سودافاكس – لم يكن الإسلامُ وحضارته من جملة الأديان والثقافات المُنغلقة على نفسها، إذ طالما قامت أسسه على التوازن بين الدنيا والآخرة، ذلك التوازن الذي تجلى في كل مناحي هذه الحضارة. وكان لبدن الإنسان ولياقته حقها وفق تصور هذا الدين، حيث لم تكن الفتوحات الإسلامية الأولى التي امتدت من الصين إلى جنوب فرنسا خلال القرن الأول الهجري لتتم على هذا الوجه دون رجال أشداء، يتمتعون بقوة عضلية وبدنية تعينهم على تحمل المعارك، وتقلبات الطقس، واختلاف البيئات، والصبر على قطع المسافات الطويلة لأشهر عدة وربما سنوات.
وقد رأى الصحابة في النبي صلى الله عليه وسلم مثالا عمليا على هذه القوة البدنية والعضلية، فكان -كما يصفون- “عظيم القدر، عظيم المنكبين، ضخم العظام، عبل العضُدين والذراعين والأسافل، رحب الكفين والقدمين”، ولم يكن صلى الله عليه وسلم “بالمطهّم (أي فاحش السِّمنة)، ولا بالمكلْثَم (أي كثير اللحم)”[1]. وقد تجلت هذه القوة البدنية للنبي في كثير من عاداته اليومية، فيذكر أبو هريرة رضي الله عنه في وصف مشية النبي فيقول: “ما رأيتُ أحدا أسرع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنما تُطوى الأرض له، إنا نُجهدُ أنفسنا وهو غير مُكترث”[2].
ولا شك أن طبيعة النظام الغذائي والحياة اليومية قبل ألف وأربعمائة عام كانت تستلزم من الجميع ممارسة المشقة بكل أنواعها في الحل والترحال، وفي الاعتياش والارتزاق، وحتى في اللقاءات اليومية بين الأصحاب والأهل على الرغم من وجود الدواب واستخدامها، لذا نرى النبي يوصي أصحابه بتعلم العديد من الرياضات البدنية وممارستها، فيقول موصيا أصحابه: “عليكم بالنسَلان”[3]، أي الإسراع في المشي، يقولون: “فانتسلنا فوجدناه أخف علينا”، أي تحسّنت صحتنا البدنية بعد ممارسة عادة المشي والإسراع فيها.
إذا كان النبي هو أسوة المسلمين، وعلى سُنته قامت دعائم الحضارة الإسلامية، لا عجب إذن أن كانت الرياضة والألعاب البدنية برنامجا اعتياديا لجميع طبقات المجتمع.
ونحن نتتبع سيرة النبي سنراه وهو في عمر الأربعين قادرا على ارتقاء الجبال الصعاب والوديان والصخور في مكة، وحتى قبل مرضه الذي مات فيه كان قادرا على ركوب الخيل، والتسابق مع أم المؤمنين عائشة، وعلى رمي السهام، بل وحفر الخندق وهو في الخمسينيات من عُمره.
وإذا كان النبي هو أسوة المسلمين، وعلى سُنته قامت دعائم الحضارة الإسلامية، لا عجب إذن أن كانت الرياضة والألعاب البدنية برنامجا اعتياديا لجميع طبقات المجتمع، سواء في العادات اليومية لعموم الناس أو في أوقات الراحة والفسحة والابتعاد عن منغصّات الحياة، وكانت رياضة المصارعة أو المراوغة من جملة ما عرفه المسلمون منذ قدم الزمان.
النبي والصحابة ورياضة المصارعة
عَرَف العربُ قبل الإسلام رياضة المصارعة، وعَدُّوها من الرياضات المسلية التي تسابقوا فيها، ويخبرنا الدكتور “جواد علي” في كتابه “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” أنهم اعتبروا المصارعة رياضة وفخرا، فالقوي يصرع الضعيف؛ ولهذا كان المصارع الذي لا يُصرع يتباهى ويفخر بنفسه على غيره. ويقال للمصارعة: “المراوغة”؛ لما فيها من مراوغة الواحد منهما للآخر، للتغلب عليه[4]. والمصارعة في كلام العرب تعني الطرح في الأرض، فمن طرح صاحبه أرضا كان مصارعا قويا، والمطروح أرضا مهزوم.
