سودافاكسـ ما إن عادت خدمة الإنترنت في السودان بعد أن أوقفتها السلطات، الخميس 30 ديسمبر ثماني ساعات، حيث توقفت تحديداً قبل ساعة من انطلاق مسيرات “مليونية 30 ديسمبر” بعد الظهر مباشرة، حتى بدأ السودانيون يتبادلون في مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الصور والفيديوهات الصادمة التي تظهر انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، من عمليات تعذيب، وضرب مبرح، واعتقالات، واقتحام مستشفيات ومنازل، وإطلاق كثيف للرصاص الحي والقنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع وسط تجمعات المتظاهرين، ما أوقع أربعة قتلى وعشرات الجرحى بينهم إصابات حرجة وغير مستقرة. وظل السودانيون طيلة ليل الخميس- الجمعة في حال من الذهول لما أقدمت عليه القوة المشتركة من الجيش والشرطة والدعم السريع من أعمال عنف مفرط لم تشهده البلاد طيلة عهود الحكم العسكري، والتي كان آخرها نظام الرئيس السابق عمر البشير الذي امتد ثلاثة عقود، وتواصلت نداءات النشطاء والأطباء لانضمام الكوادر الطبية في المستشفيات القريبة من تجمعات المتظاهرين لتقديم الخدمات العلاجية للأعداد الكبيرة من المصابين التي وصفت بأنها تجاوزت كل التخيلات.
وكان سياسيون وقانونيون حذروا السلطات الأمنية في البلاد من ممارسة العنف المفرط ضد المتظاهرين في أعقاب إصدار رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان أمر طوارئ يمنح جهاز الاستخبارات سلطات وصلاحيات وحصانات، فضلاً عن اعتقال الأشخاص والتفتيش والرقابة على الممتلكات والمنشآت والحجز على الأموال، إلى جانب حظر أو تنظيم حركة الأشخاص.
لكن في ظل تواصل المسيرات الرافعة لشعارات إبعاد العسكر من المشهد السياسي وتسليم السلطة للمدنيين، واتجاه السلطات الأمنية لعمليات القمع المفرطة، كيف يرى المراقبون السيناريوهات المتوقعة في التعامل مع الوضع الراهن؟ مشهد معقد وقال النائب العام الأسبق في السودان عمر عبد العاطي، “أرى أن الموقف الراهن مغلق جداً، وأي شخص لا ينظر لما يحدث بقلق ويعتقد أن هناك حلولاً في الطريق، يكون قد بسّط الأمر أكثر من اللازم، فالوضع الحالي مختلف تماماً عما كان في العهود السابقة بخاصة العسكرية سواء أيام حكم الرئيس الأسبق ابراهيم عبود (1958 – 1964)، أو جعفر النميري (1969 – 1985)، أو المشير عبد الرحمن سوار الذهب (1985 – 1986)، فهؤلاء الذين على سدة الحكم بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان هم امتداد لحكم الرئيس السابق عمر البشير، إذ كانوا يشكلون لجنته الأمنية، ولديهم طموح وأجندة معلومة للجميع”.
وتابع عبد العاطي، “المشكلة أن الذين يقودون هذا الحراك من الشباب التابعين للجان المقاومة مشبعون بالحماسة الزائدة، لكنهم غير مدركين العملية السياسية لناحية كيفية تسليم هذه السلطة ولمن، لأنهم لا ينتظمون في كيان سياسي معروف، فضلاً عن عدم ظهور قيادة يلتفون حولها تعبر عن مواقفهم ومطالبهم، كما أن قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية السابقة للحكومة الانتقالية منقسمة على نفسها، بالتالي فإن الطرفين (لجان المقاومة، وقوى الحرية والتغيير) متمترسان في مواقفهما ما جعل الموقف في غاية الصعوبة والتعقيد، إذ لا توجد رؤية تقود لانفراج سياسي، وأصبح الطريق غير واضح المعالم، لكن لا بدّ أن تصل الأطراف السودانية إلى حل يبعد شبح الحرب الأهلية التي تتوافر حالياً كل أدواتها ووسائلها”.
