وجود عصابات «النقرز» هو حقيقة وليس خيالاً بحسب البيانات والبلاغات التي تدون في محاضر الأجهزة الأمنية والتي نشرت في وسائل الإعلام كأخبار للجريمة.. فالجريمة أصبحت متعددة الأوجه ومنظمة وعشوائية وفردية وبكل التصنيفات، ورغم أن الأجهزة الأمنية ترصدها وتراقبها وتعاقب بالقانون مرتكبيها خاصة وهي العين التي تبصر كل ما يجري بالولاية إن كانت تفلتات أو ألاعيب شبابية طائشة.. ويظل هو الصراع بين الخير والشر ولكن السؤال ماهية هذه العصابات من النقرز وخاطفي الحقائب من راكبي الدرجات النارية إلى النهابين والنشالين المنتشرين ما بين الحين والآخر.. عالم آخر يدار بواسطة زعماء متخصصين فى الجريمة لا ينهاهم العقاب عن الجريمة وتفاصيل أخرى كثيرة رواها لآخر لحظة التي جلست إلى أحد أوائل زعماء عصابة النقرز ليدلي لنا بحديثه وتجربته ويكشف تفاصيل دخوله عالم الجريمة وتكوين النقرز بالسودان ونيته التراجع عن أخطائها وتركه عالم الجريمة الذي لا يفيد.. كل هذه التفاصيل في السطور التالية:
العصابات الصغيرة والجرائم الكبيرة
عالم الجريمة يبدو غامضاً فى تفاصيله الكثيرة ومخيفاً في معالمه حيث يكون البقاء فيه للأقوى في صراع الحياة ولكن رغم ذلك الجريمة لا تفيد لأن ناموس الحياة يضع لها القوانين للحد منها وتنفيذ العقوبة.. الجريمة المنظمة هي التي تقلق بعكس الجريمة العادية اللحظية ذات الأثر المفاجيء حين حدوثها من سرقة أو مشاجرة أو ما شابه.. لكن الجريمة المنظمة تدار بواسطة عصابات لها مراكز قوى ودعم وحماية وتتمثل في الإتجار في الممنوعات والتهريب وكذلك الجريمة المنظمة التي أبتدعتها عصابة المافيا الشهيرة بفرض الإتاوات على التجار والمؤسسات ورجال الأعمال وأصحاب الأموال بغرض حمايتهم ولكن في الأصل هم يبتزونه.. وعلى هذا القياس ظهرت عصابات النقرز في السودان كمجموعة تنهب وتروع بأدواتها الحادة من أسلحة بيضاء هي السكاكين والسواطير والمطاوى بجانب العصي فتهجمت في البداية على المواطنين في المناطق الطرفية ثم بدأت في الهجوم على الأسواق الطرفية أيضاً بحكم طبيعة تلك المناطق والفضاءات التي توفر سهولة عملية الهروب هكذا دونت البلاغات في أقسام الشرطة.. هذه الحوادث التي أرقت سكان ولاية الخرطوم بمحلياتها السبع حيث توزعت هذه العصابات وبدأت في عملها الليلي وأحياناً نهاراً جهاراً في ضربات سريعة خاطفة واختفاء وسط الزحام بين الناس في الأسواق والأحياء.. وكلما قبضت الشرطة على بعضهم تكاثر البعض الآخر ونما من جديد في شكل خلايا عصابية أخرى.. تفاصيلهم يرويها لنا البوص الكبير فى هذا التحقيق الذي اشترط فيه عدم ذكر اسمه ولكنه وافق على سرد التفاصيل وهو الذي تاب عن قيادة هؤلاء النقرز.. كيف ذلك ولماذا جلسنا إليه ليحكي قصة عصابة الترويع النقرز..