ورغم اتساع جوانب الحضارة الإسلامية، وتعدد ملامحها الجديرة بالرصد، لم يجد عدد من كبار المؤلفين غضاضة في استثمار جهده لتوثيق ممارسة هذه الرياضة في زمان صدر الإسلام، وعلى رأسهم العلامة الكبير الحافظ “جلال الدين السيوطي المصري” (ت911هـ/1505م) الذي كتب رسالة ظريفة بعنوان “المسارعة إلى المصارعة”، سلّط فيها الأضواء على ظاهرة لعبة المصارعة في عصر النبوة والخلفاء الراشدين، وأشهر الشخصيات التي مارست هذه الرياضة، متكئا في ذلك على السنة النبوية الشريفة ومصادر الأخبار والتواريخ المبكرة.
يَلفت الإمام “السيوطي” انتباهنا إلى أن النبي مارس هذه الرياضة مع العديد من صحابته في مناسبات مختلفة، ففي سنن “أبي داود” و”الترمذي” أن أحد صحابة النبي، واسمه “ركانة”، صارع النبي؛ فصرعَه النبيُّ وانتصر عليه[5]. بل تؤكد بعض الروايات الأخرى أن انتصار النبي على ركانة في رياضة المصارعة كانت سببا في دخوله الإسلام.
فقد أخرج “البيهقي” من طريق “ابن إسحاق” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ”ركانة بن يزيد الهاشمي القرشي”: “أسلِمْ”. فقال: لو أعلمُ ما تقول حقّ لفعلتُه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ركانة من أشدّ الناس قوة: “أرأيتَ إن صرعتُك أتعلمُ أن ذلك حقّ؟”. قال: نعم. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصرعه. فقال له: عُدْ يا محمّد. فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخذه الثانية فصرعه على الأرض. فانطلق ركانة وهو يقول: هذا ساحر لم أرَ مثل سحر هذا قط، والله ما ملكتُ من نفسي شيئا حتى وضع جنبي إلى الأرض[6].
ولئن أسلم رُكانة القوي حين صرعه النبي، فإن مصارعا آخر من صناديد العرب في جاهليتهم تصارع مع النبي ولم يَنْقَدْ إلى الإيمان، وهو “أبو الأسد أُسيد بن كَلَدَة بن جُمَح الجمحي”، الذي بلغ من شدته فيما زعموا أنه كان يضع جلد البقرة تحت قدميه فيقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا ويبقى موضع قدمه. وقد دعا النبي إلى المصارعة وقال: إن صرعتني آمنتُ بك. فصرعه النبي مرارا، فلم يؤمن[7].
وقد اشتُهر العديد من الصحابة بممارسة المصارعة، كما عُرفوا بقوتهم ومهارتهم فيها، على رأسهم “عمر بن الخطاب” و”علي بن أبي طالب” رضي الله عنهما، فقد كان علي كما يخبرنا “ابن قتيبة” في كتابه “المعارف”: “قصيرا، أصلع، ضخم البطن، أفطس الأنف، دقيق الذّراعين، لم يصارع أحدا قطّ إلا صرعه، شديد الوثب، قويّ الضرب”[8].
وتذكر الرواية التاريخية أن ملك الروم بعث إلى “معاوية بن أبي سفيان” أثناء خلافته برجلين من جنوده يزعم أن الأول أقوى الروم والثاني أطول الروم قامة، وقال إن كان في جيشك من يفوقهما، هذا في قوته، وهذا في طوله، بعثتُ إليك من أسرى المسلمين كذا وكذا، وإن كان في جيشك من يُشبههما فهادِنِّي ثلاث سنوات، فدعا معاوية “محمدَ بن الحنفية”، وكان من أقوى جند المسلمين، وكان يُلقّب بـ”القوي محمد”، فجلس أمام الرومي وأعطاه يده، فأجهد بكل ما أوتي من قوة أن يزيله عن مكانه أو يحركه عنه، فلم يجد لذلك سبيلا، ثم أعطى الرومي يده لابن الحنفية، فما لبث أن أقامه سريعا ورفعه إلى الأعلى ثم أهوى به إلى الأرض، فسُرّ بذلك معاوية والمسلمون[9].
تحفيز وتشغيب
ولقد رأينا أن بعض الأمراء والولاة في التاريخ الإسلامي كانوا يحفزون الشباب على ممارسة رياضة المصارعة وغيرها، ويعطون على ممارستها أعظم الجوائز، ومنهم الأمير “معز الدولة أحمد بن بويه” (ت976م)، أول من أسس للدولة البويهية في العراق، وجعل الخلفاء العباسيين تابعين له، و”كان يُحْضِر المصارعين بين يديه في الميدان ويأذن للعوّام، فمن غلب خَلعَ عليه (أعطاه جائزة كبرى)”. كما يخبرنا العديد من المؤرخين المعاصرين لتلك الحقبة[10].
