جعفر عباس : نرمي غيرنا بدائنا (1)

سودافاكس ـ أعتقد‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الشعوب‭ ‬المنتجة‭ ‬لنظريات‭ ‬المؤامرة،‭ ‬وقد‭ ‬يتأخر‭ ‬هطول‭ ‬الأمطار‭ ‬في‭ ‬الموسم‭ ‬المعتاد‭ ‬فيظهر‭ ‬بيننا‭ ‬من‭ ‬يزعم‭ ‬أن‭ ‬أمريكا‭ ‬تلاعبت‭ ‬بجينات‭ ‬السحاب‭ ‬الخاص‭ ‬بمنطقتنا‭ ‬حتى‭ ‬أصبح‭ ‬عقيما‭ ‬لا‭ ‬ينتج‭ ‬مطرا،‭ ‬وقبل‭ ‬أيام‭ ‬قامت‭ ‬روسيا‭ ‬بغزو‭ ‬أوكرانيا‭ ‬فوجدها‭ ‬بعضنا‭ ‬مناسبة‭ ‬للتشفي‭ ‬و«فشة‭ ‬الخلق‮»‬‭: ‬إسرائيل‭ ‬غزت‭ ‬فلسطين‭ ‬ومازالت‭ ‬تواصل‭ ‬غزو‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬وغزة‭ ‬ولم‭ ‬نسمع‭ ‬أن‭ ‬حلف‭ ‬الأطلسي‭ ‬استنكر‭ ‬ذلك‭ ‬وهدد‭ ‬بالتدخل‭ ‬أو‭ ‬قدم‭ ‬أسلحة‭ ‬للفلسطينيين‭ ‬لرد‭ ‬العدوان‭!! ‬وسكوت‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬غزو‭ ‬فلسطين‭ ‬أمر‭ ‬مستهجن‭ ‬وخطأ،‭ ‬ولكن‭ ‬الخطأ‭ ‬لا‭ ‬يُبرر‭ ‬بخطأ‭ ‬أفدح،‭ ‬أي‭ ‬ان‭ ‬انتزاع‭ ‬الصهاينة‭ ‬لفلسطين‭ ‬من‭ ‬أهلها‭ ‬لا‭ ‬يبرر‭ ‬انتزاع‭ ‬الروس‭ ‬لأوكرانيا‭ ‬من‭ ‬أهلها‭.‬

 

وأذكر‭ ‬جيدا‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬راديو‭ ‬السيارة‭ ‬عند‭ ‬محطة‭ ‬عربية‭ ‬ويلقلق‭ ‬كالعادة‭ ‬في‭ ‬الفاضي‭ ‬والفاضي‭ ‬جدا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تلتقط‭ ‬أذنيّ‭ ‬جملة‭ ‬مفيدة،‭ ‬وفجأة‭ ‬سمعت‭ ‬شخصا‭ ‬يتكلم‭ ‬عن‭ ‬مؤامرة‭ ‬تتعرض‭ ‬لها‭ ‬اللغة‭ ‬العربية،‭ ‬وفهمت‭ ‬أن‭ ‬المتحدث‭ ‬عضو‭ ‬مجمع‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬القاهرة،‭ ‬فوضعت‭ ‬حواسي‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬تأهب‭ ‬قصوى،‭ ‬لأعرف‭ ‬نوع‭ ‬المؤامرة‭ ‬وتحديد‭ ‬الطرف‭ ‬المتآمر‭ ‬حتى‭ ‬أشارك‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬التصدي‭ ‬له،‭ ‬فالدفاع‭ ‬عن‭ ‬اللغة‭ ‬واجب‭ ‬أخلاقي‭ ‬وثقافي،‭ ‬فإذا‭ ‬به‭ ‬يقول‭ ‬كلاما‭ ‬معمما‭: ‬أعداء‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬يريدون‭ ‬القضاء‭ ‬عليها‭.. ‬ضربت‭ ‬الراديو‭ ‬بباطن‭ ‬الكف‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬من‭ ‬ذوي‭ ‬الاحتياجات‭ ‬الخاصة،‭ ‬أي‭ ‬عاجزا‭ ‬عن‭ ‬الكلام‭.. ‬وفكرت‭: ‬من‭ ‬يكون‭ ‬أعداء‭ ‬لغتنا‭ ‬يا‭ ‬ترى؟‭ ‬الأمريكان‭ ‬أم‭ ‬الشيشان‭ ‬أم‭ ‬طالبان‭ ‬أم‭ ‬أهل‭ ‬أم‭ ‬درمان؟‭ ‬ثم‭ ‬ما‭ ‬مصلحة‭ ‬أي‭ ‬جهة‭ ‬في‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬العربية؟‭ ‬وكيف‭ ‬يكون‭ ‬ذلك‭ ‬ومنظمة‭ ‬اليونسكو‭ ‬تبذل‭ ‬الملايين‭ ‬لمنع‭ ‬لغات‭ ‬محدودة‭ ‬الانتشار‭ ‬من‭ ‬الفناء‭ ‬واللغة‭ ‬العربية‭ ‬معتمدة‭ ‬رسميا‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المنظمات‭ ‬والمحافل‭ ‬الدولية‭.‬

