواع سرطان البنكرياس التي تُشخَّص سنويا، ويمكن معالجته جراحيا إذا شُخِّص مبكرا (كما في حالتي)، وقرَّرت أنني لن أطلب العلاج الكيماوي أو جلسات إشعاعية”.

كانت هذه الكلمات هي رسالة داخلية أرسلها ستيف جوبز إلى العاملين كافة في شركة “أبل” عبر البريد الإلكتروني في أغسطس/آب عام 2004. في الواقع، كان تشخيص جوبز بالمرض قد حدث عام 2003، ولكنه أخفى الخبر حتى لا يُثير قلق المستثمرين في شركته، إلى أن بدأت الشائعات حول مرضه في الظهور، التي أنهاها هو بنفسه بهذا الإعلان الواضح، مؤكِّدا أنه بصحة جيدة ويُتابع طبيا مسار العلاج.

بعد عامين، وفي أغسطس/آب 2006، ظهر ستيف جوبز في مؤتمر “أبل” السنوي للمصممين وقد فقد الكثير من وزنه وبدا عليه الشحوب، لكن الجميع سرعان ما انشغلوا عن ذلك بالمنتج الأسطوري الجديد الذي أعلن عنه جوبز بنفسه في يناير/كانون الثاني 2007 وكان يُمثِّل النسخة الأولى من هاتف آيفون الذي أبهر العالم بنمط مختلف تماما عن الهواتف الذكية التي كانت سائدة وقتها.

في عام 2008، كان قلق المستثمرين في “أبل” يتزايد حول صحة رئيسها التنفيذي القابض على زمام الأمور في الشركة، وهو قلق تصاعد عندما رفض جوبز الإجابة عن أسئلة الصحفيين حول صحته في مؤتمر “Let’s Rock” في سان فرانسيسكو. لاحقا، قال ستيف جوبز إن سبب الشحوب الشديد الذي يُعاني منه هو “عدم توازن هرموني” سببه العلاجات التي يتناولها، التي أدَّت إلى فقدان وزنه بشكل كبير، وسيبدأ في التعامل مع الأمر طبيا.

في صيف 2009، وبعد فترة غياب نسبية عن الإعلام، أعلنت صحيفة “وول ستريت جورنال” أن ستيف جوبز توجَّه إلى ولاية تينيسي لإجراء عملية زراعة كبد في أحد مستشفياتها عاجلا. اعترف جوبز لاحقا بهذه الخطوة، ونشر بنفسه بيانا حول صحته، مع شكر للشاب المتوفي الذي تبرَّع له بكبده: “أنا الآن أعيش بواسطة كبد شاب في منتصف العشرينيات توفي في حادث سيارة، وكان كريما كفاية ليتبرَّع بأعضائه. لم أكن لأعيش الآن بدون كرمه هذا”. (2)

عام الوداع

“تذكير نفسي بأنني سوف أموت قريبا هو أهم أداة اختبرتها على الإطلاق ساعدتني لاتخاذ الخيارات الكبيرة في الحياة. لأن كل شيء تقريبا، كل التوقعات الخارجية، كل الكبرياء، كل الخوف من الإحراج والفشل، كل هذه الأشياء تسقط تماما في مواجهة الموت، تاركة وراءها فقط ما هو مهم حقا. أن تتذكَّر بأنك سوف تموت هي أفضل طريقة أعرفها لكي تتجنَّب الوقوع في فخ التفكير بأن لديك شيئا تخسره. أنت عارٍ بالفعل، لا يوجد شيء آخر تفعله إلا أن تتبع قلبك”.

(ستيف جوبز في كلمته في حفل تخرج جامعة ستانفورد عام 2005)

في يناير/كانون الثاني 2011، أعلن ستيف جوبز رسميا بأنه تقدَّم إلى مجلس إدارة شركة “أبل” بطلب إجازة طبية لأجل غير مُسمَّى حتى يتسنَّى له التركيز على مشكلاته الصحية، وأشار جوبز في إعلانه إلى أنه سوف يستمر في منصب المدير التنفيذي للشركة، وأنه سوف يشارك في أي قرارات إستراتيجية كبيرة تُتَّخذ في “أبل”. لاحقا، طار جوبز إلى سويسرا لتجربة طريقة علاجية لم تُعتَمد بعد في الولايات المتحدة.

في أغسطس/آب من العام نفسه، أعلن جوبز تنازله عن منصب المدير التنفيذي لشركة “أبل” تنازلا دائما، مُعلِنا أنه غير قادر على أداء مهامه وواجباته، وأن واجبه تجاه التفاحة التي أسَّسها بنفسه هو أن يتنازل عن منصبه فورا. “هذا اليوم قد جاء للأسف”، صرَّح جوبز بذلك في رسالة مؤثرة، موكلا إدارة الشركة إلى الرئيس التنفيذي الحالي “تيم كوك”.