بل إن جماعات المهمشين في تاريخ المسلمين مارسوا رياضة المصارعة، إما بروح رياضية، وإما بسوء قصد ونية لإثبات قدرتهم، وترهيب خصمهم، وإشهار مقامهم بين الناس. واشتُهرت مصر في عصرها الفاطمي بوجود جماعات من المهمشين اتخذوا سُبل العُنف للاسترزاق، وكانوا يُسمَّون “الأحداث”، ويبدو أن كل منطقة من مناطق القاهرة ومصر، أي الفسطاط، كان لها فريقها المعروف من الأحداث، وكثيرا ما تصارعوا فيما بينهم على النفوذ والسيطرة وبسط الكلمة بين المناطق والأحياء.
فنجد عند “يحيى بن سعيد الأنطاكي” (ت458هـ/1066م) في تاريخه المسمى بـ”تاريخ الأنطاكي” أنه في جمادى الأولى 392هـ/مايو1002م “كان الرعايا والرّعاع يجتمعون في الأسواق فيتصارعون ويتدافعون ويتلاكمون، فاقتضى ذلك وقوع حرب شديدة بين أحداث مصر (الفسطاط) وأحداث القاهرة في يوم الخميس لستّ بقين من جمادى الأولى سنة 392″[11]. وقد تطورت هذه المصارعة والملاكمة بين الفريقين إلى حرب مسلحة في شوارع القاهرة، نجم عنها سقوط قتلى من الجانبين.
ولم تَخْلُ أي مدينة من مدن العالم الإسلامي آنذاك من مصارعيها، إذ تطوَّرت رياضة المصارعة بينهم إلى ما يشبه حرب العصابات، فقد عُرفت سمرقند في وسط آسيا بالمصارعين، وقد أخبرنا المؤرخ “ابن عربشاه” في تاريخه “عجائب المقدور في نوائب تيمور” أن السلطان المغولي الشهير “تيمورلنك” (ت808هـ/1407م) كان يخاف من عصابات الملاكمين والمصارعين هؤلاء: “كان في سمرقند طائفة من الدعار (الداعر هنا بمعنى المشاغب) كثيرون، وهم أنواع، فمنهم مصارعون ومنافقون وملاكمون ومعالجون… وكان تيمور مع أبهته يخافهم؛ لما كان يَظهر له من عنادهم وخلافهم، فكان إذا قصد جانبا أقام له في سمرقند نائبا، فإذا بعُد عن المدينة خرج من تلك الجماعة طائفة فخلعوا النائب أو خرجوا مع النائب وأظهروا المخالفة، فما يرجع تيمور إلا وقد انفرط نظامه”[12].
ثورة المصارعة في عصر المماليك
اتخذت رياضة المصارعة في عصر المماليك (1250-1517م) منحى آخر من التطور والتقدم، فقد أصبحت رياضة مستقلة يشجع عليها السلاطين والأمراء المماليك، ويُجزون عليها بالمال والعطايا، ولعل ذلك راجع إلى طبيعة تكوين الطبقة المملوكية ذاتها التي تربت منذ صغرها في ثُكنات عسكرية، وظل أبناؤها لسنوات طوال حتى تخرجهم في سلك الجندية في عصرَي الأيوبيين والمماليك يحافظون على تلك التقاليد العسكرية التي تعلموها، ومنها ممارسة الرياضات البدنية والعسكرية بجميع أشكالها، ومنها المصارعة.
وكان مما يدل على حب سلاطين المماليك وأمرائهم لرياضة المصارعة أن السلطان “المنصور سيف الدين قلاوون” (ت689هـ/1290م) في غير يوم الخدمة (اليوم الذي اجتمع فيه مع كبار رجالات الدولة من الأمراء والقُضاة وغيرهم) كان يوضع له كرسي في ساحة قلعة الجبل، ويخرج أهل كل طبقة من صغار المماليك من ثكناتهم، فيلعبون بالرمح، “ثم إذا فرغوا من ذلك يتصارعون إلى الظهر”[13]. أما حفيده السلطان “حاجي بن الناصر محمد بن المنصور قلاوون” (ت748هـ/1347م) فكان “يُحضر الأوباش يلعبون المصارعة بين يديه” لكونه مدمنا ومحبا لرياضة المصارعة، بل إنه شارك عامة الناس في هذه الرياضة بنفسه كما يخبرنا المؤرخ المقريزي، فكان “يلعب مع العوام، ويلبس تبان جلد (شورت قصير من الجلد)، ويتعرّى من ثيابه كلها ويصارعهم”[14].
