جعفر عباس : عن العيون الحارة

سودافاكس ـ ذات‭ ‬مرة‭ ‬انتبهت‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬زميلاً‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬يهمهم‭ ‬ويبرطم،‭ ‬وتبدو‭ ‬عليه‭ ‬علامات‭ ‬الهلع‭ ‬كلما‭ ‬دخل‭ ‬علينا‭ ‬رجل‭ ‬مسن،‭ ‬يشغل‭ ‬وظيفة‭ ‬عمالية‭ ‬بسيطة،‭ ‬فاستجمعت‭ ‬جلافتي‭ ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬سر‭ ‬الرعب‭ ‬الذي‭ ‬يسري‭ ‬في‭ ‬أوصاله‭ ‬كلما‭ ‬دخل‭ ‬علينا‭ ‬ذلك‭ ‬العامل،‭ ‬فقال‭: ‬عينه‭ ‬حارة،‭ ‬هنا‭ ‬استجمعت‭ ‬وقاحتي‭ ‬وسألته‭: ‬وهل‭ ‬قست‭ ‬درجة‭ ‬حرارة‭ ‬عينه؟‭ ‬وطالما‭ ‬أنك‭ ‬تقول‭ ‬إن‭ ‬عينه‭ ‬حارة،‭ (‬بصيغة‭ ‬المفرد‭)‬،‭ ‬وهو‭ ‬مزود‭ ‬بعينين،‭ ‬فأيهما‭ ‬هي‭ ‬الحارة‭: ‬العين‭ ‬اليمنى‭ ‬أم‭ ‬اليسرى؟

طبعاً‭ ‬كنت‭ ‬أقصد‭ ‬أن‭ ‬أسأله‭: ‬هل‭ ‬لديك‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬عين‭ ‬الرجل‭ ‬حارة‭ ‬ومؤذية؟‭ ‬فقال‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬الكثيرين‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬العمل‭ ‬يعرفون‭ ‬الأمر،‭ ‬ويتحصنون‭ ‬بالمعوذتين‭ ‬كلما‭ ‬دخل‭ ‬عليهم‭ ‬مقدماً‭ ‬الشاي‭ ‬أو‭ ‬جالباً‭ ‬الأوراق‭ ‬والملفات،‭ ‬ودخلنا‭ ‬في‭ ‬جدل‭ ‬طويل،‭ ‬وكانت‭ ‬وجهة‭ ‬نظري‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬مظلوماً،‭ ‬وأن‭ ‬شخصاً‭ ‬ما‭ ‬ألحق‭ ‬به‭ ‬التهمة،‭ ‬كما‭ ‬حدث‭ ‬مع‭ ‬آخرين‭ ‬أبرياء،‭ ‬وياما‭ ‬سمعت‭ ‬نساء‭ ‬قريباتي‭ ‬أو‭ ‬صديقات‭ ‬للعائلة‭ ‬عزون‭ ‬إصابة‭ ‬أطفالهن‭ ‬بالحمى‭ ‬أو‭ ‬كسور‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬فلانة‭ ‬أو‭ ‬علانة‭ ‬قالت‭ ‬عنهم‭ ‬إنهم‭ ‬أي‭ ‬العيال‭ ‬‮«‬حلوين‮»‬‭! ‬أو‭ ‬أن‭ ‬الولد‭ ‬صار‭ ‬بليدا‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬قالت‭ ‬إحداهن‭ ‬إنه‭ ‬‮«‬ذكي‮»‬‭. (‬تحضرني‭ ‬هنا‭ ‬طرفة‭ ‬امرأة‭ ‬كانت‭ ‬تحمل‭ ‬طفلا‭ ‬في‭ ‬حافلة‭ ‬عامة،‭ ‬ولاحظ‭ ‬رجل‭ ‬يجلس‭ ‬بالقرب‭ ‬منها،‭ ‬أنها‭ ‬تبكي‭ ‬فسألها‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬بكائها،‭ ‬فأبلغته‭ ‬أنها‭ ‬عندما‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬ركوب‭ ‬الحافلة،‭ ‬قال‭ ‬راكب‭ ‬عنها‭ ‬انها‭ ‬تحمل‭ ‬قردا،‭ ‬فقال‭ ‬لها‭ ‬الرجل‭ ‬العطوف‭: ‬اعطيني‭ ‬القرد‭ ‬الذي‭ ‬تحملينه‭ ‬هذا‭ ‬وروحي‭ ‬اشتميه‭ ‬شتيمة‭ ‬الأراذل‭).‬

