جعفر عباس :الأخلاق ضحية عصر السرعة

سودافاكس ـ أحسب‭ ‬أنني‭ ‬صرت‭ ‬أقل‭ ‬صبرا‭ ‬بمعنى‭ ‬انني‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬‮«‬طويل‭ ‬البال‮»‬‭ ‬كما‭ ‬كنت‭ ‬قبل‭ ‬سنوات،‭ ‬كما‭ ‬ان‭ ‬جرعة‭ ‬القلق‭ ‬والتوتر‭ ‬عندي‭ ‬صارت‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬المعدل‭ ‬الذي‭ ‬أتمناه‭ ‬لنفسي،‭ ‬واعترف‭ ‬أيضا‭ ‬بأن‭ ‬أخلاقي‭ ‬صارت‭ ‬أكثر‭ ‬سوءا‭ ‬خلال‭ ‬الـ15‭ ‬سنة‭ ‬الماضية‭. ‬ليس‭ ‬بمعنى‭ ‬انني‭ ‬انحرفت‭ ‬وصرت‭ ‬سيئ‭ ‬السيرة‭ ‬والسلوك،‭ ‬ولكن‭ ‬بمعنى‭ ‬انني‭ ‬صرت‭ ‬اكثر‭ ‬عصبية‭ ‬وأكثر‭ ‬قابلية‭ ‬للانفعال‭ ‬والغضب،‭ ‬حتى‭ ‬عيالي‭ ‬صاروا‭ ‬يشكون‭ ‬من‭ ‬انني‭ ‬صرت‭ ‬بركانا‭ ‬نشطا‭ ‬‮«‬على‭ ‬الهبشة‮»‬‭ ‬أي‭ ‬انفجر‭ ‬في‭ ‬وجوههم‭ ‬بدون‭ ‬أسباب‭ ‬وجيهة‭. ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬لي‭ ‬وقد‭ ‬كنت‭ ‬اتحلى‭ ‬بطول‭ ‬البال‭ ‬وكظم‭ ‬الغيظ؟‭ ‬إذا‭ ‬قال‭ ‬لي‭ ‬أحدكم‭ ‬عبارة‭ ‬سخيفة‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬عامل‭ ‬السن‭ ‬له‭ ‬دور‮»‬‭ ‬فيا‭ ‬ويله‭. ‬فحتى‭ ‬لو‭ ‬افترضنا‭ ‬انني‭ ‬تقدمت‭ ‬في‭ ‬السن‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬ما،‭ ‬فالمنطقي‭ ‬ان‭ ‬اكون‭ ‬أكثر‭ ‬صبرا‭ ‬وحلما‭ ‬وأقل‭ ‬قابلية‭ ‬للاستفزاز‭.‬

 

الاجابة‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬هي‭ ‬ان‭ ‬الجميع‭ ‬من‭ ‬حولي‭ ‬صاروا‭ ‬عصبيين‭ ‬وشديدي‭ ‬التوتر‭ ‬والقلق‭. ‬فقد‭ ‬أصبحنا‭ ‬ضحايا‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬عصر‭ ‬السرعة،‭ ‬نأكل‭ ‬طعامنا‭ ‬على‭ ‬عجل،‭ ‬ونتلقى‭ ‬الرسائل‭ ‬عبر‭ ‬الهواتف‭ ‬خلال‭ ‬ثوان‭ ‬معدودة،‭ ‬ونتصل‭ ‬بأحبابنا‭ ‬هاتفيا‭ ‬وإذا‭ ‬لم‭ ‬يرد‭ ‬أحدهم‭ ‬على‭ ‬المكالمة‭ ‬نفترض‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬بخير،‭ ‬وعموما‭ ‬فقد‭ ‬اختلت‭ ‬الموازين‭ ‬والمكاييل‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والأخلاقية،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الكبير‭ ‬يفترض‭ ‬ان‭ ‬الصغار‭ ‬سيعاملونه‭ ‬باحترام،‭ ‬ولم‭ ‬يعد‭ ‬الصغار‭ ‬يحسون‭ ‬انهم‭ ‬ملزمون‭ ‬باحترام‭ ‬من‭ ‬يكبرونهم‭ ‬سنا‭. ‬وفي‭ ‬الشارع‭ ‬يحسب‭ ‬كل‭ ‬سائق‭ ‬سيارة‭ ‬ان‭ ‬الحكومة‭ ‬رصفت‭ ‬الطريق‭ ‬خصيصا‭ ‬من‭ ‬أجله‭ ‬ولكنه‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬ذاته‭ ‬يعتقد‭ ‬ان‭ ‬هناك‭ ‬عناصر‭ ‬في‭ ‬الحكومة‭ ‬تتعمد‭ ‬مضايقته‭ ‬بنصب‭ ‬اشارات‭ ‬مرور‭ ‬مبرمجة‭ ‬خصيصا‭ ‬لمضايقته‭ ‬والحد‭ ‬من‭ ‬انطلاقه‭ ‬بالسيارة‭ ‬فيعتقد‭ ‬ان‭ ‬عليه‭ ‬ان‭ ‬يتحدى‭ ‬الجميع‭ ‬لجعلهم‭ ‬يدركون‭ ‬أنه‭ ‬مميز‭ ‬وغير‭ ‬ملزم‭ ‬بالتقيد‭ ‬بقواعد‭ ‬وآداب‭ ‬المرور،‭ ‬وفي‭ ‬المستشفيات‭ ‬يعتقد‭ ‬كل‭ ‬مريض‭ ‬ان‭ ‬من‭ ‬سبقوه‭ ‬الى‭ ‬مقابلة‭ ‬الطبيب‭ ‬‮«‬عندهم‭ ‬واسطة‮»‬،‭ ‬وإلا‭ ‬لكان‭ ‬هو‭ ‬اول‭ ‬من‭ ‬يقابل‭ ‬الطبيب،‭ ‬والطبيب‭ ‬نفسه‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬مدى‭ ‬معاناتي‭ ‬من‭ ‬تساقط‭ ‬الشعر‭ ‬الذي‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬ناتجا‭ ‬عن‭ ‬سرطان‭ ‬فروة‭ ‬الرأس،‭ ‬ويصرفني‭ ‬بعد‭ ‬نصف‭ ‬ساعة‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬التشخيص‭ ‬وتوصيف‭ ‬الدواء‭ ‬بينما‭ ‬يقضي‭ ‬وقتا‭ ‬طويلا‭ ‬مع‭ ‬أشخاص‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬أمراض‭ ‬بسيطة‭ ‬مثل‭ ‬التهاب‭ ‬الزائدة‭ ‬الدودية‭ ‬او‭ ‬الفشل‭ ‬الكلوي،‭ ‬والصيدلي‭ ‬يوزع‭ ‬الأدوية‭ ‬على‭ ‬أناس‭ ‬هلافيت‭ ‬بينما‭ ‬انا‭ ‬‮«‬بجلالة‭ ‬قدري‮»‬‭ ‬أقف‭ ‬منذ‭ ‬عشر‭ ‬دقائق‭ ‬انتظر‭ ‬منه‭ ‬ان‭ ‬يعطيني‭ ‬ما‭ ‬يخصني‭ ‬من‭ ‬أدوية،‭ ‬باختصار‭ ‬صار‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منا‭ ‬يعتبر‭ ‬ان‭ ‬الله‭ ‬لم‭ ‬يخلق‭ ‬مثله‭ ‬في‭ ‬العباد‭ ‬وأنه‭ ‬أولى‭ ‬من‭ ‬غيره‭ ‬بالخدمات‭ ‬والامتيازات‭. ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬هناك‭ ‬حس‭ ‬اجتماعي‭ ‬او‭ ‬مسؤولية‭ ‬اجتماعية‭