كان من هوس السلطان حاجي بهذه الرياضة أنه أصدر منشورات عامة تسمح بممارسة الرياضات القتالية والبدنية، ومنها المصارعة، على الرغم من اعتراض الفقهاء وكثير من الناس على ذلك؛ لأنها أحيانا ما خرجت عن الحد، وسببت الأذى، وضيعت على الناس مصالحهم وفروضهم. وبعد توقف دام سنين أعاد السلطان حاجي سنة 748هـ/1348م “أربابَ الملاعيب من الصراع (المصارعة) والثقاف وجري السُّعاة (العدو) والنطاح بالكباش ومناقرة الديوك وغير ذلك… ونودي بإطلاق اللعب بذلك في القاهرة ومصر (الفسطاط)”[15].
في غضون ذلك، تلقب العديد من كبار أمراء المماليك بلقب “المصارع”؛ لاشتهارهم في هذه اللعبة، وتقدمهم فيها، منهم الأمير “جارس بن عبد الله القاسمي”، أحد مماليك السلطان الظاهر برقوق، وقد اشتُهر في مصنفات تاريخ المماليك بـ”جركس المصارع” (ت810هـ/1407م) الذي كان “رأسا في الصراع، انتهت إليه رئاسة هذا الفن شرقا وغربا في زمانه” كما يخبرنا “ابن تغري بردي” في “الدليل الشافي على المنهل الصافي”[16].
بلغ بعض هؤلاء المصارعين المماليك مرتبة “البهلوان”، وتعني في الفارسية والتركية البطل أو الشجاع، وهي أعلى درجات القوة والشهرة في رياضة المصارعة، منهم الأمير “قنصوه الأشرفي البهلوان” (ت856هـ/1452م)، الذي وصفه “البقاعي” في تاريخه بأنه “فرد زمانه في حُسن الشكل واعتدال القامة إلى الطول وقوة البدن ومعرفة الصراع”، ومثله الأمير “جكم الأشرفي”، أحد مماليك السلطان “الأشرف قايتباي”، الذي لُقب بالبهلوان لتقدمه في المصارعة، وكذلك الأمير “جانم البهلوان الجقمقي” (ت888هـ/1483م)، أحد مشاهير مصر المملوكية في المصارعة[17].
واللافت أن مصادر ذلك العصر تمدُّنا بأسماء من عامة المصريين والشاميين مارسوا المصارعة واشتُهروا فيها، بل إن بعضهم تخصص في الفقه وعلوم الشريعة مع ذلك، مثل “عبد الله بن أبي الفرج بن مرسي المصري” (ت844هـ) الذي رغم تفقهه كان من مشاهير المصارعين والعارفين بلعبة الرمح، حتى قال عنه بعض المؤرخين إنه ملَّ من الاستمرار على لعبة واحدة فتركها إلى غيرها قبل أن يتمهر فيها[18]. ومن أبناء حلب الذين اشتهروا في القرن التاسع الهجري/الخامس عشر الميلادي نجد المصارع “محمد بن علي بن عبد الرحمن الحلبي الطويل” المعروف بـ”ابن أمين الدولة” (ت851هـ/1447م) الذي كان ممارسا ومحترفا في المصارعة والرمي بالسهام[19].
وليس أدل على شغف الناس بهذه الرياضة في تلك العصور وحبهم لمتابعة أخبارها من تنافس بعض كبار الشعراء والنحويين في وصف مُصارع مليح في القاهرة اسمه “جمال الدين”، فقد قال الشيخ “أثير الدين بن أبي الجيعان الأندلسي” (ت745هـ/1344م): “كنتُ أنا والشيخ بهاء الدين (ابن النحاس النحوي المصري) نتمشى بالليل بين القصرين (بشارع المعز) بالقاهرة، فعبر علينا صبي يُدعى جمال الدين، وكان مصارعا، فقال الشيخ بهاء الدين: تعال ننظم في هذا المصارع. فنظمَ بهاء الدين قوله:
مُصارعٌ يصرعُ الآساد شَمرته *** تيهًا فكلّ مليح دونه هَمجُ
لما غدا راجحا في الحُسن قلتُ لهم *** عن حُسنه حدّثوا عنه ولا حرجُ[20]
المصدر (مواقع التواصل)
ظلت رياضة المصارعة مثار حديث واهتمام الخاصة والعامة، حتى بعد دخول العثمانيين مصر، فقد جلس ملك الأمراء والي مصر “خاير بك” بالمقعد السلطاني في قلعة الجبل سنة 925هـ/1519م، وحضر أمامه مصارعان، أحدهما يسمى “الشاطر أبو الغيث الزريكشي”، والآخر أعجمي، ووصفهما “ابن إياس الحنفي” (ت930هـ) في “بدائع الزهور” قائلا: “تصارع [الأعجمي الفارسي] مع الزريكشي، فغلب الزريكشي ورماه إلى الأرض، وركب فوقه وعصره في الأرض حتى كاد أن يموت، فانتصر عليه… فألبسَ ملك الأمراء العجمي قفطان حرير، ونزل من القلعة وقدامه طبلان وزمران وجماعة من (العساكر) العثمانية، فشقَّ القاهرة، وكان له يوم مشهود”[21].
