للأمر أسباب علمية.. لماذا نتفق جميعا على حب البيتزا؟

سودافاكس – أبسط الأسباب التي تدفعنا لطلب البيتزا حين نجتمع بالأصدقاء هو أنها الطبق المثالي للمشاركة، يمكن تقسيمها لقطع والاستمتاع بها بسهولة مع مَن نحب. هذه قيمة اجتماعية عظيمة لا شك، لكنها لا تكفي لتفسير هذه الشعبية الهائلة التي حقَّقتها البيتزا، في كل ثانية تُستَهلك 350 شريحة بيتزا حول العالم، وتُباع خمسة مليارات وحدة من البيتزا كل عام، ثلاثة مليارات منها في الولايات المتحدة وحدها. فلماذا لا نستطيع مقاومة النكهة الشهية لذلك الطبق القادم من نابولي الذي يجوب العالم متخذا في كل مكان طابعا مختلفا يناسب قاطنيه، فلا يبدو أبدا غريبا عنهم؟ (1) – (2)

القصة من البداية

يعود أول ظهور لكلمة “بيتزا” في وثائق مسجلة إلى عام 997 في إيطاليا، لكن هناك سجلات لأكلات مشابهة جدا من العصر الحجري الحديث (4500-9000 قبل الميلاد). نعم، لقد طبخ قدماء المصريين والرومان والإغريق خبزا مُتبَّلا بمكونات مختلفة، حتى إن الإغريق صنعوا خبزا مسطحا يُدعى “بلاكووس” كان يُتبَّل بالأعشاب والبصل والثوم.

لاحقا، صنع الإتروسكان (حضارة إيطالية قديمة قامت نحو 900 قبل الميلاد) خبزا مسطحا مغطى بالزيتون ومكونات أخرى. (3) فيما يعتبر البعض أن أصول البيتزا تعود إلى الإمبراطورية الفارسية، قبل الميلاد بنحو 500 عام، حيث كان الفرس يصنعون الخبز المسطح ويغطونه بالجبن والتمر، بينما أضاف الرومان الطماطم، أما في الشرق، كان الخبز المسطح يُقدَّم بالتوابل والزيوت وبذور السمسم. (4)

ورغم ذلك، كان على العالم أن ينتظر حتى أواخر القرن الثامن عشر لتظهر البيتزا كما نعرفها الآن في مدينة نابولي الإيطالية، التي كانت تتحوَّل بفعل نمو التجارة الخارجية إلى إحدى أكبر مدن أوروبا، ومع استمرار تدفُّق الفلاحين القادمين إليها من الريف، تضاعف عدد سكانها في أقل من نصف قرن.

طعام فقراء إيطاليا

ومع الهجرات المتزايدة، وقع عدد متزايد من سكان نابولي في دائرة الفقر؛ كان أغلبهم يعملون حمّالين أو عمالا، وكانوا بحاجة إلى طعام رخيص وسهل التناول يُقيم أودهم، فكانت البيتزا تُلبي هذه الحاجة، حيث كان الباعة الجائلون يجوبون بها الشوارع في صناديق ضخمة، بعدما يصنعونها بمكونات غير مكلفة. في ذلك الوقت، كانت وجبتك المفضلة أبسط وأقل شأنا من أن تُقدَّم لرواد المطاعم. (5)

كانت البيتزا تُغطى بالثوم وشحم الخنزير والملح، وربما صُنع بعض منها من الجبن أو الريحان، والطماطم أحيانا، وعرف الإيطاليون “بيتزا مارينيرا” التي تحتوي على حشوة من الطماطم والمردقوش البريّ والثوم وزيت الزيتون، وكانت تُعِدُّها زوجات البحارة لأزواجهن العائدين من الصيد في خليج نابولي. (6)