تفاصيل حكاية «الملك»:
تبدو عليه آثار الراحة وعدم التعب وهو يتحدث إلى آخر لحظة برغبته ليحكي قصته عن تاريخه مع الإجرام وتوبته بعد أن أيقن أن الحياة يمكن أن تكون بدون سرقة ونهب وإجرام.. الحياة عركته كثيراً وهو يتقلب ما بين دوره كمحافظ على الأمن والسلام المجتمعي إلى شخص آخر غاضب وغير مسالم وضد ما كان يفعله.. جرفته لذة الحياة ومفاتنها ليكون راغباً في مزيد من الكسب السريع ولكنه لا يدوم فمن حيث أتى يذهب سريعاً في اللهو الحرام.. يقول وفي عينيه نظرة عميقة ويهو يجتر الذكريات.. علينا أن نخوض التجربة للأشياء لنعرف الخطأ من الصواب وجهة نظر يؤمن بها وقد نختلف معه ولكن على الأقل استفاد منها ورجع ليعيش حياته الطبيعية ويكون بمثابة ذاكرة وشاهد عيان لأحداث عاش تفاصيلها وشارك فيها وشكلت شخصيته في فترة من الزمن وإن تخلى عن تلك السيرة لكنها لم تنتهِ سيرة الإجرام.. بل هي في الحياة ماضية بقدر وجود الشر وصراعه مع الخير.. قال لنا بصوت واثق ومطمئن أنا عملت فترة في القوات النظامية وفي عام 2001م تم رفتي من الخدمة في قضية وتمت محاكمتي وسجني لمدة سنة وطردت من الخدمة وحينها قررت السفر والهجرة.. وفي عام 2002م بعد خروجي من السجن سافرت إلى مصر وحلمي أن أعبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوربا وقدمت أوراقي بالقاهرةإلى مكاتب اللاجئين وسكنت مع شباب سودانيين في منطقة شعبية في وسط القاهرة وبدأت اشتغل أعمالاً هامشية مثل بيع التمباك والعطور في سوق العتبة ولكنها كانت لا تغطي معنا المصاريف وعرفنا كيف نكسب لقمة العيش بعد أن تعرفنا على البلد مداخلها ومخارجها واتجهنا للعمل في المطار واستقبال الشباب السودانيين ونحن كنا ثلاثة أصحاب وكنت أعرفهم من السودان وابتدينا عملنا مع بعض في القاهرة ولكن الحياة ضاقت بنا من الإيجار واللبس والأكل والسهر.. ومن الفلس أحيانا نتناول وجبة واحدة ونحلق صلع حتى لا ينمو الشعر ونحلق مرة أخرى وكذلك حتى لا نخرج ونمكث في البيت وهكذا حياتنا في ظروف مصر الصعبة.. ولكي نعيش فكرنا في استغلال الشباب السودانيين القادمين إلى مصر بغرض التجارة وخداعهم وأحياناً نهبهم عنوة بعد أن نصطادهم من المطارات أو محطات البصات بحكم معرفتنا بالبلد وعدم معرفة البعض منهم وتم ضبطنا من قبل الشرطة المصرية عدة مرات ودخلنا السجون وأطلق سراحنا ولكن العمل أصبح بالنسبة لنا احترافياً أكثر ووجدناه وسيلة سهلة للكسب السريع ولكن كنا ننفق الفلوس في سهراتنا أيضاً بسرعة.. وأدمنا عمليات النصب والاحتيال والنهب وبعدها سمعنا بظهور عصابات أخرى سودانية في المعادي ومناطق الدقي وشبرا وتعرفنا بهم وقسمنا المناطق وأغلب عملنا في الليل حتى بداية الصباح.. وهذه كانت بدايتنا في الظهور كعصابات متخصصة في النهب والسرقة وترويع الناس.. وجاء الاسم «النقرز» وهو لقب للزنوج الأمريكان المهمشين.. واخترنا الاسم لأنه يعطينا هيبة.. وأمورنا في مصر ما مشت كويس ولم يتم منحنا أوراقاً للهجرة وضيق علينا في مصر بعد أحداث ميدان عابدين وقتل الكثيرين من السودانيين وفي تلك الفترة 2006م جاءتنا أخبار بأن فى السودان أيضاً ظهرت عصابات للنقرز على شاكلة العصابات التي أنشأناها في مصر وعرفت بأن أحد أصدقائي هو من أنشأها وكان معنا في مصر وجاء قبلنا إلى السودان.
