جعفر عباس : بنك سبب لي الإحباط

سودافاكس ـ تحدثت بالأمس عن سفه بعض الأثرياء خاصة أولئك الذين يحسبون أنهم سيخلدون باستنساخ أنفسهم، وأذكر ذلك المليونير الصيني الذي شيد مرافق سياحية مذهلة في مرتفعات غينتينغ في ماليزيا ببنايات تناطح السحاب وفضاءات بديعة تمارس فيها كافة أنواع الألعاب، وبعد أن نال ثناء مستحقاً على إنجازه ذاك، ركبه الغرور وشيد لنفسه ضريحا فاخرا من الرخام والمرمر على الطريق المؤدي إلى قمة المرتفعات وأعلن قبل وفاته أنه يريد أن “يستمتع” وهو في قبره بمشهد الناس وهم يتحركون من وإلى القمة.

وسيرة الملايين والسفهاء من أصحاب الملايين، (ومعظم الأثرياء بالحلال عقلاء بعيدون عن السفه)، المهم أن هذه السيرة تؤكد أن ابن آدم مفتري ولا يملأ عينه سوى التراب. وأذكر أنه عندما عملت بشركة أرامكو السعودية في أول مرة أغترب فيها عن وطني كان راتبي 4821 ريالا، وأذكر أنني حملت راتب أول شهر واقتحمت شارع الملك خالد في الخبر: هات نص درزن من هذه القمصان.. خليهم درزن.. واشتريت نظارة شمسية بيرسول سوداء، (هل ما زالت ماركة النظارات هذه سيدة السوق؟) مع أنني ملزم بارتداء نظارة طبية على مدار اليوم، ولا أستطيع أن أرى طرف أنفي بنظارة شمسية.. وستة أزواج من الأحذية.. وكنت أسافر إلى السودان مرة كل 3 أشهر محملا بالهدايا، بعبارة أخرى كنت أحس أن راتبي ضخم، وقد كان كذلك بمعايير ذلك الزمان، وكان كل همي أن أستمتع بشراء كل ما تشتهيه وما لا تشتهيه نفسي، وهذا ضرب من السفه يمارسه من يحسبون أنفسهم أثرياء بمقاييسهم الخاصة.

ثم جاء في تقرير أصدره بنك كاوتس البريطاني وهو البنك الذي تتعامل معه الملكة إليزابيث الثانية، أن من يملك مليون جنيه إسترليني لا يستطيع أن يعيش حياة المليونيرات، بل لا يستحق لقب مليونير! طيب لماذا لا يستطيع من يملك مبلغا كهذا أن يعيش في رغد؟ يجيب التقرير: لأن المليونير يحتاج إلى بيت ضخم وعدد من الخدم وزورق أبهة، وعلى الأقل ثلاث سيارات من النوع الراقي! وفي تقديري فإن السبب في عدم أهلية من يملك مليون إسترليني للقب مليونير ليس التضخم وارتفاع كلفة المعيشة، بل كون الإنسان قد يصبح سفيها كلما ازدادت ثروته.. أخوكم – مثلا – كان يحسب نفسه خاشوقجي الثاني (وكان خاشوقجي وقتها مليونيرا أسطوريا) عندما كان راتبه نحو 5000 ريال، وكان ذلك المبلغ يكفيه ويزيد على حاجته، فأنت لا تشتري 12 قميصا و12 “فردة” حذاء كل سنة، وبمرور الزمن ارتفع راتبي، ولكن ذلك لم يحدث أي طفرة في مدخراتي، بل ظللت طوال عشرين من حياتي العملية بلا مدخرات، والسبب في ذلك أنه كلما ارتفع الراتب كلما ارتفعت الكماليات إلى مرتبة الضروريات، وكان هناك أمر غريب، ففي أحوال نادرة كان الراتب يكفيني لأنه تعزز بحوافز أو مكافأة طارئة، ولكن ما إن يبقى في رصيدي المصرفي مبلغ ما حتى تتسرب المعلومات إلى أهلي في السودان وأتلقى نداء عاجلا بأن قريبي الشاب مثلا لم يسدد أقساط الدراسة الجامعية، أو أن أختي بصدد ختان أولادها أو أن عنزة خالتي بحاجة إلى عملية قيصرية في مستشفى بيطري خاص.

ما أريد أن أقوله هو أن الإنسان وكلما زاد ماله، زادت احتياجاته ولذلك تكتشف أن أوضاعك المالية هي، هي بعد ارتفاع دخلك الشهري من 4000 دولار إلى 6000 أو عشرة آلاف منه، وقبل أسبوع وصلني إشعار بأن لي “فروق” راتب بكذا ألف ريال نتيجة خطأ في الحسابات لم يؤد إلى إضافة العلاوة السنوية إلى الراتب لعدة أشهر، فأصبحت ثريا وأصبت بلوثة عقلية هي التي جعلتني أكتب في صفحتي في فيسبوك أنني صرت مليارديرا بالجنيه السوداني، وتلقيت إخطارا من إدارة الجبايات مؤداه: اوع تنكر هذا الكلام لما تجي السودان، مما يؤكد أن هناك أناسا يصابون بالخبل إذا هبطت عليهم ثروة كتلك التي هبطت عليَّ (نحو 8000 ريال قطري)، وهذه النوعية لا تصيب الثراء الحقيقي الذي يتطلب امتلاك أسطول من السيارات والخدم والحشم والحراس الشخصيين، وذلك لطف من الله. (تعرفوا لو كنت غنيا فعلا لكان أعز أمنية عندي أن يعمل لديَّ مختص في المساج… أكتب مقالا وأنبطح، ليفتفت عضلاتي المستهلكة)

 

Exit mobile version