غالبا ما نتحدث عن ردود الفعل الفسيولوجية لدى الوالدين، خاصة الأمهات عند التفاعل مع أطفالهن، ولكن غالبا ما يتم تجاهل الخطوة السابقة في شجرة العائلة إلى أن جاءت دراسة جديدة لملء هذه الثغرة بطريقة غير مألوفة من خلال التركيز على نشاط الدماغ الذي تظهره الجدات عندما يتعلق الأمر بأحفادهن.
وقالت مجلة لوبس (L’Obs) الفرنسية -التي استعرضت الدراسة- إن فريقا من قسم الأنثروبولوجيا في جامعة إيموري الأميركية بقيادة البروفيسور جيمس ريلينغ قام بدراسة بعد أن رأى أن “الجدات في العديد من المجتمعات يعتبرن من المعيلات المهمات، وغالبا ما يرتبط اهتمامهن برفاهية أكبر للأحفاد”، علما أن هذا الاهتمام لم يتم فحصه عبر نشاط الدماغ، ولذلك رأى الفريق أن تكون هذه هي الدراسة الأولى التي تأخذ الزاوية الفسيولوجية في الاعتبار.
جدات منخرطات في حياة أحفادهن
واستدعى ريلينغ وفريقه -حسب تقرير المجلة الذي أعده جان بول فريتز- 50 امرأة تحت سن 70، ويزيد متوسط أعمارهن قليلا على 59 عاما، ويظهر في اختيارهن التنوع العرقي والاجتماعي، ومعظمهن منخرطات بشكل كبير في حياة أحفادهن، خاصة أن 10 منهن يعشن مع أحفادهن، و3 يقدمن الرعاية لأحفادهن.
واختار الفريق أن يكون لكل واحدة من هؤلاء المتطوعات حفيد بيولوجي واحد على الأقل مع تجاهل التبني، فجمعوا 50 حفيدا -بينهم 23 من الإناث- تتراوح أعمارهم بين 3 و12 عاما، ومتوسط أعمارهم 7 سنوات، وطلبوا من المتطوعة إذا كان لديها أكثر من حفيد أن تختار الذي تشعر أنه الأقرب إليها عاطفيا.
الشعور العاطفي
طُلب من الجدات في البداية أن يجبن عن أسئلة لتحديد مدى انخراطهن في حياة أحفادهن المفضلين وارتباطهن العاطفي بهم، وبعد ذلك تم توصيل المتطوعات بآلة رنين مغناطيسية، وهي نظام معروف لقياس ما يحدث في مناطق مختلفة من الدماغ.
ثم قام المجربون بعرض صور أمامهن: صورة للحفيد، وثانية لطفل مجهول، وثالثة لأحد الوالدين من نفس جنس الحفيد، ورابعة لشخص بالغ مجهول، وذلك من أجل مقارنة ردود أفعال المتطوعات في كل حالة.
وأظهرت نتائج القياسات -حسب المجلة- أن معظم المشاركات يحدث لديهن نشاط أقوى في مناطق الدماغ المتعلقة بالجانب العاطفي والحركة عندما يشاهدن صورا لأحفادهن مقارنة بمشاهدتهن الصور الأخرى.
وبدا أن هذا النشاط يكون أقوى لدى الجدات اللائي حددن في استبيانهن أنهن يرغبن في المشاركة بشكل أكبر في رعاية أحفادهن، كما كان لديهن أيضا نشاط أكبر في مناطق الدماغ المرتبطة بالتعاطف المعرفي.
ويعلق جيمس ريلينغ قائلا إن “ما يبرز فورا من هذه البيانات هو النشاط في مناطق الدماغ المرتبطة بالشعور العاطفي، وهذا يشير إلى أن الجدات يملن إلى الشعور بما يشعر به أحفادهن عندما يتفاعلن معهم، فإذا ابتسم الحفيد يشعرن بفرحة الطفل، وإذا بكى يشعرن بألمه وضيقه”.
التعاطف المعرفي
وعلى العكس من ذلك، أظهرت الدراسة أن الجدات عندما يرين صورا لأطفالهن البالغين يظهرن في الأغلب نشاطا في منطقة الدماغ المرتبطة بالتعاطف المعرفي، وهذا يعني أنهن ربما يحاولن فكريا فهم ما يفكر فيه طفلهن البالغ أو يشعر به ولماذا، ولكن في شكل شعور عاطفي.