بحلول عام 1738، أُنشئ أول مطعم للبيتزا وسط مدينة نابولي، وكان أغلب زبائنه أشخاصا متواضعين أيضا، لذا فقد ظلَّت البيتزا لفترة طويلة ترتبط بالفقر المُدقع، وكان الزوار الأجانب يرون أنها “مثيرة للاشمئزاز”، حتى إن صموئيل مورس -مخترع التلغراف- وصفها عام 1831 بأنها من أكثر أنواع الكعك إثارة للغثيان، إذ تُغطى بشرائح الطماطم والسمك والفلفل الأسود، ومكونات أخرى غير معروفة، كما تجاهلتها كتب الطهي التي بدأت تظهر في أواخر القرن التاسع عشر. (7) – (8)

ثورة البيتزا

لكن صيف عام 1889 شهد حدثا غيَّر مسار البيتزا تماما، حين زارت ملكة إيطاليا مارجريت سافوي مدينة نابولي، وبدافع من الملل طلبت أن تأكل من طعام رعاياها، فكان أن ذهبت إلى مطعم بيتزا براندي، حيث ابتكر الشيف رافاييل إسبوزيتو عدة أنواع للبيتزا بينها واحدة مزينة بالطماطم وجبن الموزاريلا والريحان، التي اختار مكوناتها لتُمثِّل ألوان العلم الإيطالي، وقد استمتعت بها الملكة أكثر من غيرها، فصارت منذ ذلك اليوم “بيتزا مارجريتا” المعروفة.

تحوَّلت البيتزا منذ تلك الزيارة من طعام بسيط إلى طبق يمكن أن يتناوله أفراد العائلة المالكة، وصار يمكن النظر إلى البيتزا باعتبارها طبقا وطنيا مثل المعكرونة، لكنها ظلَّت طعاما إيطاليا لم يخرج من نابولي حتى ثلاثينيات القرن العشرين، حينما بدأ عدد من سكان المدينة في التحرُّك شمالا للبحث عن عمل، فتسارع انتشار البيتزا في أنحاء إيطاليا، وكانت تُقدَّم بمكونات جديدة ومختلفة، استجابة للأذواق المحلية، وربما كان هذا هو السبب الأول لانتشارها الواسع واتفاق الكثيرين على عشقها، وهكذا صار يمكن تقديمها بشكل أفضل وأسعار أعلى صار الزبائن على استعداد لدفعها. (9)

يكشف انتشار البيتزا الكثير عن تاريخ الهجرة والاقتصاد والتغير التكنولوجي، فمع استمرار هجرة الإيطاليين (هاجر ما يقرب من 26 مليون إيطالي بين عامَيْ 1850-1900) استقرَّت البيتزا في موطنها الثاني؛ أميركا. افتُتح أول مطعم بيتزا في مدينة نيويورك عام 1905، والتقطها أصحاب المطاعم الأميركيون سريعا فراحوا يُبدعون في صنعها بما يناسب الأذواق والهويات والاحتياجات المحلية في الولايات المختلفة.

منذ الخمسينيات، ومع تزايد الطلب على البيتزا من ناحية، والتغير الاقتصادي والتكنولوجي في الولايات المتحدة من جهة، حدث تحوُّل جذري في صنع البيتزا وتقديمها. أصبحت الثلاجات والمجمدات أكثر شيوعا، وتزايد الطلب على الأطعمة “الجاهزة”، مما أدَّى إلى تطوير البيتزا المجمدة. أُعِدَّت قاعدة بيتزا بحيث تُطهى في المنزل حسب الرغبة، ولذا كان لا بد من إجراء تغييرات على الوصفة، أن تُصنع من معجون الطماطم بدلا من نشر شرائح كبيرة من الطماطم، حتى لا يجف العجين أثناء الطهى، وكان لا بد من تطوير أجبان جديدة لتتحمَّل التجميد، وتكون متوفرة دائما في المطاعم لتلبية الطلب المتزايد عليها، التغير الآخر كان في بيع البيتزا، فمع توافر السيارات والدراجات النارية، صار بالإمكان توصيلها ساخنة إلى أبواب العملاء. (10)

