سودافاكس ـ أعتقد أننا في طليعة الشعوب المنتجة لنظريات المؤامرة، وقد يتأخر هطول الأمطار في الموسم المعتاد فيظهر بيننا من يزعم أن أمريكا تلاعبت بجينات السحاب الخاص بمنطقتنا حتى أصبح عقيما لا ينتج مطرا، وقبل أيام قامت روسيا بغزو أوكرانيا فوجدها بعضنا مناسبة للتشفي و«فشة الخلق»: إسرائيل غزت فلسطين ومازالت تواصل غزو الضفة الغربية وغزة ولم نسمع أن حلف الأطلسي استنكر ذلك وهدد بالتدخل أو قدم أسلحة للفلسطينيين لرد العدوان!! وسكوت الغرب على غزو فلسطين أمر مستهجن وخطأ، ولكن الخطأ لا يُبرر بخطأ أفدح، أي ان انتزاع الصهاينة لفلسطين من أهلها لا يبرر انتزاع الروس لأوكرانيا من أهلها.
وأذكر جيدا ذلك اليوم عندما كان راديو السيارة عند محطة عربية ويلقلق كالعادة في الفاضي والفاضي جدا من دون أن تلتقط أذنيّ جملة مفيدة، وفجأة سمعت شخصا يتكلم عن مؤامرة تتعرض لها اللغة العربية، وفهمت أن المتحدث عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، فوضعت حواسي في حالة تأهب قصوى، لأعرف نوع المؤامرة وتحديد الطرف المتآمر حتى أشارك في عملية التصدي له، فالدفاع عن اللغة واجب أخلاقي وثقافي، فإذا به يقول كلاما معمما: أعداء اللغة العربية يريدون القضاء عليها.. ضربت الراديو بباطن الكف حتى صار من ذوي الاحتياجات الخاصة، أي عاجزا عن الكلام.. وفكرت: من يكون أعداء لغتنا يا ترى؟ الأمريكان أم الشيشان أم طالبان أم أهل أم درمان؟ ثم ما مصلحة أي جهة في القضاء على اللغة العربية؟ وكيف يكون ذلك ومنظمة اليونسكو تبذل الملايين لمنع لغات محدودة الانتشار من الفناء واللغة العربية معتمدة رسميا في كل المنظمات والمحافل الدولية.
قضيت أكثر من ربع قرن وصنعتي هي «الأخبار والأحوال الدولية»، واستوجب ذلك متابعة ورصد الكثير من الأمور التي تمور بها الساحة الدولية، ولم أسمع طوال تلك الفترة جهة ما تزعم ان اللغة العربية ملغومة أو مفخخة أو أنها تشكل خطرا على السلام الإقليمي أو الدولي وبالتالي لا بد من قصفها بالقنابل الذكية أو فرض حصار اقتصادي عليها! بل لا أعرف أن لغة ما تعرضت لمؤامرة من أي طرف. طيب، من أين أتى جماعة المجمع اللغوي بهذا اللغو عن تعرض لساننا لمؤامرة وعدوان؟ طبعا كلما ألمت بنا مصيبة من صنع أيدينا، جعلنا من أمريكا وإسرائيل حائطا قصيرا، ونحملهما مسؤولية المصيبة. تتداخل أنابيب المجاري مع أنابيب المياه ويشرب الناس نتاج مثاناتهم وكل هذا من تحت رأس إسرائيل، «فلولا أن حكومتكم الرشيدة تعد العدة للقضاء على العدو الصهيوني وتحرير كامل التراب الفلسطيني لتوافرت لديها الموارد لحل مشكلة مياه الشرب والصرف الصحي».. وتتحول فضلات المجاري إلى تسونامي يقتل ويشرد الآلاف في فلسطين كما يحدث بانتظام، «ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة»! كل شيء مؤجل إلى حين القضاء على إسرائيل: التنمية والحريات والبطيخ الأزرق، و«عيش يا حمار على بال ما الجماعة يعثرون على البيف باف المناسب!».
هل أرغمتنا واشنطن أو تل أبيب على ان نحيي ونودع بعضنا البعض بـ«باي وهاي»؟ نخرب بيوتنا بأيدينا ثم نسعى لـ«تلبيس» التهمة لعدو مزعوم نشتمه جهرا ونبوس رجليه سرا.. وإسرائيل اللي فيها يكفيها، فكاهلها مثقل بجرائم ارتكبتها بعرق جبينها، وليس من الإنصاف أن نحملها تبعات قصورنا وقعودنا وخيبتنا، وأجد نفسي مضطرا الى تبرئتها من شبهة تدهور مستوى التعليم عندنا، وتسابقنا على التباهي بحصيلتنا من اللغات الأجنبية. والله العظيم قرأت في مكتبة لافتة تقول: هؤلاء الكتب عليها خصومات. دعك من «هؤلاء»، فقد يزعم صاحب المكتبة ان الكتب «كائنات حية»، وقل لي بربك من هم الذين «تخاصموا» على الكتب! وهناك عبارة تناولتها في مقالاتي أكثر من عشرين مرة عن محل في مدينة الخرطوم اسمه «ثلاجة البشرية»، وعلى صندوق ضخم كتبت عبارة «هوناء يباع الثلج البارد».. دعنا من «هوناء» التي هي «هنا»، أفلا يوحي لك وجود «ثلاجة البشرية» بأن المحل «مشرحة»، كما كون الثلج الذي فيها باردا إشارة إلى أن هناك ثلجا ساخنا يغلي.. أليس المتآمر على العربية هو صاحب المحل؟ وهو بالمناسبة ليس إسرائيليا أو مسؤولا أمريكيا؟