ويفسر ريلينغ ذلك بأن “الأطفال الصغار قد طوروا خصائص تسمح لهم بالتلاعب، ليس فقط بدماغ الأم، ولكن أيضا بمخ الجدة، في حين أن الطفل البالغ ليس لديه عامل اللطف الذي عند الصغار، وهو لذلك لا يثير نفس الاستجابة العاطفية”.
وحسب الدراسة، فإن هذه النتائج تسلط الضوء بشكل لا لبس فيه على العلاقة الرائعة بين الجدة والحفيد بطريقة تتجاوز العاطفة البحتة، كما تسلط الضوء أيضا على دور التطور في سلوكنا، خاصة في الطريقة التي يهتم بها البشر بأطفالهم كما في “فرضية الجدة” التي تشير إلى أن حياة المرأة طويلا بعد فترة الإنجاب قد تم اختيارها عن طريق التطور على وجه التحديد لأداء دورها في رعاية الأطفال.
كما تقول الدراسة -التي نشرتها المجلة المتخصصة “وقائع الجمعية الملكية بي B”- إن هناك بيانات كثيرة تثبت أن البشر من “المربين المتعاونين”، بحيث لا يقع عبء تربية الأطفال ورعايتهم على الأم وحدها، بل أيضا على أفراد آخرين كالآباء والأجداد.
ويشير ريلينغ وزملاؤه إلى أن “الجدات في العديد من المجتمعات يعتبرن من المتغيرات المهمة، وغالبا ما يرتبط استثمارهن بتحسين صحة الأحفاد ورفاهيتهم، إذ تحمل الجدات الرضّع ويغسلنهم ويطعمنهم ويراقبنهم ويواصلن هذا العمل وهم يكبرون”.
وتدعم مثل هذه النتائج الفرضية القائلة إن فوائد رعاية الجدات لأحفادهن “تم اختيارها لإطالة عمر المرأة عقودا بعد توقف دورها الإنجابي”، غير أن ريلينغ وزملاءه يدركون أن هذا ليس التفسير الوحيد لطول عمر النساء بعد الإنجاب.
ماذا عن الآباء؟
بعيدا عن مجتمعات الصيادين وجامعي الثمار في عصور ما قبل التاريخ، لا يزال البشر المعاصرون بحاجة ماسة إلى جداتهم، وقد أصبح بقاؤهن بينهم أطول وهن بصحة جيدة، إذ يتمتع الآن 92% من الأطفال البالغين من العمر 20 عاما في سويسرا مثلا بأجداد على قيد الحياة بعد أن كان 20% منهم فقط يتمتعون بذلك عام 1900.
ونظرا لأن “معدلات الخصوبة انخفضت في أجزاء كثيرة من العالم فإن الأطفال يتلقون اهتماما متزايدا من الأجداد، لأن هذا الاهتمام يتم توزيعه على عدد أقل من الأطفال”.
كما أنه في عالم تعمل فيه أعداد كبيرة من النساء ويكثر فيه الطلاق تصبح مساعدة الجدات أكثر ضرورة لعدد كبير من الأمهات اللاتي يعتنين بأطفالهن بمفردهن، حتى أن ريلينغ يقول “غالبا ما نفترض أن الآباء أهم مقدمي الرعاية بعد الأمهات، ولكن هذا ليس صحيحا دائما، ففي بعض الحالات تكون الجدات هن الراعيات الأساسيات”.
ومع أن ريلينغ وزملاءه يعترفون بأن الآباء بالإضافة إلى الجدات مهتمون برعاية الأطفال فإنهم لاحظوا من خلال مقارنة نتائج الجدات بنتائج عينة من الآباء تمت دراستها سابقا بأساليب مماثلة أن الجدات كن في المتوسط أكثر نشاطا من الآباء في المناطق المتعلقة بالشعور العاطفي والتحفيز.
يقول مينوو لي -وهو مشارك في الدراسة- “أشعر بأن هذا البحث يمثلني شخصيا لأنني قضيت الكثير من الوقت في التفاعل مع جدتي، وأتذكر دائما باعتزاز الأوقات التي قضيتها معها، لقد كانت دائما مرحبة وسعيدة برؤيتي، كطفل لم أفهم حقا السبب”، ولذلك فإن هذا الباحث يرى أن دراسة ما يجري وظيفيا في أدمغة الجدات “جانب مهم من التجربة الإنسانية تم تجاهله إلى حد كبير في مجال علم الأعصاب”.
المصدر : لوبس و الجزيرة