لماذا يحبها الجميع؟

بخلاف ارتباطها بالتغيرات الاجتماعية وموجات الهجرة خلال القرنين الماضيين، هناك أسباب علمية إضافية تجعلنا نقع في حب البيتزا، فمن المعروف أن الأطعمة الدهنية والحلوة والمملحة عموما تجذبنا وتستثيرنا، والبيتزا تُقدِّم لنا مزيجا من كل هذه المكونات، الجبن الدهني وطبقة اللحم الغنية والصلصة الحلوة، وفقا للمتخصصين في الطهي فإن الجبن وصلصة الطماطم مكونات لذيذة بمفردها، لكن مزجهما معا مثالي لطعم شهي يأسرنا. من جانب آخر تمتلئ مكونات البيتزا، مثل الطماطم والجبن والنقانق، بمركب يُسمى الجلوتامات، وهو ناقل عصبي يُهيئ أدمغتنا لانتظار المزيد من الطعام، ما إن يستقر على ألسنتنا حتى يسيل لُعابنا في انتظار القضمة التالية.

هناك طعم جذاب آخر ينتج أثناء صنع البيتزا، تحديدا في عملية الكرملة التي تمر بها مكونات البيتزا حين تتعرَّض لدرجات حرارة عالية فيتحوَّل السكر إلى اللون البني، وينتج سائل طيب النكهة يتكوَّن من آلاف المركبات التي تجعلها أحد أكثر الأطعمة تعقيدا وغنى.

كذلك حين يتعرَّض اللحم والجبن إلى درجة حرارة عالية تحدث عملية مختلفة تُسمى “تفاعل ميلارد”، وهو يُشير إلى مكتشفه الكيميائي الفرنسي لويس كميل ميلارد، ويعني تفاعل الأحماض الأمينية الموجودة في الأطعمة الغنية بالبروتين (مثل الجبن والنقانق) مع السكريات الموجودة فيها بفعل التسخين، فتصبح النقانق مقرمشة ويذوب الجبن ويكتسب لونا أغمق ويمتلئ بالفقاعات، وتتكوَّن نكهات اصطناعية متعددة تكسب الطعام لذة إضافية. (11)

تأثير عقاقير الإدمان

تكشف دراسة أجراها باحثون بجامعة ميشيغان عام 2015 الأميركية سببا آخر لحبنا الجنوني للبيتزا؛ إنها تنتمي إلى قائمة الأطعمة المُسماة “الأكل الشبيه بالإدمان”، التي تضم أيضا الشوكولاتة والبطاطا المقلية والبرجر، وتتميز باحتوائها على جرعات كبيرة من الدهون المشبعة والكربوهيدرات التي يمتصها الجسم بسرعة كبيرة، فتُحدِث إشباعا فوريا، ويؤدي الاستهلاك العالي لمثل هذه الأطعمة إلى تغيرات سريعة في نظام الدوبامين المسؤول عن الإحساس بالمتعة، يماثل ما تفعله الأدوية. (12)

الدوبامين أيضا يُفسِّر عشقنا للجبن الموجود في البيتزا، ويُفسِّر ميل الكثيرين إلى إضافة مشتقات الألبان إلى عدد لا يحصى من الأطباق لتعزيز مذاقها. يحتوي الجبن على الكازين، وهو بروتين موجود في جميع منتجات الألبان، وكما تكشف دراسة نُشرت في مجلة هيئة السلامة الأوروبية، فعندما تهضم أجسامنا الجبن يُطلَق الكازومورفين، وهي مادة تُحفِّز مستقبلات المواد الأفيونية في الجسم، تعمل على السيطرة على الألم ومنحنا الشعور بالمكافأة، والرغبة في المزيد منها، ومن ثم إدمانها. (13)

نكهة سادسة تأسرنا

لطالما اعتقدنا أن الكربوهيدرات تتحلَّل بسرعة كبيرة ويتبقى منها فقط الطعم الحلو لجزيئات السكر التي تتكوَّن منها، لكن هذا لم يُفسِّر عشقنا للأطعمة النشوية، السكر ذو مذاق رائع على المدى القصير، لكن لماذا نكتفي بقطعة شوكولاتة بينما يمكننا تناول الكثير من الخبز مثلا؟ بحثت دراسة لباحثين من جامعة ولاية أوريغون هذه الفكرة من جديد، لتكشف سببا مختلفا لإقبالنا على تناول الكربوهيدرات.