في نهاية سبتمبر/أيلول، وبحسب ما قاله تيم كوك في كتاب السيرة الذاتية الذي صدر بعنوان “أن تصبح ستيف جوبز” (Becoming steve job)، اتصل جوبز بكوك طالبا منه أن يأتي إلى منزله لمناقشة بعض الأمور. عندما ذهب كوك إلى منزل جوبز، وجده في حالة مستقرة على الرغم من شحوبه الشديد، وتناقشا قليلا حول بعض الأمور المُتعلِّقة بإدارة “أبل”.

ما أثار دهشة كوك هو عندما طلب منه ستيف جوبز أن يبقى معه لمشاهدة فيلم “تذكر العمالقة” (Remember the Titans)، وهو فيلم رياضي أُنتِج عام 2000، بطولة الممثل الأميركي الأسمر دينزل واشنطن، وتدور أحداثه حول فريق لكرة القدم في إحدى المدارس الثانوية. قال كوك إنه اندهش من رغبة جوبز في مشاهدة هذا الفيلم تحديدا، لأنه يعرف أن جوبز لم يكن مهتما برياضة كرة القدم خاصة، لكنه -جوبز- بدا مرتاحا وهو يشاهد الفيلم ويتبادل الحديث معه. (2، 3، 4)

أوه واو.. أوه واو

آخر صورة التُقِطت لجوبز في مراحل مرضه الأخيرة، برفقة أحد الممرضين يساعده على الوقوف
عادت منى سيمبسون لتستفيق من ذكرياتها، لتنظر إلى أخيها المُمدَّد على السرير الذي رآها فابتسم ابتسامة شاحبة كأنه يُحيِّيها على قدومها قبل أن يرحل هو. كانت الساعة هي الثانية بعد الظهر، ورأته يتبادل بعض العبارات مع زوجته، ثم يُعيد النظر عدة مرات إلى أبنائه الأربعة بنظرة طويلة شاردة، بينما التزم الأبناء جميعا الصمت.

بعد دقائق، ساعدته زوجته على رفع ظهره قليلا من السرير ليتحدَّث عبر الهاتف إلى بعض أصدقائه في شركة “أبل”، لم تستطع منى سيمبسون تحديد أسمائهم بالضبط. أنهى المكالمة، ثم بعد برهة من الوقت، بدا واضحا أن ستيف يغيب عن الوعي، وأن أنفاسه تتغيَّر تغيرا ملحوظا. بالنسبة لمنى، شعرت أنه يتقاتل مع أنفاسه.

تقول منى إنها شعرت في هذا الوقت بشعور شبيه بأنه يضع أغراضه في السيارة مُستعِدا للرحيل، إن ستيف جوبز يحتضر الآن أمام عينيها. ثم تنبَّهت وهي تتطلَّع إليه -وبحسب ما ذكرت في مقالها عبر النيويورك تايمز- أن أخاها يعمل على إنهاء معاناته بنفسه، كأنه يحضّ جسده على التسليم للموت والتعجيل به، أو كما عبَّرت في مقالتها بالقول: “الموت لم يحدث لستيف، بل هو الذي طلبه”.

في النهاية، هدأت أنفاسه وأعاد التطلُّع بنظرة خاوية إلى أبنائه الذين التفوا حوله، ثم نظر إلى ما وراء أكتافهم كأنه يرى شيئا ما، واتسعت عيناه:

“أوه واو (Oh Wow) (شهقة).. أوه واو.. أوه واو”.

قالها ثلاث مرات، ثم شخصت عيناه وهو يتطلَّع إلى النقطة نفسها وراء أكتاف المحيطين به، وقد تصلَّب وجهه النحيل، ليُغيِّب الموت إلى الأبد أسطورة التقنية عن عمر 56 عاما. (1، 5)

ما الذي تحاول أن تخبرنا به يا جوبز؟

بعد مرور أكثر من 10 سنوات على وفاته، وكلما جاء الحديث عن ستيف جوبز ومسيرته الريادية، لا بد أن تأتي الإشارة دائما إلى كلماته الأخيرة التي قالها على فراش الموت: “أوه.. واو”. ماذا كان يعني؟ هل رأى “شيئا ما” استدعى أن يقول هذه الكلمات التي تُعبِّر عن الدهشة والذهول في الثقافة الأميركية؟ هل كان هذا أمرا مُتعلِّقا به وبطريقة كلامه؟ هل كان يريد إيصال رسالة معينة إلى المحيطين به وهو يصارع الموت؟

في محاولتها لتفسير معنى هذه الكلمات، ألمحت شقيقته بأنها انعكاس لشخصية جوبز نفسه طوال عمره، وقدرته الدائمة على التعجُّب من أي شيء جديد يحدث. وفي كتابه “رمز الاختصار” (The Cheat Code)، ربط رائد الأعمال براين وونغ بين تلك اللفظة التي استخدمها جوبز في لحظة احتضاره وبين حالة الابتكار الدائمة التي كان يتبنَّاها في حياته، واعتياده الإنصات إلى الآخرين وإبداء الإعجاب ببعض الأفكار باستخدام هذه اللفظة. (1، 6)