ووصف النائب العام الأسبق، الشراسة التي ظهر بها المكون العسكري في مسيرات الخميس بأنها دليل على انهزامه، بالنظر إلى إغلاق الكباري والجسور بحاويات لمنع وصول المتظاهرين من مدينتي أم درمان والخرطوم بحري إلى القصر الرئاسي في الخرطوم، وكذلك الإفراط في استخدام الرصاص الحي والكمية الكبيرة من قنابل الغاز المسيل للدموع التي أطلقت على المتظاهرين، مبيناً أن الصورة أصبحت قاتمة، لكن، واضح أن العسكريين بدأوا في التراجع عن مواقفهم المتصلبة، ويبحثون الآن عن مخرج، وهذا يتطلب من الطرف الثاني أن يتوحد ويقوى، لأن ليس أمام المكون العسكري سوى الاستسلام أو الذهاب في مسار وأساليب النظام السابق نفسها. حكمة وتنازلات في السياق أيضاً، أشار مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية عبد الجليل الباشا، إلى أن التصرف الأرعن الذي مارسه العسكر لمواجهة المتظاهرين سيؤدي إلى مزيد من التصعيد في الشارع لرفض هذه الممارسات، فضلاً عن التشدد في مطالبه بإبعاد المكون العسكري من المسرح السياسي والتمسك بمحاسبته عن كل ما ارتكب من جرائم سابقة، مؤكداً هذه الوحشية في التعامل الذي أدى إلى سقوط قتلى وأعداد كبيرة من الجرحى لا يكسر إرادة الشعب السوداني بل يزيد من حماسته وصموده. أضاف الباشا، وفق صحيفة الاندبندت البريطانية “لكن في ظل كل ما حدث من تجاوزات عنيفة لا بد من رؤية سياسية وتحقيق إجماع أكبر لقوى الثورة السودانية من أجل استعادة الشرعية واستكمال عملية التحول الديمقراطي في البلاد من خلال تنفيذ ما جاء في الوثيقة الدستورية الموقعة بين المكونين المدني والعسكري في 17 أغسطس (آب) 2019.
وإن كنا نرى ما فيها من عيوب تحتاج للإصلاح الحقيقي، أعتقد أن الحكمة والعقلانية الآن مطلوبة في ظل هذه الأجواء الساخنة، ولا بد من التنازلات في المواقف، لكن إذا أصرّ المكون العسكري على استمراره في استخدام العنف لتركيع الشارع الثائر ضده غير آبه بما سيؤول إليه الوضع، فأعتقد أن الشارع لا خيار له غير المواجهة، وهو قادر على فرض إرادته مهما كلفه ذلك من ثمن دماء”.
ونوه مساعد رئيس حزب الأمة القومي السوداني للشؤون الولائية، إلى أن حزب الأمة الذي طرح في وقت سابق خريطة طريق لحل المشكلة السودانية، هو أحوج الآن للتواصل مع كل قوى ومنظمات المجتمع السوداني لخلق أرضية مشتركة وتوافق حول هذه الخريطة لإيجاد البديل السياسي الذي تحتاج له الثورة، مشيراً إلى أننا كنا نأمل بأن يوقف المكون العسكري عمليات العنف ويتعاطى سياسياً مع هذه الخريطة التي تشكل مخرجاً للبلد من هذه الحال المتأزمة، فإذا أصرّ هؤلاء العسكر على السير في طريق الانقلاب ومخرجاته، بالتأكيد أن الوضع سيتأزم أكثر وسيخلق مواجهة وتصاعداً مستمراً في الشارع، وسيكون رحيل العسكر عن السلطة مطلب أهل السودان. برنامج ديسمبر وتأتي “مليونية 30 ديسمبر”.
التي تعد الـ 13 منذ إعلان قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر (تشرين الأول) حال الطوارئ في البلاد وتعطيل الوثيقة الدستورية وفض الشراكة مع المدنيين بحجة تصحيح مسار الثورة السودانية، مواصلة لبرنامج التصعيد الثوري، الذي أعدته تنسيقيات لجان المقاومة وتجمع المهنيين السودانيين اللذان يقودان هذا الحراك احتجاجاً على قرارات البرهان الأخيرة، وما تلاها من الاتفاق الذي أبرمه الأخير مع رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، الذي عاد بموجبه لمنصبه رئيساً للوزراء شرط تشكيل حكومة جديدة من الكفاءات (التكنوقراط).
