سودافاكس ـ لعل خرطوم اليوم هي أقل مدن العالم أمنا لساكنيها، فقد صارت حوادث قطع الطرق والنهب بقوة السلاح ميسما للحياة اليومية فيها، ولم يعد هناك في الخرطوم لصوص يتسورون البيوت ليلا بغرض السرقة، بعد أن صارت أعمال السرقة والنهب بقوة السلاح الناري تتم نهارا جهارا، وفرسانها عسكر تميزهم أزياؤهم ورتبهم وبنادقهم سريعة الطلقات، يتحركون في مجموعات، ويقطعون الطرق داخل المدينة لاصطياد فرائسهم، ويفتحون النار على من يقاومهم أو يعترض سبيلهم.
يشغل عبد الفتاح البرهان أرفع منصب دستوري في السودان، بحكم أنه رئيس مجلس السيادة، ويأتمر بأمره في المجلس 12 عضوا اختارهم هو بعناية لضمان أن يكونوا إمَّعات، وثلاثة من هؤلاء جنرالات في الجيش السوداني، ومعهم جنرال افتراضي هو محمد حمدان دقلو (حميدتي) الذي جاءته الرتبة العسكرية منحة من الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير، بحكم أن عائلته تملك جيشا خاصا (قوات الدعم السريع)، ثم جعله البرهان نائبا له في المجلس، ولثلاثة من الأعضاء المدنيين جيوش خاصة لا يعلم البرهان من أمرها، أو ربما لا يعنيه من أمرها الكثير، كما أن لمن نصبه البرهان حاكما على عموم دارفور، ولوزير مالية حكومة البرهان جيشيهما الخاصين.
شغل البرهان منصب رئيس مجلس السيادة منذ آب/ أغسطس 2019، وكان من المفترض أن يتخلى عن المنصب لصالح عضو مدني في أواخر العام الماضي، ولكنه استبق هذا الأمر بأن قام بانقلاب عسكري في 25 تشرين أول/ أكتوبر 2021، وصار بعدها الكل في الكل في الحكم في السودان، ولكنه ظل يواجه رفضا شعبيا كاسحا، فبمعدل مرتين كل أسبوع تخرج مواكب هادرة تندد بحكمه وتطالب برحيله، ولا يملك البرهان إزاء ذلك سوى رد الفعل الوحيد الذي يتقنه، وهو استخدام القوة الغاشمة فيحصد الأرواح، ويسبب إصابات جسيمة في صفوف رافضي حكمه.
وكي يضمن البرهان أن جلاوزته سيتعاملون بأقصى درجات العنف مع معارضيه المدنيين، فقد أعطى جميع القوات النظامية حصانة ضد المساءلة، واستغلت بعض تلك القوات تلك الحصانة إلى آخر مدى، وصارت تستخدم الأسلحة الميدانية لفض مواكب المعارضين، ثم صارت مدن الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان مسارح لأعمال سلب ونهب يقوم بها عسكريون بأزيائهم الرسمية.
ويوم الخميس الموافق 17 آذار/ مارس الجاري اقتحمت قوة عسكرية على رأسها ضابط “مختبرإستاك” الطبي المركزي في شارع القصر في الخرطوم، وهشمت بعض محتوياته، ثم اعتدت على الطاقم الطبي الذي اعترض على ذلك، ثم نهب أفرادها بعض هواتف وممتلكات العاملين في المركز. وبموازاة ذلك تعرض مجمع تسوق يحمل اسم نيفاشا ويقع بالقرب من القصر الذي يشغله البرهان ورهطه لغارة من قبل عسكريين مسلحين، نهبوا محتويات المتاجر وحملوها على سيارات بلا لوحات صارت مشهدها مألوفا في شوارع الخرطوم، كما صار أمرا شديد الاعتياد ان يتعرض سائقو السيارات للإيقاف في شوارع العاصمة السودانية من قبل عناصر مسلحة؛ و”سَلِّم تسْلَم”، وتُقاوم وترفض تُقْتل او يلحق بك الأذى الجسيم.