تتبَّعت التجربة عددا من الأشخاص لقياس شعورهم بنكهة أصناف مختلفة تحتوي على الكربوهيدرات، وفي مرحلة لاحقة أُعطوا مُركَّبا يعمل على منع المستقبلات الموجودة في الألسنة التي تُميِّز المذاق الحلو، ومُركَّبا آخر يمنع الإنزيم الذي يكسر الكربوهيدرات، كان الأشخاص لا يزالون قادرين على تذوق النكهة النشوية ووصفها، مما دفع الباحثين لاستنتاج أن البشر قادرون على تذوق طعم الكربوهيدرات على وجه التحديد، بخلاف السكر. الإنزيمات الموجودة في لُعابنا تُقسِّم النشا إلى سلاسل أقصر وسكريات بسيطة، وافترض الكثيرون في السابق أننا نكتشف النشا عن طريق تذوق هذه الجزيئات الحلوة، لكن ما كشفت عنه الدراسة أننا نتمكَّن من تذوق طعم الكربوهيدرات قبل تكسيرها بالكامل إلى جزيئات سكر. (14)

يقول ليم -الباحث الرئيسي في الدراسة- إن هذا هو أول دليل على أنه يمكننا تذوق النشا نكهة بحد ذاتها، بجانب المذاقات التي نعرفها؛ المالح والحلو والحامض والمر، ومذاق اكتُشِف حديثا نسبيا (في القرن الماضي) يُطلق عليه اسم “أومامي”، يُضيف طعما لاذعا خفيفا إلى الأطعمة، وهو اكتشاف يضاف إلى الأدلة المتزايدة على أن الذوق البشري أكثر تعقيدا مما كان يعتقد. (15)

في عام 2015 وجد باحثون في الولايات المتحدة دليلا على أن للدهون أيضا مذاقها الخاص، وأنه إن بدا خفيفا فإنه يعمل على تعزيز شعورنا بمذاق النكهات الأخرى، واليوم تُجرى أبحاث عما إذا كان بإمكاننا تذوق الكالسيوم، ويعتقد العلماء أن اللسان يميز أكثر بكثير من المذاقات الخمسة التي يعتقد أغلبنا بوجودها. (16)

أخيرا، إذا كنت من المهتمين بتناول طعام صحي، ويؤلمك ميلك لتناول البيتزا بين الحين والآخر، فهناك دراسة حديثة أجرتها جامعة “باث” تحمل نبأ سارا. تكشف الدراسة أن أجسامنا تتكيَّف مع بعض التفريط في تناول الطعام المليء بالسعرات الحرارية الزائدة عن احتياجاتنا، وتتمكَّن من الحفاظ على العناصر الغذائية في مجرى الدم ضمن المعدل الطبيعي، فتحمينا من العواقب السلبية الفورية لفقدان السيطرة على التمثيل الغذائي، لكن هذا يحدث عندما نتناول مثل هذه الأطعمة بين الحين والآخر، وليس لفترات طويلة.

كشفت الدراسة أن لدينا قدرة على تناول ضِعْف كمية الطعام التي تحتاج إليها أجسامنا لنشعر بالشبع دون أن ترتفع مستويات السكر والدهون في الدم بالشكل الذي توقَّعه العلماء، في الحقيقة لم يكن الارتفاع أعلى بكثير مما يكون عليه عند تناول نصف هذا القَدْر من الطعام. (17)

عموما، لا تُحدِّد الإرشادات الغذائية توصية محددة بشأن البيتزا، لكنها تنصح عموما بتناول بيتزا مصنوعة من دقيق القمح الكامل مع عدم إضافة الجبن أو إضافة القليل جدا منه، دون نقانق ومع قليل من الملح لتكون خيارا صحيا، وإضافة مقدار جيد من الخضراوات لتكون غنية بالألياف الغذائية وتكون السعرات الحرارية بها أقل، بحيث تنخفض كمية الدهون والدهون المشبعة والملح، نعم، سيكون من الصعب تصور بيتزا دون جبن، لكن الحقيقة أنه حتى نهاية القرن التاسع عشر لم تكن معظم أطباق البيتزا تحتوي على الجبن من الأساس. (18)

المصدر : الجزيرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.