ü النقرز في السودان
ويواصل البوص الكبير «الملك king» وهذا لقبه وسط العصابة في تفاصيل الحكاية وينقلنا إلى فترة عودته إلى السودان حيث قال: قررنا العودة للسودان وجئنا وفي نيتنا مواصلة عمل العصابة والتقيت بصديقي «س.م» والذي أصبح بوص كبير في منطقة الحاج يوسف وله عصابة تخصصت في نهب المواطنين وانضممت إليهم ورغم ذلك لم أنقطع عن أصدقائي بمصر وكنت اتصل به بالهاتف بالساعات الطويلة ونشرح لهم طرق التعامل الجديدة ونتبادل الخطط، وفي عام 2008 جاء أحد أصدقائي من مصر وانضم إلينا في السودان ونفذنا جرائم سرقات وسطو ونهب كثيرة على فترات متفاوفة وكنا نقتحم المنازل ونعتدي على أصحابها بالضرب ونحمل أسلحة نارية للترويع والتخويف وظهرت معنا مجموعة أخرى فى الولاية وطاردتنا الشرطة وقبضت على بعض منا وكتبت عننا الصحافة وكنا نقرأ ونتابع ما يكتب عنا وأصبحنا نتحرك بعربات خاصة نؤجرها أحياناً ومن ثم أصبحت لنا حافلات، وزاد عددنا وأصبحت أنا البوص الكبير أو الملك لمجموع 30 فرداً، واثنان من أصدقائي الذين كانوا معي في مصر مسؤولان عن مجموعتين في الولاية، وكنا نتحرك في الأطراف وندخل وسط الخرطوم لنبيع المسروقات لتجار معينين وحددنا مناطق العمل بيننا وكان لدينا قانون رادع جداً لأفراد العصابة للذين يتخاذلون ويفشون الأسرار ويتعاملون مع الشرطة كشهود علينا، وكان هذا القانون بمثابة ميثاق شرف، وكنت مهاباً جداً وسط أفراد العصابة لأنني لا أرحم وعقابي فوري بتعذيبهم أو سجنهم أو تسليمهم للشرطة وأهديت إلى العصابة لبساً معيناً هو موضة وفي نفس اللحظة زي خاص بالنقرز وهي فنايل سوداء عليها الرقم 50 وكذلك البناطلين الناصلة أو السيستم والأسوار والسلاسل والخواتم والشعر المفلفل كإشارة إلى التمرد والتميز، وفي ذات الوقت هي كانت موضة وبهذا كنا وسط الناس.. عملنا كل هذه الفترة وجمعنا أموالاً كثيرة عن طريق التهديد والترهيب والنهب وفرض الإتاوات على بعض التجار وكنا نلتقي كزعماء عصابات ونتحدث عن الأعمال التي بيننا وكانت طموحاتنا أن نتمدد إلى أرجاء ولاية الخرطوم، بل الولايات الأخرى خاصة الحدودية للتهريب.. وبالنسبة إلى عمليات النهب الصغيرة كانت للترويع وإشاعة الخوف بأننا حقيقة وموجودون ونعمل.. ونجحت فكرة تخويف الناس وترسيخ أن هنالك عصابات لابد من الحذر منها وتم تنسيق ما بيننا نحن الزعماء في أم درمان والخرطوم والخرطوم بحري.
ü نية التوبة والعودة إلى المجتمع
ويختم البوص الكبير والملك حديثه بأن الآن لديه النية الكاملة في ترك كل هذا العمل الإجرامي ليصبح مواطناً عادياً يمارس حياته ولا يعود إلى عالم الجريمة الذي تبحر فيه.. ويصمت وفي عينيه الكثير من الغموض والحكايات التي لم تروَ بعد.. كيف ذلك.. ما زلنا في انتظار بوحه الكثير في جلسة أخرى مع آخر لحظة..!!
صحيفة المجهر