 

قضيت‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ربع‭ ‬قرن‭ ‬وصنعتي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬الأخبار‭ ‬والأحوال‭ ‬الدولية‮»‬،‭ ‬واستوجب‭ ‬ذلك‭ ‬متابعة‭ ‬ورصد‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأمور‭ ‬التي‭ ‬تمور‭ ‬بها‭ ‬الساحة‭ ‬الدولية،‭ ‬ولم‭ ‬أسمع‭ ‬طوال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬تزعم‭ ‬ان‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬ملغومة‭ ‬أو‭ ‬مفخخة‭ ‬أو‭ ‬أنها‭ ‬تشكل‭ ‬خطرا‭ ‬على‭ ‬السلام‭ ‬الإقليمي‭ ‬أو‭ ‬الدولي‭ ‬وبالتالي‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬من‭ ‬قصفها‭ ‬بالقنابل‭ ‬الذكية‭ ‬أو‭ ‬فرض‭ ‬حصار‭ ‬اقتصادي‭ ‬عليها‭! ‬بل‭ ‬لا‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬ما‭ ‬تعرضت‭ ‬لمؤامرة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬طرف‭. ‬طيب،‭ ‬من‭ ‬أين‭ ‬أتى‭ ‬جماعة‭ ‬المجمع‭ ‬اللغوي‭ ‬بهذا‭ ‬اللغو‭ ‬عن‭ ‬تعرض‭ ‬لساننا‭ ‬لمؤامرة‭ ‬وعدوان؟‭ ‬طبعا‭ ‬كلما‭ ‬ألمت‭ ‬بنا‭ ‬مصيبة‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬أيدينا،‭ ‬جعلنا‭ ‬من‭ ‬أمريكا‭ ‬وإسرائيل‭ ‬حائطا‭ ‬قصيرا،‭ ‬ونحملهما‭ ‬مسؤولية‭ ‬المصيبة‭. ‬تتداخل‭ ‬أنابيب‭ ‬المجاري‭ ‬مع‭ ‬أنابيب‭ ‬المياه‭ ‬ويشرب‭ ‬الناس‭ ‬نتاج‭ ‬مثاناتهم‭ ‬وكل‭ ‬هذا‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬رأس‭ ‬إسرائيل،‭ ‬‮«‬فلولا‭ ‬أن‭ ‬حكومتكم‭ ‬الرشيدة‭ ‬تعد‭ ‬العدة‭ ‬للقضاء‭ ‬على‭ ‬العدو‭ ‬الصهيوني‭ ‬وتحرير‭ ‬كامل‭ ‬التراب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لتوافرت‭ ‬لديها‭ ‬الموارد‭ ‬لحل‭ ‬مشكلة‭ ‬مياه‭ ‬الشرب‭ ‬والصرف‭ ‬الصحي‮»‬‭.. ‬وتتحول‭ ‬فضلات‭ ‬المجاري‭ ‬إلى‭ ‬تسونامي‭ ‬يقتل‭ ‬ويشرد‭ ‬الآلاف‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬بانتظام،‭ ‬‮«‬ولا‭ ‬صوت‭ ‬يعلو‭ ‬فوق‭ ‬صوت‭ ‬المعركة‮»‬‭! ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬مؤجل‭ ‬إلى‭ ‬حين‭ ‬القضاء‭ ‬على‭ ‬إسرائيل‭: ‬التنمية‭ ‬والحريات‭ ‬والبطيخ‭ ‬الأزرق،‭ ‬و«عيش‭ ‬يا‭ ‬حمار‭ ‬على‭ ‬بال‭ ‬ما‭ ‬الجماعة‭ ‬يعثرون‭ ‬على‭ ‬البيف‭ ‬باف‭ ‬المناسب‭!‬‮»‬‭.‬