نلحظ من وصف ابن إياس مدى الاهتمام والشغف الذي أولاه ملك الأمراء، وهو نائب السلطان العثماني في مصر، بهذه الرياضة، وما صار معتادا في الاحتفال بالمنتصر الذي شقّ القاهرة وأمامه الطبل والزمر، وهو يلبس قفطان حرير يشبه “الروب” الذي يلبسه المنتصرون في هذه الرياضات اليوم.
ما يَلفت النظر أيضا أن هذه الرياضة كان لها قيّمون عليها، أي خبراء وحكّام يحللون حركات المتسابقين، ويقفون موقف الحياد بين الخصوم في حلبات اللقاء والتصارع للحكم عليهم، واشتهر العديد من هؤلاء الحكّام حتى حفظت لنا مصادر التاريخ الإسلامي بعض أسمائهم وصفاتهم، منهم الحاج “محمد بن علي” المعروف بـ”الصفري” (ت732هـ/1331م)، وعرف عنه حسن الأخلاق، والالتزام بالفرائض، فكان “مواظبا على الصلوات في أوقاتها، وسماع الحديث”، وكان في الوقت ذاته “قيّم المصارعين والملاكمين بالديار المصرية”[22]. ومثله الشيخ “علي بن محمد المعروف” بـ”ابن الفلاتي” (ت870هـ/1465م) الذي كان “حكويًّا يجلس في الطرقات وعليه حلقة كعادة العوام”، وكان أيضا حكما للمصارعين.
ظلت المصارعة بين العديد من العلماء الكبار فنّا من فنون الترويح عن النفس، وصيانة للبدن من الآفات.
نلحظ أن رياضة المصارعة صار لها تنظيم مستقل من اللاعبين والقيّمين أو الحكام، بل ومشرفين على هذه الرياضة التي صار يُضارب بها ويُرتهنُ كالقمار، ويخبرنا العلامة “المقريزي” أن دولة المماليك فرضت على هذه الرياضات ضرائب سنوية، كان المشرف عليها ضامنا أو جابيا يُسمى “كمجتي”، و”له ضرائب مقررة على أرباب الملعوب من المناطحين بالكباش والمناقرين بالديوك وعلى المعالجين والمصارعين والملاكمين والمشابكين”[23]. ولا شك أن جباية الدولة المملوكية لهذه الضرائب السنوية يعني أنها انتقلت من طور الرياضات الفردية بغرض المتعة والترويح عن النفس إلى مأسسة هذه الرياضة، وأنها صارت في حد ذاتها من المشاريع المالية التي جذبت الأموال من المتابعين والمقامرين بها.
وبعيدا عن دولتَي المماليك والعثمانيين اللتين حرصتا على تشجيع فرسانهما وجنودهما على ممارسة هذه الرياضة، فإنها ظلت حتى بين العديد من العلماء الكبار فنّا من فنون الترويح عن النفس، وصيانة للبدن من الآفات، فقد اشتُهر الشيخ “محمد بن صالح بن ملوكة التونسي” (ت1860م)، وكان مفسرا فقيها صوفيا حاسبا عالما كبيرا من علماء جامع الزيتونة، بممارسته المصارعة والرماية في زاويته مع تلاميذه[24].
تلك باختصار شديد قصة رياضة المصارعة منذ عصر النبوة وحتى فاتحة العصر الحديث، أخذت فيها هذه الرياضة أشكالا من التطور والتقدم، وقد اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم سبيلا لإقناع الأقوياء المشككين بنبوته، وسرعان ما تحولت إلى وسيلة من وسائل التسلية، ثم مؤسسة مستقلة يشرف عليها قيمون وحكّام وإداريون وماليون، وهو لون طريف من ألوان البحث في تاريخ الإسلام.