وتضمن البرنامج التصعيدي لشهر ديسمبر تنظيم خمس مسيرات بدأ أولها في السادس من ديسمبر، والثانية في 13 ديسمبر، والثالثة كانت في 19 ديسمبر، والرابعة في 25 ديسمبر، والخامسة الخميس، للتنديد في ما سماه الشارع السوداني بالانقلاب العسكري والمطالبة بإزالة المكون العسكري من الحكم وتسليم السلطة كاملة للمدنيين، فضلاً عن المطالبة بالقصاص لشهداء الثورة، إذ سقط حتى الآن منذ تفجر الأوضاع بعد قرارات البرهان الأخيرة 52 قتيلاً بحسب اللجنة المركزية لنقابة أطباء السودان. صلاحيات جديدة للأمن وكان أن سبق “مليونية” الخميس إصدار رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان أمر طوارئ يمنح جهاز الاستخبارات سلطات وصلاحيات وحصانات، فضلاً عن اعتقال الأشخاص والتفتيش والرقابة على الممتلكات والمنشآت والحجز على الأموال، إلى جانب حظر أو تنظيم حركة الأشخاص، كما اشتمل أمر الطوارئ عدم اتخاذ أي إجراءات في مواجهة أفراد القوات النظامية التي تتولى تنفيذ قانون الطوارئ وحماية السلامة العامة لسنة 1997 المعلن في أكتوبر 2021 وفق المرسوم الدستوري رقم 18، على أن تنتهي مدة صلاحية هذا الأمر بانتهاء حال الطوارئ المعلنة في البلاد حالياً.
ويأتي إعادة هذا الأمر من جديد بعد أن تم إلغاؤه عقب سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في أبريل 2019، حيث جرى آنذاك تجريد جهاز الاستخبارات العامة من سلطات الاعتقال والتوقيف، وتم النص في الوثيقة الدستورية التي وقعت بين المكونين العسكري والمدني في 17 أغسطس 2019 لإدارة شؤون الحكم في البلاد، على حصر صلاحياته في جمع المعلومات وتحليلها وتقديمها لجهات الاختصاص لتقوم باللازم. بداية الأزمة وتداعياتها ومنذ 25 أكتوبر الماضي، يشهد السودان احتجاجات واسعة في الخرطوم ومدن البلاد الرئيسة بلغت 13 مسيرة احتجاجية سقط خلالها 52 قتيلاً بحسب اللجنة المركزية لنقابة أطباء السودان. وفي 21 نوفمبر الماضي، وقع البرهان ورئيس الحكومة عبدالله حمدوك اتفاقاً سياسياً يتضمن عودة الأخير لمنصبه، وتشكيل حكومة كفاءات، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتعهد الطرفين بالعمل معاً لاستكمال المسار الديمقراطي. ورحبت دول ومنظمات إقليمية ودولية، بينها الأمم المتحدة، بهذا الاتفاق، بينما رفضته قوى سياسية ومدنية سودانية، معتبرة إياه “محاولة لشرعنة الانقلاب”. ورشحت أخبار باعتزام رئيس الوزراء تقديم استقالته، في ظل رفض القوى السياسية بخاصة المنضوية تحت مظلة قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السابقة للحكومة الانتقالية) التعاون معه، فضلاً عما وجده من صعوبات لتشكيل حكومته الجديدة بالنظر لتواصل موجة الاحتجاجات الشعبية الداعية لإبعاد العسكر من الحياة السياسية وتسليم السلطة كاملة للمدنيين، لكن جرت مساع محلية ودولية لثنيه عن الاستقالة، وتلقى حمدوك اتصالات هاتفية من عدد من الشخصيات الدولية والإقليمية تصب في هذا الإطار، ولا سيما من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والمبعوث الأميركي الخاص للقرن الأفريقي جيفري فيلتمان، ووزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود.