سودافاكس ـ فوجئت اليوم بسيدة تستوقفني في شارع عام وتسألني: مش أنت أستاذ جعفر؟ قلت «نعم»، فقالت: طبعا لا تذكرني. أحسست على الفور بالضيق لأنني لا أحب أن «يزنقني» شخص ما يفترض أنني أعرفه ويطرح على سؤالا من شاكلة «ما عرفتني»؟ لأن في ذلك تشكيك في قواي العقلية، لهذا كدت أقول لتلك السيدة: وأنت بسلامتك فيفي عبده حتى أعرفك من شكلك؟ ولأنني مررت بمواقف مشابهة كثيرة حيث يستوقفني رجل أو امرأة لتحيتي ثم إحراجي بطرح السؤال «ما عرفتني؟» فقد تحليت بطول البال والروح وتصنعت الابتسام، وكنت وقتها مدركا لاحتمال أن طريقي وطريق تلك السيدة تقاطعا عند نقطة ما قبل سنوات بعيدة.
وعموما فإن ما يضايقني في هذا الخصوص هو أنني أعرف أن من يزنقونني ليسوا من قراء مقالاتي الصحفية فهؤلاء عادة لا يفترضون أنني أعرفهم. سبب الضيق هو أنني أعرف أن هذا الأصلع أو ذات الكرش والتجاعيد تلك كانت من تلاميذي، وإذا كان تلميذي أصلعا وتلميذتي ذات تجاعيد وكراديس فحالي يغني عن السؤال. على نحو خاص الثمن المعنوي لتدريس البنات أكثر تكلفة وإرهاقا من تدريس الأولاد، لأن البنات يتزوجن في سن مبكرة نسبيا، فبعد سنوات من اعتزال التدريس، وقبل أن أفلح في جمع ربع المبلغ اللازم للزواج، صرت ألتقي ببعض تلميذاتي وهن بصحبة صبايا وصبيان من أرحامهن. ويقلن لهم ولهن: سلِّم/ سلِّمي على عمو!! جعلوني عمو وأنا في شرخ الشباب ولم أتزوج بعد.
المهم صدقت مخاوفي واتضح أن تلك السيدة فعلا كانت من تلميذاتي وبمساعدة منها نشطت ذاكرتي وتذكرتها لكونها كانت مهذبة ومتفوقة، وسعدت كثيرا عندما علمت بأنها تخرجت في الجامعة بتقدير «ممتاز» ثم واصلت مسيرتها حتى صارت أستاذة جامعية.. وهنأتها على ما حققته من نجاح في مسيرتها المهنية، ثم سألتها عن حالها و…. ندمت.. امتلأت عيناها بالدموع.. والدموع نعمة وهبها الله للنساء تعينهن على التنفيس والتعبير العفوي عن المشاعر بينما نحن الرجال نعاني في مراحل مبكرة في العمر من ارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والأوعية الدموية لأن الرجولة والمرجلة في تقديرنا تتطلب كبت مشاعر الحزن.. والدموع عيب.. شخصيا دموعي جاهزة في حالات الفرح والحزن ولا أخفيها عن أحد ولا اعتبر الرجل الباكي ضعيفا بل أمينا مع نفسه وصريحا في التعبير عن مشاعره.
هناك كيمياء عجيبة بين المدرس والطلاب، فحتى بعد أن يفارقوا مقاعد الدراسة بسنوات يبقى الطلاب شديدي الثقة بمدرسيهم ويصارحونهم في أمور قد لا يبوحون بها لأقرب الناس إليهم. المهم أن تلك الأستاذة الجامعية حكت لي كيف أنها صارت عميدة لكلية ثم جاء مدير جديد للجامعة التي تعمل بها وصار كل همه إحراجها والتقليل من قدرها أمام بقية الأساتذة لأنها «امرأة» (وقبل أيام قليلة وتحديدا في 8 مارس الجاري احتفلت مختلف الشعوب بيوم المرأة العالمي والذي الغاية منه لفت الأنظار إلى أهمية أن تحظى المرأة بالتقدير المستحق، والنهي عن ممارسة أي شكل من أشكال العنف تجاهها). وكانت المحاضرة الجامعية تلك حزينة لأن العام الدراسي الجديد على الأبواب لتعود إلى نفس الجو الأكاديمي المريض. هنا نسيت أنها «أستاذة» واستعدت دوري ك«أستاذ» لها وقلت لها بحزم: لا يوجد شيء في الحياة أهم من كرامتك فكيف تسمحين لنفسك بالتعرض للمهانة ثم تبقين في نفس المكان الذي تتعرضين فيه لسوء المعاملة؟ باختصار نصحتها بأن تقدم استقالتها من تلك الجامعة فورا.
والغريب في الأمر أن أساريرها انشرحت وكأنني أتيتها بحل سحري، بدرجة أنها وعدتني بإرسال فاكس إلى مدير الجامعة بالاستقالة فطلبت منها أن تترك لي صياغة الرسالة: السيد مدير الجامعة.. يشرفني ويسعدني عدم العمل معك في موقع واحد، وبهذا أبلغكم باستقالتي من منصبي اعتبارا من يوم أمس.