جعفر عباس : دوام يلائم المزاج العربي

سودافاكس ـ قرأت ملخصا لتقرير طبي شرح صدري، رغم أن معظم المصطلحات التي فيه تسبب تضخم البروستات، والتهاب الأذن والأنف والحنجرة، فقد أكد التقرير أو الجزء الذي فهمته منه، حقيقة ظللت أجاهد على مدى سنوات طويلة لأقنع بها الجهات التي أعمل لديها، وهي أنه من مصلحة العمل والموظفين أن يبدأ يوم العمل في العاشرة صباحاً، وينتهي في الواحدة بعد الظهر، حتى يتسنى للموظفين العودة إلى بيوتهم، وهم في منتهى النشاط؛ كما وأن الاستيقاظ المتأخر لمزاولة عمل يبدأ في العاشرة، يلغي وجبة الإفطار، لأن الإنسان لا يحس بالجوع بعد نومة طويلة، وفي هذا توفير مال وادخار!! مما يعني أن “الكروش” التي تنحشر بالعافية بين الكراسي والطاولات ستتقلص، ويؤكد التقرير الذي يشكل خلاصة دراسة أجرتها كلية الطب في جامعة هارفارد الأمريكية، أن النوم لفترة متأخرة في الصباح وبعد الظهر ينعش الدماغ ويرفع قدرته على التعلُم والتذكُّر والابتكار.

وعلى الرغم من تأييدي لاستنتاجات هذه الدراسة ومؤداها أن ساعات العمل القصيرة وساعات النوم والراحة الطويلة مفيدة لجهة العمل والعامل/ الموظف، إلا أنني أعتقد أنها لا تنطبق علينا، فنحن سلفاً نذهب إلى مكاتبنا متأخرين وإذا كانت عندنا “فروقات” أو متأخرات نوم فإننا ننام في المكاتب، ثم ننام بعد الغداء فيتحول كل ما أكلناه إلى شحوم ودهون، ومع هذا فإننا أقل أمم الأرض إنتاجية وابتكاراً وإبداعاً.

في 19 يوليو من عام 1971م قام الضباط الشيوعيون السودانيون بأكثر الانقلابات العسكرية ذكاء في التاريخ، فقد قرروا الإطاحة بحكومة جعفر نميري، واختاروا ساعة القيلولة لتنفيذ الانقلاب، وعندما تحركت دباباتهم بعد نهاية ساعات العمل الرسمية، أي في نحو الثالثة بعد الظهر، كانت الشوارع خالية من المارة والسيارات، وكان الشعب السوداني الشقيق يغط في نوم عميق، ولم يأخذ علماً بحدوث الانقلاب، إلا في نحو الساعة السادسة مساء عند الاستيقاظ لأداء صلاة المغرب، ونجح الانقلابيون في اعتقال نميري وبطانته وهم ممدون على الأسرة والأرائك بعد تناول وجبة الغداء، والغريب في الأمر أن العناصر العسكرية المناوئة للشيوعيين أطاحت بهم بعد 3 أيام، بالحيلة نفسها وهي التحرك المضاد في ساعة القيلولة في الثاني والعشرين من نفس الشهر، وبحلول الخامسة من مساء ذلك اليوم فوجئ الشعب السوداني الشقيق بأن نميري “عاد، وكأن شيئاً لم يكن، وشراسة الأدغال في عينيه”. ولما أذيع عبر الراديو والتلفزيون أنه عاد تساءل كثيرون: هو كان وين/ فين أصلا؟

ولمن يحسبون أن حماسي لنتائج دراسة كلية الطب بجامعة هارفارد الأمريكية مرده أنني سوداني وبالتالي كسول بالوراثة، حسب الفرية السارية في منطقة الخليج، أقول إنني شخصيا لا أنام خلال ساعات النهار إطلاقا، وأنه ومنذ أن اختفت السلع وانهارت الخدمات الأساسية وطار التضخم إلى قمم شاهقة في بلدهم لم يعد هناك سوداني واحد، يجلس مجرد جلوس على سرير قبل صلاة العشاء لأن معظم أهل البلاد يظلون في حالة لهاث وراء الرزق والخبز معظم ساعات اليوم.

في عدد من الدول الأوروبية توفر الشركات والمؤسسات غرف راحة ونوم للعاملين، ليغفوا فيها من يحس بالإرهاق لبعض الوقت، إدراكاً منها لحقيقة أن النوم ضرورة بيولوجية وفسيولوجية ونفسية، وعملاق الانترنت غوغل لديه سرير لكل موظف في مبانيه، ومن حق الموظف التوجه الى السرير متى ما أحس بالنعاس أو الإرهاق، ليس سرير أي كلام بل من النوع الذي يهز من يرقد عليه هزا لطيفا ويمسد جسمه، ولكن لو فتحنا مثل هذا الباب في مواقع العمل عندنا فسيطالب المديرون بالجاكوزي والمساج، بينما سيقوم صغار الموظفين باستغلال غرف الراحة للعب الورق، بوصفه الأداة الترفيهية الوحيدة المتاحة في معظم بلدان الوطن العربي، فمن فرط طيبة حكوماتنا ورقة مشاعرها، فإنها لم تعتبر لعب الورق نشاطاً هداما ويحق لنا أن نفتخر بأن الورق (الكوتشينة أو الجنجفة كما يسمى في بعض بلدان الخليج) متاح لجميع المواطنين مما يفسر انتشار الوعي المعرفي لأن “الورق” أداة أساسية للمعرفة!.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.