. ‬حتى‭ ‬داخل‭ ‬المسجد‭ ‬تجد‭ ‬من‭ ‬يصيح‭ ‬في‭ ‬وجهك‭ ‬عندما‭ ‬تدوس‭ ‬طرف‭ ‬ثوبه‭ ‬غير‭ ‬عامد‭ ‬وأنت‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬تجلس‭ ‬او‭ ‬تقف‭ ‬فيه‭: ‬عميان‭ ‬انت؟‭ ‬تخيل‭ ‬انك‭ ‬قلت‭ ‬له‭ ‬نعم‭ ‬عميان‭… ‬فيما‭ ‬مضى‭ ‬من‭ ‬الزمان‭ ‬كانت‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الاجابة‭ ‬كفيلة‭ ‬بجعل‭ ‬الشخص‭ ‬الغاضب‭ ‬يتمنى‭ ‬لو‭ ‬تنشق‭ ‬الارض‭ ‬وتبتلعه‭ ‬ولكن‭ ‬في‭ ‬ايامنا‭ ‬هذه‭ ‬قد‭ ‬يقول‭ ‬لك‭: ‬الله‭ ‬لا‭ ‬يشفيك‭!‬

 

الشاهد‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬الغضب‭ ‬صار‭ ‬وباءً‭. ‬والشاهد‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬الوباء‭ ‬أصابني‭ ‬لسبب‭ ‬بدهي‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬سوء‭ ‬الخلق‭ ‬كما‭ ‬حسن‭ ‬الخلق‭ ‬‮«‬مُعدٍ‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬ينتقل‭ ‬من‭ ‬انسان‭ ‬الى‭ ‬آخر،‭ ‬فإذا‭ ‬كان‭ ‬أفراد‭ ‬المجتمع‭ -‬بصفة‭ ‬عامة‭- ‬يتحلون‭ ‬بالصبر‭ ‬والتحمل‭ ‬ومعاملة‭ ‬الآخرين‭ ‬بالكلمة‭ ‬الطيبة‭ ‬فإنك‭ ‬لا‭ ‬ترضى‭ ‬لنفسك‭ ‬ان‭ ‬تكون‭ ‬شاذا‭ ‬وتحرص‭ ‬على‭ ‬مجاراة‭ ‬الغالبية‭ ‬في‭ ‬حسن‭ ‬السلوك‭

 

.. ‬أما‭ ‬عندما‭ ‬يرى‭ ‬الصغار‭ ‬الكبار‭ ‬وهم‭ ‬يشتمون‭ ‬الآخرين‭ ‬بأوسخ‭ ‬الألفاظ‭ ‬فإنهم‭ -‬أي‭ ‬الصغار‭- ‬سينشأون‭ ‬وهم‭ ‬يعتقدون‭ ‬انه‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬ان‭ ‬يسيء‭ ‬الناس‭ ‬الأدب‭ ‬مع‭ ‬بعضهم‭ ‬بعضا‭. ‬وكما‭ ‬اعترفت‭ ‬في‭ ‬صدر‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬فإنني‭ ‬مصاب‭ ‬بعدوى‭ ‬النرفزة‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬ينرفزني‭ ‬أكثر‭ ‬هو‭ ‬ان‭ ‬ضميري‭ ‬يؤنبني‭ ‬كلما‭ ‬انفعلت‭ ‬وثرت‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬شخص‭ ‬آخر‭ ‬ولا‭ ‬اتردد‭ ‬في‭ ‬الاعتذار‭ ‬له،‭ ‬ثم‭ ‬يقابل‭ ‬ذلك‭ ‬الشخص‭ ‬اعتذاري‭ ‬بالاستخفاف‭ ‬بل‭ ‬والرفض‭.‬

 

Exit mobile version