المهم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬العامل‭ ‬يحب‭ ‬الثرثرة،‭ ‬وأنه‭ ‬مجامل‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬البكش،‭ ‬وأنه‭ ‬يمدح‭ ‬أشياء‭ ‬الآخرين،‭ ‬وصادف‭ ‬أن‭ ‬قال‭ ‬إن‭ ‬فلاناً‭ ‬اشترى‭ ‬سيارة‭ ‬تشبه‭ ‬السيف،‭ ‬وكانت‭ ‬سيارة‭ ‬رياضية‭ ‬شكلها‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬شكل‭ ‬الضفدع،‭ ‬وبعد‭ ‬يومين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬سمعنا‭ ‬أن‭ ‬صاحب‭ ‬السيارة‭ ‬في‭ ‬المستشفى‭ ‬بعد‭ ‬حادث‭ ‬انقلبت‭ ‬فيه‭ ‬سيارته‭ ‬خمس‭ ‬مرات‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬رئيسي،‭ ‬وقليلون‭ ‬من‭ ‬قالوا‭ ‬إن‭ ‬المصاب‭ ‬جنى‭ ‬على‭ ‬نفسه‭ ‬لأنه‭ ‬كان‭ ‬معروفاً‭ ‬بقيادة‭ ‬السيارة‭ ‬بالطريقة‭ ‬الثعبانية‭ ‬بسرعات‭ ‬عالية،‭ ‬ولكن‭ ‬كثيرين‭ ‬ربطوا‭ ‬بين‭ ‬الحادث‭ ‬وما‭ ‬قاله‭ ‬عنها‭ ‬ذلك‭ ‬العامل،‭ ‬وذات‭ ‬يوم‭ ‬‮«‬سايست‮»‬‭ ‬الأخير،‭ ‬وبعد‭ ‬لف‭ ‬ودوران‭ ‬أصاب‭ ‬شفتي‭ ‬بالجفاف‭ ‬نصحته‭ ‬أن‭ ‬يكف‭ ‬عن‭ ‬التعليق‭ ‬وإبداء‭ ‬الملاحظات‭ ‬حول‭ ‬الآخرين‭ ‬وملابسهم‭ ‬وممتلكاتهم،‭ ‬كي‭ ‬لا‭ ‬‮«‬يتهموك‭ ‬بأنك‭ ‬صاحب‭ ‬عين‭ ‬حارة‮»‬،‭ ‬فكانت‭ ‬المفاجأة‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬أكد‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬عينه‭ ‬حارة‭ ‬بالفعل،‭ ‬ونصحني‭ ‬أن‭ ‬‮«‬أعمل‭ ‬حسابي‭!!‬‮»‬،‭ ‬هنا‭ ‬استنتجت‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬ربما‭ ‬روج‭ ‬لحكاية‭ ‬عينه‭ ‬الحارة‭ ‬لشيء‭ ‬في‭ ‬نفسه،‭ ‬فهناك‭ ‬أناس‭ ‬يعانون‭ ‬مما‭ ‬يسمى‭ ‬بالإنجليزية‭ ‬‮«‬أتينشن‭ ‬ديفيست‮»‬،‭ ‬attention‭ ‬deficit‭ ‬وترجمتها‭ ‬غير‭ ‬الدقيقة‭ ‬هي‭ ‬‮«‬قصور‭ ‬في‭ ‬الاهتمام‮»‬،‭ ‬ومعناها‭ ‬الدقيق‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬المصاب‭ ‬بهذا‭ ‬الاضطراب‭ ‬النفسي‭ ‬يفعل‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة،‭ ‬وربما‭ ‬يؤذي‭ ‬نفسه‭ ‬للفت‭ ‬انتباه‭ ‬الآخرين،‭ ‬بل‭ ‬معروف‭ ‬أن‭ ‬أمهات‭ ‬مصابات‭ ‬بذلك‭ ‬المرض‭ ‬يؤذين‭ ‬عيالهن،‭ ‬ويبلغون‭ ‬المستشفيات‭ ‬عن‭ ‬إصابتهم‭ ‬بأمراض‭ ‬من‭ ‬نسج‭ ‬خيالهن‭ ‬ليصبحن‭ ‬هنّ‭ ‬موضع‭ ‬انتباه‭ ‬الآخرين،‭ ‬وأكثر‭ ‬عينات‭ ‬من‭ ‬يعانون‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الخلل‭ ‬شيوعا‭ ‬هم‭ ‬أولئك‭ ‬الذين‭ ‬يتعمدون‭ ‬تعريض‭ ‬أنفسهم‭ ‬المرة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى‭ ‬للشتائم،‭ ‬فالمهم‭ ‬عندهم‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬يحظوا‭ ‬بالاهتمام‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬‮«‬سلبيا‮»‬‭.‬