ستيف جوبز

وفي إجابة عن سؤال “ما الذي كان يقصده ستيف جوبز بقول “أوه واو” في لحظة وفاته؟” في موقع “كورا” (Quora)، عقَّب أحد المُعلِّقين الذين تعاملوا مع حالات متأخرة لمرضى السرطان أنه على الرغم من استحالة الجزم بما يعنيه جوبز في هذه اللحظات، فإنها قد تحمل عدة دلالات تعبيرية، لا يستطيع التعبير عنها بكلمات أو جمل متكاملة، تشمل: (7)

أنا لا أستطيع التنفس، ولا أستطيع إخباركم أنني غير قادر على التنفس.
أنا في طريقي إلى مكان أفضل.
ما أمرّ به فظيع جدا.
لا أستطيع التصديق بأن هذا يحدث لي.
أنا أرى شيئا ما ولا أستطيع التعبير عنه.

على مدار سنوات طويلة، تدفَّقت التكهُّنات والآراء التي تحاول أن تُفسِّر ما كان يعنيه ستيف جوبز بكلماته الأخيرة، كلٌّ بحسب مرجعيته الفكرية أو الدينية، ومنهم مَن أكَّد أن ستيف جوبز كان يمر بتجربة الاقتراب من الموت (Near Death Experience) التي روى الكثيرون ممَّن خاضوها جزئيا تفاصيل حول أشياء مذهلة في اللحظات الأخيرة. لكن كل هذه الآراء تظل محض تكهُّنات وتدوينات فردية لأصحابها.

لم يقلها.. لكنها صالحة للاستخدام

عام 2015، وبعد مرور 4 سنوات تقريبا على وفاة جوبز، ظهر عبر الإنترنت منشور مؤثر نُسِب إليه في آخر حياته، وقيل إنه حوى وصيته الأخيرة. كُتب المنشور بلغة مؤثرة وعاطفية، ولاقى انتشارا واسعا وتُرجم إلى كل لغات العالم تقريبا، وتحوَّل إلى مادة مقروءة ومسموعة على وسائل التواصل الاجتماعي كافة.

يقول المنشور الذي نُشر بعناوين مختلفة مؤثرة مثل: “كلمات ستيف جوبز الأخيرة”، و”أين تجد كنزك؟”:

“لقد وصلتُ إلى قمة النجاح في الأعمال التجارية. في عيون الآخرين، حياتي كانت رمزا للنجاح، ومع ذلك، وبصرف النظر عن العمل، كان لدي وقت قليل للفرح. في هذا الوقت، وأنا مُمدَّد على سريري في المستشفى، أتذكر حياتي الطويلة، وأدرك أن جميع الجوائز والثروات التي كنت فخورا جدا بها أصبحت ضئيلة وغير ذات معنى مع اقتراب الموت الوشيك”.

بإمكانك أن توظِّف شخصا ما ليقود بك السيارة، أو يصنع لك المال، ولكنك لن تستطيع استئجار شخص ما يحمل عنك المرض الذي تعانيه. الإنسان يستطيع أن يجد الأشياء المادية، ولكن هناك شيء واحد فقط لن تستطيع أن تجده عندما تفقده، وهو الحياة. سعادتك الداخلية لا تأتي من الأمور المادية في هذا العالم، سواء كنت تسافر عبر الدرجة الأولى أو الدرجة الاقتصادية، إذا انهارت الطائرة، فسوف تنهار معها”.

وعلى الرغم من أن هذا المنشور مُنتحَل بالكامل على ستيف جوبز، ودقَّقت معظم الصحف الكبرى في مصداقيته مع الإجماع على أنه لم يقله، فإن الكثير من المشاهير، ومنهم الملياردير البريطاني الشهير السير ريتشارد برانسون، شاركوه على صفحات منصات التواصل الاجتماعي، في إشارة تعني أنه حتى لو لم يقلها جوبز، فإن المعنى الذي تحمله هذه الكلمات ينطبق على الواقع، وإن لم ينطق به لسان جوبز قطّ. (8)

في النهاية، دُفن ستيف جوبز بمراسم دفن محدودة في قبر بسيط غير لافت -بناء على طلبه- في مقابر ألتا ميسا التذكارية غير الطائفية التي دُفن فيها العديد من المشاهير، وأعلنت “أبل” أنها لن تُقيم جنازة عامة لجوبز بناء على طلبه واحتراما لخصوصية أسرته. ظل تحديد قبره مجهولا لعدة سنوات، حتى استطاعت صحيفة فوربس تحديد مكانه بالضبط في المقابر التذكارية بعد حصولها على شهادة وفاته.

في كتاب السيرة الذاتية لستيف جوبز الذي كتبه الصحفي المخضرم والتر أيزاكسون بعد عشرات المقابلات مع جوبز، فإن التنفيذي المرموق بدأ يتحدث أكثر عن تصوُّراته حول الإيمان والحياة الآخرة بعد إصابته بمرض السرطان.

الجزيرة

Exit mobile version