من المضحكات المبكيات في المشهد السوداني أن حميدتي الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس السيادة البرهاني الحالي، يزعم أنه شريك أصيل في الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير، فقط لأنه وقواته (الدعم السريع) امتنعوا عن “جريمة” قتل المشاركين في تلك الثورة، ولم نسمع منه تبريرا للجرائم التي ارتكبتها تلك القوات قبل اندلاع الثورة وبعد سقوط نظام البشير.
كان أهم ميسم للحراك الشعبي الذي بدأ في كانون أول/ ديسمبر من عام 2018 والذي أطاح بالرئيس عمر البشير وحكومته أن النساء شكلن أكثر من 50% من المشاركين فيه، وبعد انفراد البرهان بالسلطة في أعقاب انقلاب 25 تشرين أول/ أكتوبر الماضي، احتفظ الحراك الرافض له بميسمه الأنثوي، فشهد السودان لأول مرة استهداف النساء بالقنص، ثم بالاعتداء الجنسي، ففي 19 كانون أول/ ديسمبر من العام المنصرم وصل مئات الآلاف من المتظاهرين الرافضين للانقلاب أبواب القصر الجمهوري، مقتحمين المتاريس التي أقامها العسكر حوله، وتم إمطار المحتشدين هناك بغاز كثيف مسيل للدموع، ومع بدء انفضاض المواكب ومغادرة المتظاهرين لساحة القصر تعرضت 13 فتاة للاغتصاب الجماعي من قبل عسكريين، ووعد البرهان بتحقيق تظهر نتائجه في غضون ثلاثة أيام، وها هي الأيام الثلاثة تتحول إلى شهور ثلاثة، والناس في انتظار الخصم الذي هو الحَكَم ليدلي بأقواله حول الواقعة”.
والشاهد هو الوضع في السودان بات مرعبا لأن المواطن لم يعد آمنا في الشارع أو في بيته في ظل وجود قوات عسكرية كاملة التسليح تقتحم البيوت والمتاجر دون أن تعترضها قوة رادعة، ومن المؤكد أن هذه العناصر المتفلِّتة لا تعمل بإيعاز صريح من البرهان وزمرته، ولكن من المؤكد تماما أيضا أنه لا سلطة للبرهان على تلك القوات سواء كانت نظامية أم تنتمي إلى الجيوش “الخاصة”، ولكنه يحتاج إليها لدعم سلطته الانقلابية، ومن ثم فهو مذنب بالامتناع والإغفال، كما يقول أهل القانون عمن يسكت أو يتغاضى عن جريمة يكون من واجبه منع حدوثها أو ملاحقة مرتكبها.
ومن المضحكات المبكيات في المشهد السوداني أن حميدتي الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس السيادة البرهاني الحالي، يزعم أنه شريك أصيل في الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم عمر البشير، فقط لأنه وقواته (الدعم السريع) امتنعوا عن “جريمة” قتل المشاركين في تلك الثورة، ولم نسمع منه تبريرا للجرائم التي ارتكبتها تلك القوات قبل اندلاع الثورة وبعد سقوط نظام البشير.
أما الدليل القاطع والحاسم على أن البرهان قام بانقلابه الأخير بدافع شخصي رفضا للتخلي عن رئاسة المجلس السيادي لمدني كما يقصي بذلك الدستور المعمول به حاليا، وتفاديا للمساءلة القانونية عن جريمة قتل العشرات في 3 حزيران/ يونيو 2019 فقد كان أن احتلت قوة مسلحة مباني اللجنة التي كانت تتولى التحقيق في تلك المجزرة، والتي ارتكبتها قوة عسكرية نظامية تحت سمع وبصر قيادة الجيش السوداني، في فترة كان فيها البرهان وبعض جنرالاته ينفردون بالسلطة، والراجح هو أن إفادات شهود الجريمة، وأطنان الأدلة التي تم جمعها على مدى ثلاث سنوات ستروح أدراج الرياح.
وكاد المريب أن يقول خذوني.