المهم‭ ‬أنني‭ ‬عرفت‭ ‬لاحقاً‭ ‬أنه‭ ‬يبتز‭ ‬بعض‭ ‬زملاء‭ ‬العمل‭ ‬بأن‭ ‬يدخل‭ ‬على‭ ‬الواحد‭ ‬منهم‭ ‬ويطلب‭ ‬منه‭ ‬مالا‭ ‬أو‭ ‬خدمة‭ ‬معينة‭ ‬وهو‭ ‬‮«‬يُقلب‮»‬‭ ‬عينيه،‭ ‬فينال‭ ‬ما‭ ‬يريد‭ ‬لأن‭ ‬الكثيرين‭ ‬كانوا‭ ‬يحرصون‭ ‬على‭ ‬شراء‭ ‬رضاه‭! ‬وتحضرني‭ ‬هنا‭ ‬حكاية‭ ‬أم‭ ‬صبحي‭ ‬الأردنية‭ ‬التي‭ ‬نقلتها‭ ‬بعض‭ ‬الصحف،‭ ‬وأدهشني‭ ‬أنها‭ ‬سردت‭ ‬كيف‭ ‬أنها‭ ‬استخدمت‭ ‬‮«‬عينها‮»‬‭ ‬لتقطيع‭ ‬ملابس‭ ‬الآخرين،‭ ‬وكيف‭ ‬أن‭ ‬سيدة‭ ‬استأجرت‭ ‬عينها‭ ‬لإيذاء‭ ‬زوجة‭ ‬أخيها،‭ ‬فقامت‭ ‬بالمهمة‭ ‬خير‭ ‬قيام،‭ ‬فسقط‭ ‬جنين‭ ‬زوجة‭ ‬أخ‭ ‬تلك‭ ‬السيدة،‭ ‬وقالت‭ ‬أم‭ ‬صبحي‭ ‬إن‭ ‬زوجها‭ ‬يخاف‭ ‬منها‭ ‬ولا‭ ‬يرفض‭ ‬لها‭ ‬طلباً،‭ ‬وخاصة‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬غادرت‭ ‬البيت‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تشاجر‭ ‬معها‭ ‬فأصيب‭ ‬بعلة‭ ‬طارئة‭ ‬ألزمته‭ ‬المستشفى‭. ‬ويبدو‭ ‬أنها‭ ‬بلطجية‭ ‬تتسلح‭ ‬بمنطق‭: ‬أعطوني‭ ‬ما‭ ‬أريد‭ ‬أكف‭ ‬عنكم‭ ‬عينيّ‭.‬

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.