سودافاكس ـ مثل معظم أبناء العالم الثالث السفلي فقد شغلت مرغما وبدواعي كسب العيش وظائف عديمة الجدوى لي وللجهة التي كنت أعمل لديها، أي إنني كنت واحداً من (الأحياء الأموات)، وهم الموظفون الذين لا يحس أحد بوجودهم ولا يكلفهم أحد بمهمة ما، وفي بداية الأمر قد يبدو تقاضي راتب نظير عدم فعل شيء ممتعاً، ولكنك سرعان ما تحس بالتهميش والضآلة، هذا بالطبع إذا كنت ذا كرامة و«ضمير».
حدث لي ذلك في محطتين قصيرتين من حياتي العملية، وفي كلتا الحالتين وجدت نفسي غاضباً من نفسي وحزينا، لأن بقائي في وظيفة ما دون أداء مهام ذات قيمة كان طعنا في قدراتي، وكان الراتب الذي أتقاضاه وأنا لا أقوم بشيء ذي بال «صدقة» في تقديري، والانسان العفيف القادر على العمل لا يقبل الصدقات حتى من أقرب الأقربين، وهكذا سعيت ونجحت في هجر الوظيفتين والحصول على عمل يرضي ضميري ويمنحني الإحساس بأنني مفيد وذو قيمة. والمشكلة هي أنك تستطيع إثبات وجودك في بيئات العمل الصغيرة التي تتألف من عدد محدود من الموظفين، حيث يكون اجتهادك وإخلاصك بادياً للعيان، ولكنك قد تضيع في «الطوشة» إذا كنت تعمل -مثلاً- في شركة بها مئات أو آلاف الموظفين، فقد تكون مواظباً ومجدّاً ومخلصاً ولكن رؤساءك لا يلاحظون ذلك، فلا تجد جهودك التقدير، ولكنهم يلاحظون أولئك الذين لا هم لهم سوى تسويق أنفسهم، ففي كل بيئة عمل كبيرة نفر من الناس يشبهون الطبول الجوفاء: يحدثون جلبة وضجيجا للفت الأنظار إلى أنفسهم، وهم يتحركون بملابسهم الأنيقة هنا وهناك حاملين الملفات، ويتقربون إلى رؤسائهم باقتراحات سمعوها من زملائهم «المجتهدين في صمت»، ويثرثرون كثيراً في الاجتماعات بما يعطي الانطباع بأنهم (فاهمون/ فهمانون). وفي وضع كهذا يصبح أداء العمل أو إهماله سيان، فـ(الإدارة) تكون معنية على نحو أساسي بمسائل شكلية غير ذات بال مثل مدى تمسك الموظف بمواعيد الحضور والانصراف، فطالما أنك تأتي إلى المكتب وتجلس فيه حتى نهاية المدة المقررة فأنت «في السليم»، وتجد في معظم الدول العربية أنظمة الكترونية لرصد مواعيد حضور الموظفين وانصرافهم في غياب أي نظام لرصد إنتاجيتهم وكفاءاتهم، وهكذا يجد موظف مؤهل وكفء نفسه محنطاً في مكتب، لا أحد يوكل إليه مهمة ولا أحد يحاسبه على الجلوس ساهماً وواجماً، ومن ثم يبدأ هذا الموظف في ابتكار وسائل لنفي الملل، وإذا كانت لديه خدمة الإنترنت في الكمبيوتر الذي أمامه، فإنه يجعل البريد الالكتروني أداة «سوالف ومؤانسة وترفيه»، ثم يدخل غرفة المحادثات (التشات) ويندمج في الكلام الفارغ، ويدخل تويتر ويرسل تغريدة منقولة عن غيره عبر الأثير ليعطي الانطباع بأنه خطير (الموظف المستهبل لا يميل الى استخدام الهاتف في الأمور «الفارغة» لأن أمره يكون مكشوفا إذا أطال العبث بأزرار الهاتف، بينما قد يحسبه الآخرون يقوم بعمل رسمي وهو جالس الى الكمبيوتر).
وأحياناً قد يفاجأ الموظف اللعبنجي بأن زملاءه غادروا المكتب بينما كان هو مندمجاً في الإنترنت، ويخرج مهرولاً فيراه رئيسه المباشر مصادفة ويستنتج أنه مجتهد ويعمل ساعات تفوق الساعات المقررة ويأخذ عنه انطباعا إيجابياً، ويفاجأ ذلك الموظف عند التقييم السنوي بأنه نال تقدير «ممتاز»، لأن السرحان مع الإنترنت جعله يبقى في المكتب بعد انصراف الآخرين.
الإنسان ملول بطبعه وغالبية الناس يميلون إلى تمضية الوقت في أداء عمل مفيد، بمعنى أنهم يرحبون بالأعباء الوظيفية التي تملأ وقتهم، ويضيقون بالجلوس (تنابلة) في المكاتب، ولمقدم البرامج الحوارية في التلفزيونات الأمريكية المشهور جوني كارسون مقولة جميلة: لا تؤد عملاً لا تجد فيه متعة، وإذا كنت سعيداً بعملك فإنك ستشعر بالرضا عن النفس وراحة البال، وإذا كنت فوق كل ذلك في صحة جيدة فستكون قد حققت نجاحاً ربما لم يخطر قط على بالك، ولكن كارسون لا يعرف أن الأمور عندنا ليست بتلك السهولة: ليس من حقنا اختيار الوظائف التي نرغب فيها ونتقنها.. بل لا يملك معظمنا حق اختيار شريك الحياة.