 

هل‭ ‬أرغمتنا‭ ‬واشنطن‭ ‬أو‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭ ‬على‭ ‬ان‭ ‬نحيي‭ ‬ونودع‭ ‬بعضنا‭ ‬البعض‭ ‬بـ«باي‭ ‬وهاي‮»‬؟‭ ‬نخرب‭ ‬بيوتنا‭ ‬بأيدينا‭ ‬ثم‭ ‬نسعى‭ ‬لـ«تلبيس‮»‬‭ ‬التهمة‭ ‬لعدو‭ ‬مزعوم‭ ‬نشتمه‭ ‬جهرا‭ ‬ونبوس‭ ‬رجليه‭ ‬سرا‭.. ‬وإسرائيل‭ ‬اللي‭ ‬فيها‭ ‬يكفيها،‭ ‬فكاهلها‭ ‬مثقل‭ ‬بجرائم‭ ‬ارتكبتها‭ ‬بعرق‭ ‬جبينها،‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬الإنصاف‭ ‬أن‭ ‬نحملها‭ ‬تبعات‭ ‬قصورنا‭ ‬وقعودنا‭ ‬وخيبتنا،‭ ‬وأجد‭ ‬نفسي‭ ‬مضطرا‭ ‬الى‭ ‬تبرئتها‭ ‬من‭ ‬شبهة‭ ‬تدهور‭ ‬مستوى‭ ‬التعليم‭ ‬عندنا،‭ ‬وتسابقنا‭ ‬على‭ ‬التباهي‭ ‬بحصيلتنا‭ ‬من‭ ‬اللغات‭ ‬الأجنبية‭. ‬والله‭ ‬العظيم‭ ‬قرأت‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬لافتة‭ ‬تقول‭: ‬هؤلاء‭ ‬الكتب‭ ‬عليها‭ ‬خصومات‭. ‬دعك‭ ‬من‭ ‬‮«‬هؤلاء‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬يزعم‭ ‬صاحب‭ ‬المكتبة‭ ‬ان‭ ‬الكتب‭ ‬‮«‬كائنات‭ ‬حية‮»‬،‭ ‬وقل‭ ‬لي‭ ‬بربك‭ ‬من‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬‮«‬تخاصموا‮»‬‭ ‬على‭ ‬الكتب‭! ‬وهناك‭ ‬عبارة‭ ‬تناولتها‭ ‬في‭ ‬مقالاتي‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عشرين‭ ‬مرة‭ ‬عن‭ ‬محل‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الخرطوم‭ ‬اسمه‭ ‬‮«‬ثلاجة‭ ‬البشرية‮»‬،‭ ‬وعلى‭ ‬صندوق‭ ‬ضخم‭ ‬كتبت‭ ‬عبارة‭ ‬‮«‬هوناء‭ ‬يباع‭ ‬الثلج‭ ‬البارد‮»‬‭.. ‬دعنا‭ ‬من‭ ‬‮«‬هوناء‮»‬‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬‮«‬هنا‮»‬،‭ ‬أفلا‭ ‬يوحي‭ ‬لك‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬ثلاجة‭ ‬البشرية‮»‬‭ ‬بأن‭ ‬المحل‭ ‬‮«‬مشرحة‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬كون‭ ‬الثلج‭ ‬الذي‭ ‬فيها‭ ‬باردا‭ ‬إشارة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬ثلجا‭ ‬ساخنا‭ ‬يغلي‭.. ‬أليس‭ ‬المتآمر‭ ‬على‭ ‬العربية‭ ‬هو‭ ‬صاحب‭ ‬المحل؟‭ ‬وهو‭ ‬بالمناسبة‭ ‬ليس‭ ‬إسرائيليا‭ ‬أو‭ ‬مسؤولا‭ ‬أمريكيا؟

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.